أعمدة

نوافذ: أكون مثاليًا عندما أكون على طبيعتي

 
«حان الوقت لتوديع كرة القدم، لكن ليس توديعكم، إنه صعبٌ للغاية». هكذا خاطب زلاتان إبراهيموفيتش جماهير ناديه «ميلان» الأسبوع الماضي معلنًا نهاية قصة كبيرة مع اللعب الاحترافي لكرة القدم استمرت قرابة ربع قرن. وإذا كان كثيرون يعتبرون اللاعب السويدي الشهير مغرورًا، ومتعاليًا، ومشاغبًا لزملائه اللاعبين، ومتمردًا على تعليمات مدربيه، وغيرها من الصفات المنفّرة، إلا أنه امتلك مع ذلك ميزة قلّما وُجِدتْ في أحد المشاهير: الحرص على أن تكون نفسك دائما دون رتوش.

لا أحد يستطيع نكران أن إبراهيموفيتش لاعب استثنائي قل نظيره في تاريخ كرة القدم؛ أن تتجاوز سن الأربعين وأنت محافظ على مستواك في اللعب ولياقتك البدنية وقدراتك التهديفية التي بدأتَها منذ أواخر القرن الماضي. أن يكون حافزك هو الشغف باللعبة أكثر من الشهرة والعقود والأموال الطائلة. أن تكون شخصيتك في الملعب قوية فتؤثر في زملائك بالفريق وتبث فيهم روحك المقاتِلة عندما يكون الفريق خاسرًا فتنقلب الخسارة إلى «ريمونتادا» عظيمة. أن تكون شُجاعًا داخل الملعب وخارجه، وألّا تفعل إلا ما أنت مؤمن به. أن تعترف بأخطائك وتتصالح معها. يقول «إبرا» (وهو الاسم الذي يحلو لمحبيه مناداته به) في أحد تصريحاته الصحفية المتأخرة: «إننا ما زلنا نرتكب الأخطاء، ولا يوجد شخص كامل. على المنصات الرقمية، يمكنك أن تضع صورة بعد تحسين بعشرين مرشحًا لكي تبدو مثاليًّا، لكن عندما أراك في الواقع فلن تكون مثاليًّا، وستبدو طبيعيا مثل أي شخص آخر. يتظاهر الناس بأنهم مثاليون، لكنني أقول: إنني أكون مثاليا عندما أكون على طبيعتي. هذا لا يعني أنني لا أرتكب أخطاء، لكنني أرتكب أخطاء وأتعلم منها».

في كتاب سيرته الذاتية «أنا زلاتان إبراهيموفيتش» لا يخجل اللاعب من الاعتراف أنه كان سارق دراجات في مراهقته، وأن أمه البوسنية كانت تخدم في المنازل، وأنها كانت قاسية وتتعامل مع أولادها بأسلوب جاف، بل إنها كانت تضربه حين تغضب على رأسه بملعقة الطعام الكبيرة، وأن أباه الكرواتي كان سكيرًا. وفي الكتاب أيضًا أدلة وقرائن لمن يتهم زلاتان بالغرور والعجرفة، فهو مثلًا لم يتأقلم مع نادي برشلونة الذي يعتبره حلم طفولته وأفضل نادٍ في العالم، لأن بيب جوارديولا - مدربه الشهير - وضع خطة اللعب معتمِدةً على ميسي: «أصبحتُ في الظل» يقول «إبرا»، ويضيف: «لأن ميسي خلفي مباشرة، وكل الكرات كانت تصله وتخرج منه، ولم أتمكن من اللعب بطريقتي». ولأنه لم يتمكن من اللعب بطريقته فقد توترت الأجواء بينه وبين المدرب، واضطر للمغادرة بعد فترة قصيرة، متّهما بيب أنه اشترى سيارة فيراري - أي إبراهيموفيتش- لكنه يستعملها كأنها سيارة فيات! وفي رأيي فقد تسرع بالخروج من برشلونة في تلك الفترة (من 2009 إلى 2011)، فكلنا نعلم اليوم أنها كانت أفضل نسخة من النادي الكتالوني على مدار تاريخه، حتى إنه كان يسمى «فريق الأحلام».

قد يحاجج البعض بأن «إبرا» لم يفز بالبطولات الأوروبية الكبيرة رغم الأندية الكثيرة التي تنقّل بينها (مالمو السويدي، وأياكس أمستردام الهولندي، ويوفنتوس الإيطالي، وإنتر ميلان الإيطالي، وبرشلونة الإسباني، وباريس سان جرمان الفرنسي، ومانشيستر يونايتد الإنجليزي، ولوس أنجلوس جالاكسي الأمريكي، وأخيرًا نادي أي سي ميلان الإيطالي)، كما أنه لم يفز بجائزة الكرة الذهبية، لكن الجوائز ليست هي تعريف المثالية أو الجودة، إذْ تحددها مؤثرات أخرى قد لا يكون للاعب نفسه ذنب في عدم توفرها، كقوة النادي الذي يلعب فيه، ووجود لاعبِين موهوبين يساعدونه على تحقيق الفوز، ومدرب كفء يجيد توظيف موهبته، وغيرها من المؤثرات. هو نفسه يقول في حواره مع لوموند الفرنسية سنة 2016م: «يتحدث الناس كثيرًا عن الكرة الذهبية ولقب دوري أبطال أوروبا، لكن الفوز بهما لا يغير اللاعب نحو الأفضل أو الأسوأ، هل الفوز بلقب أوروبا سيجعلني لاعبًا أفضل؟». الإجابة من وجهة نظري لا بالطبع، لكن لا أظن أن لاعبًا في العالم لم يحلم بهذين التتويجين، بمن في ذلك «إبرا» الذي أعزو عدم فوزه بأي من هاتين الجائزتين في أوروبا (الكرة الذهبية ودوري الأبطال) إلى أنه ببساطة كثير المشي في مناكبها، والتنقل بين الأندية، في حين أن كلتا الجائزتين تشترطان الاستقرار، فرأينا كيف أن كريستيانو رونالدو عندما كان مستقرًّا في ريال مدريد فاز بالكرة الذهبية 5 مرات، وحين خرج منه في عام 2017م لم يستطع الفوز بها مرة أخرى، أما ميسي فقد أحرز معظم الكرات الذهبية السبع وكل بطولات الأبطال مع برشلونة، وحين خرج منه إلى باريس سان جرمان لم يفز بالأبطال مرة أخرى.

يودع إبراهيموفيتش الملاعب إذن وهو الهداف التاريخي لمنتخب السويد، وفاز بالدوري في هولندا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا، لكن إنجازه الأكبر من وجهة نظري أنه ظل طوال مسيرته الكروية لاعبًا استثنائيًّا صنع لنفسه شخصية مستقلة لا تشبهها شخصية أي لاعب آخر في تاريخ كرة القدم، شخصيّة تلخصها عبارته الآنفة: «أكون مثاليًّا عندما أكون على طبيعتي».

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني