غرابة المحتوى مَطية المشاهير
الاحد / 21 / ذو القعدة / 1444 هـ - 22:43 - الاحد 11 يونيو 2023 22:43
لا يصنع المألوف العادي فرقا في عالم وسائل وتطبيقات التواصل الاجتماعي اليوم، ولم يصنع فرقا من قبل على أرض الواقع اليومي المعاش؛ لذلك يحرص الناس دائما وأبدا على ابتكار وتقديم المختلف والغريب سعيا وراء اقتناص الانتباه وتصنيع الدهشة، ثم يتمايز هذا المختلف الغريب في المحتوى الدالّ الفاعل سواء في العالم الواقعي أو العالم الافتراضي بين غريب مقبول مطلوب، وغريب مستهجن مرفوض وفقا لمعايير عامة قيميا وأخلاقيا وحتى فكريا.
قد يتأتّى هذا الغريب المُعْجِب مثلا في خبر أو مقطع يتناول تبرع إنسان بأحد أعضائه لغريب لا يعرفه بدافع التعاطف الإنساني، أو أن يتكفل آخر ماديا بأسرة أو بمجموعة من البسطاء الذين ضاقت عليهم سبل العيش رغم عدم ثرائه، ومنه كثير مما قد يبعث رسائل إيجابية ملأى بالمحبة والأمل والسعي لخير الفرد والأسرة والمجتمع، ورغم قلة ذلك إلا أنه موجود بفضل الله الذي جعل الخير في الإنسان دائما وأبدا.
لكن ما يستوجب حديث اليوم هو الغريب السلبي الذي صار مشاعا عبر وسائط أكثر من أن تحصى، بين حسابات شخصية لمراهقين ومراهقات وأخرى لحمقى وثالثة لمهرجين كلهم تحوّلوا بفضل تصنيع الغرابة إلى مشاهير مؤثرين في عالم التواصل الاجتماعي، ولو أن الأمر توقف هنا عند حصد جماهير المتابعين المليونية، وما يترتب على تلك الشهرة وتلك الجماهير لاكتفينا بالحسرة وحاولنا جاهدين تفكيك دوائر الجهل عن السقوط في شَرَكِ غرابة المحتوى والعمل على نشر الوعي بضرورة تفنيد ثم رفض ذلك المحتوى، أما ونحن نعيش حسرات متابعة بعض المؤسسات الحكومية والخاصة تقع طائعة في شرك (الغرابة- الشهرة) فحينها لا نملك إلا أن نقول: «اتسع الفتق على الراتق» إذ أن الأمر ببساطة يعكس قناعة هذه المؤسسات بأن الكم قبل الكيف، والكثرة قبل الجودة، ورغم ما قد يسرد من مبررات التسويق للخدمات والمنتج المتحقق فلا تبرير يمكنه تسويغ وصول المجتمعات لتطبيق مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» فلا يستغرب أحدنا حينها حين يجد ذلك المشهور الذي تجاوز كل أخلاقيات المجتمع في محتواه متصدرا أبرز الفعاليات الرسمية الاجتماعية أو الثقافية، حرصا فقط على مقطع قد يضعه في حسابه الذي يتابعه الملايين وفقا لمبدأ الاحتمالات في أن «لو مرّ هذا المقطع على مليون متابع من ملايينه فقد غنمنا متابعة لهذه الفعالية» لكن التساؤل العظيم هنا يدور حول من هي هذه الملايين؟ وهل صار الاحتفاء بالتفاهة منهجا بالكاد ينجو منه فرد أو تفلت منه مؤسسة؟!
أقول ذلك وأنا أقع صدفة على مُقدِّمة برامج على إحدى القنوات العربية المعروفة باختيارها كفاءات ضمن حرصها على سمعتها الإعلامية لعقود من الزمن، ثم تأتي الدهشة من وجود هذه المقدمة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال وصف محتواها بكلمة أفضل من «تفاهة» لكن اليقين أن هذا المحتوى التافه يتصدر قائمة «الأكثر مشاهدة»، فهل غيرت القناة منهجها القائم على المحتوى الجاد والطرح الموضوعي سعيا وراء تصنيع التفاهة وغرابة المحتوى وصولا لمشاهدات أكثر حتى مع ضآلة وشحّ بل وسوء الموضوع؟!، والخطر في ذلك أن صرنا نلاحظ تنافس بعض المذيعين ومقدمي البرامج التلفزيونية أو الإذاعية على تصنيع المقاطع القصيرة التي يظن بها إمكانية الشيوع والانتشار، وإن كان هذا المقطع القصير قد يكون مسيئا للشخص ذاته أو للمؤسسة التي يمثلها أو حتى لضيف قد يشاركه حوارا إعلاميا.
سئلت إحدى المشهورات من صنّاع الغرابة يوما عن عدد متابعيها الكبير في تأكيد على أن أغلبهم كارهين محتواها القائم على فكرتي التعرّي والرفض فردت بابتسامة منتصرة «لا يعنيني دافعهم للمتابعة إن كان حبا أو كراهية أو استهجان، ما يعنيني حقا هو أن تزيد أعدادهم لأحصل على مردود مادي» وبهذه الصراحة الصادمة يعمل موكب المشاهير مع تصنيع الغرابة وتسويق وترويج التفاهات، لكن على أي مذهب تسير مؤسسات لها سمعتها في اعتمادها مثل هؤلاء الجوف والحمقى لتسويق خدماتها والترويج لإنتاجها، أو في اعتمادها هؤلاء جسرا لتوسيع مساحة الوصول والانتشار؟!
ختاما؛ لا بد من وقفة مجتمعية جادة تعي خطورة هذا الهجمة الاستهلاكية، وهذا الواقع المستورد الهجين، والسعي لنقده ثم تفكيكه وتحجيمه مع التأكيد على ضرورة صنع بدائل إيجابية قادرة على البقاء، مستحقة للانتشار والتمكين قبل أن تنسحب كل هذه الفوضى غير الخلّاقة على واقع الناس في الحياة اليومية، والذائقة الثقافية، والتلقي الفني، بل وحتى المعيار القيمي سلوكيا وفكريّا.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
قد يتأتّى هذا الغريب المُعْجِب مثلا في خبر أو مقطع يتناول تبرع إنسان بأحد أعضائه لغريب لا يعرفه بدافع التعاطف الإنساني، أو أن يتكفل آخر ماديا بأسرة أو بمجموعة من البسطاء الذين ضاقت عليهم سبل العيش رغم عدم ثرائه، ومنه كثير مما قد يبعث رسائل إيجابية ملأى بالمحبة والأمل والسعي لخير الفرد والأسرة والمجتمع، ورغم قلة ذلك إلا أنه موجود بفضل الله الذي جعل الخير في الإنسان دائما وأبدا.
لكن ما يستوجب حديث اليوم هو الغريب السلبي الذي صار مشاعا عبر وسائط أكثر من أن تحصى، بين حسابات شخصية لمراهقين ومراهقات وأخرى لحمقى وثالثة لمهرجين كلهم تحوّلوا بفضل تصنيع الغرابة إلى مشاهير مؤثرين في عالم التواصل الاجتماعي، ولو أن الأمر توقف هنا عند حصد جماهير المتابعين المليونية، وما يترتب على تلك الشهرة وتلك الجماهير لاكتفينا بالحسرة وحاولنا جاهدين تفكيك دوائر الجهل عن السقوط في شَرَكِ غرابة المحتوى والعمل على نشر الوعي بضرورة تفنيد ثم رفض ذلك المحتوى، أما ونحن نعيش حسرات متابعة بعض المؤسسات الحكومية والخاصة تقع طائعة في شرك (الغرابة- الشهرة) فحينها لا نملك إلا أن نقول: «اتسع الفتق على الراتق» إذ أن الأمر ببساطة يعكس قناعة هذه المؤسسات بأن الكم قبل الكيف، والكثرة قبل الجودة، ورغم ما قد يسرد من مبررات التسويق للخدمات والمنتج المتحقق فلا تبرير يمكنه تسويغ وصول المجتمعات لتطبيق مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» فلا يستغرب أحدنا حينها حين يجد ذلك المشهور الذي تجاوز كل أخلاقيات المجتمع في محتواه متصدرا أبرز الفعاليات الرسمية الاجتماعية أو الثقافية، حرصا فقط على مقطع قد يضعه في حسابه الذي يتابعه الملايين وفقا لمبدأ الاحتمالات في أن «لو مرّ هذا المقطع على مليون متابع من ملايينه فقد غنمنا متابعة لهذه الفعالية» لكن التساؤل العظيم هنا يدور حول من هي هذه الملايين؟ وهل صار الاحتفاء بالتفاهة منهجا بالكاد ينجو منه فرد أو تفلت منه مؤسسة؟!
أقول ذلك وأنا أقع صدفة على مُقدِّمة برامج على إحدى القنوات العربية المعروفة باختيارها كفاءات ضمن حرصها على سمعتها الإعلامية لعقود من الزمن، ثم تأتي الدهشة من وجود هذه المقدمة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال وصف محتواها بكلمة أفضل من «تفاهة» لكن اليقين أن هذا المحتوى التافه يتصدر قائمة «الأكثر مشاهدة»، فهل غيرت القناة منهجها القائم على المحتوى الجاد والطرح الموضوعي سعيا وراء تصنيع التفاهة وغرابة المحتوى وصولا لمشاهدات أكثر حتى مع ضآلة وشحّ بل وسوء الموضوع؟!، والخطر في ذلك أن صرنا نلاحظ تنافس بعض المذيعين ومقدمي البرامج التلفزيونية أو الإذاعية على تصنيع المقاطع القصيرة التي يظن بها إمكانية الشيوع والانتشار، وإن كان هذا المقطع القصير قد يكون مسيئا للشخص ذاته أو للمؤسسة التي يمثلها أو حتى لضيف قد يشاركه حوارا إعلاميا.
سئلت إحدى المشهورات من صنّاع الغرابة يوما عن عدد متابعيها الكبير في تأكيد على أن أغلبهم كارهين محتواها القائم على فكرتي التعرّي والرفض فردت بابتسامة منتصرة «لا يعنيني دافعهم للمتابعة إن كان حبا أو كراهية أو استهجان، ما يعنيني حقا هو أن تزيد أعدادهم لأحصل على مردود مادي» وبهذه الصراحة الصادمة يعمل موكب المشاهير مع تصنيع الغرابة وتسويق وترويج التفاهات، لكن على أي مذهب تسير مؤسسات لها سمعتها في اعتمادها مثل هؤلاء الجوف والحمقى لتسويق خدماتها والترويج لإنتاجها، أو في اعتمادها هؤلاء جسرا لتوسيع مساحة الوصول والانتشار؟!
ختاما؛ لا بد من وقفة مجتمعية جادة تعي خطورة هذا الهجمة الاستهلاكية، وهذا الواقع المستورد الهجين، والسعي لنقده ثم تفكيكه وتحجيمه مع التأكيد على ضرورة صنع بدائل إيجابية قادرة على البقاء، مستحقة للانتشار والتمكين قبل أن تنسحب كل هذه الفوضى غير الخلّاقة على واقع الناس في الحياة اليومية، والذائقة الثقافية، والتلقي الفني، بل وحتى المعيار القيمي سلوكيا وفكريّا.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية