أفكار وآراء

عيون العالم على أوكرانيا

ترجمة أحمد شافعي

قبل تسعة وسبعين عاما بدأت قوات مظلات الحلفاء الهبوط خلف شواطئ نورماندي.

وقعت الحرب العالمية الثانية قبل زمان بعيد للغاية، لكنها لم تزل حية في ذاكرة أمريكا. وتبدو الذكرى السنوية، التي تحل يوم الثلاثاء، مثيرة للذكريات بصفة خاصة في عامنا هذا، إذ ننتظر المعادل المعنوي ليوم الانتصار أن يحل علينا في أي يوم تبدأ فيه أوكرانيا هجومها المضاد الذي طال انتظاره على الروس (ولعله بدأ بالفعل).

وإنني استعمل مصطلح (المعادل المعنوي) عن عمد. فقد كانت الحرب العالمية الثانية من الحروب القليلة التي كانت صراعا واضحا بين الخير والشر.

ولم يكن الأخيار على خير مطلق في كل الأحوال. إذ كان الأمريكيون لا يزالون محرومين من بعض الحقوق الأساسية وكانوا يتعرضون بين الحين والآخر للذبح بسبب لون البشرة. وكان البريطانيون لا يزالون يحكمون امبراطورية استعمارية شاسعة، وكان حكمهم في بعض الأحيان حكما وحشيا.

لكن لو أن كبرى الديمقراطيات ربما لم ترق في كثير من الأحيان إلى مبادئها العليا، فهذا لا ينفي أن ما كانت تتبناه إنما كان مبادئ سليمة، فقد كانت تناصر ـ مهما شاب مناصرتها ما شابها ـ الحرية ضد قوى الطغيان والتفوق العرقي والقتل الجماعي.

وفي حال انتصار أوكرانيا في هذه الحرب، فمن المؤكد أن بعض أنصارها في الخارج سوف يفيقون ويكتشفون الجانب المعتم في ذلك البلد. فقبل الحرب، كانت أوكرانيا تحتل مراكز متقدمة وفقا لمقاييس الفساد، وكان وضعها أفضل من روسيا، ولكن هذا لا ينفي عنها الفساد. والانتصار لن يقضي على الفساد.

وفي أوكرانيا حركة يمينية متطرفة، تضم مجموعات شبه عسكرية كان لها دور في الحرب. وقد عانى البلد معاناة كبيرة في ظل حكم ستالين، إذ مات ملايين في مجاعة ممنهجة، ونتيجة ذلك رحب بعض الأوكرانيين في أول الأمر بالألمان خلال الحرب العالمية الثانية (إلى أن أدركوا أنهم أيضا كانوا في نظر الألمان أدنى من البشر)، ولم تزل الرموز النازية واسعة الانتشار على نحو مثير للقلق.

ولكن شأن عيوب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، لا ينتج عن هذه الظلال أي نوع من التكافؤ بين طرفي هذه الحرب. فأوكرانيا فيها عيوبها ولكنها ديمقراطية حقيقية ترجو الانضمام إلى المجتمع الديمقراطي الأكبر. أما روسيا في ظل حكم بوتين فهي لاعب حقود يجب أن يرجو أصدقاء الحرية أينما يكونوا أن يمنى بهزيمة نكراء.

ليت بوسعي أن أقول إن مواطني البلاد الديمقراطية الغربية، ومواطني أمريكا على وجه الخصوص، ملتزمون التزاما تاما بإلحاق الهزيمة بالروس. ففي واقع الأمر أنه وإن كان أغلب الأمريكيين يؤيدون مساعدة أوكرانيا، فإن أقلية منهم فقط هم العازمون على إدامة هذه المساعدة مهما طالت دواعيها. ومهما تكن قيمة ما أقوله فإن الرأي العام الأمريكي في ما يتعلق بمساعدة أوكرانيا الآن يبدو شبيها شبها لافتا باستطلاعات الرأي في مطلع عام 1941 (أي قبل واقعة ميناء بيرل هاربر) حيال برنامج الإعارة والإيجار للمساعدة العسكرية لبريطانيا.

ماذا عن أولئك الذين يعارضون مساعدة أوكرانيا تماما؟

بعض هؤلاء الذين يعارضون المساعدة الغربية لا يرون المعادل الأخلاقي للحرب العالمية الثانية. وفي اليسار، بصفة خاصة، ثمة بعض الناس الذين ما زالوا يعيشون في عام 2003. فهم يتذكرون أن أمريكا سيقت إلى حرب قامت على دواع زائفة ـ وذلك للتوثيق، ما كنت أدركه وأجاهر بمعارضته في حينه ـ ولا يستطيعون أن يروا أن الوضع الحالي مختلف.

وفي اليمين، على النقيض، كثير ممن يعارضون مساعدة أوكرانيا ـ ولنسمهم فصيل تاكر كارلسن ـ وهم يفهمون تماما علام تدور هذه الحرب. ويقفون في صف الأشرار. فـ«الجناح البوتيني» في الحزب الجمهوري معجب منذ أمد بعيد بالنظام الاستبدادي الروسي وافتقاره إلى التسامح. وقبل الحرب، كان جمهوريون من أمثال السناتور تيد كروز يقارنون بين ما اعتبروه حزما روسيًّا وبين «ضعف» الجيش الأمريكي و«سياسات اليقظة» فيه، وهؤلاء تمثل لهم إخفاقات الجيش الروسي تهديدا لرؤيتهم للعالم، وسيعانون المذلة في حالة انتصار أوكرانيا.

المغزى هو أن الرهانات في أوكرانيا مرتفعة الآن ارتفاعا كبيرا. ففي حال نجاح هجمة أوكرانيا المضادة، سوف تقوى قوى الديمقراطية في شتى أرجاء العالم، وليس أقلها في أمريكا. وفي حال فشلها، لن يكون ذلك وبالا على أوكرانيا وحسب وإنما على العالم كله. وقد تنضب مساعدات الغرب لأوكرانيا، وقد يحقق بوتين أخيرا الانتصار الذي توقعه أغلب الناس في أول أيام الحرب، وتضعف الديمقراطية في كل مكان.

ما الذي سوف يحدث؟ حتى الخبراء العسكريون لا يعرفون، وليست لدي أنا أي أوهام بأنني خبير. لكن المسؤولين الغربيين يبدون إيجابيين بشكل متزايد حيال فرص أوكرانيا، مهما تكن قيمة ذلك. والمساعدات العسكرية ليست مثل الاقتصاد فيمكن القول إن الاحتياطي الفيدرالي يعمل انطلاقا من المعلومات المتاحة نفسها لكل من يعلمون كيف يتصفحون موقع سان لويس للأبحاث الاقتصادية التابع لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. إنما يقيم المسؤولون العسكريون المعلومات الاستخباراتية التي لا سبيل للجمهور إليها ولا يريدون أن يبدوا في النهاية حمقى، ومن ثم فتفاؤلهم قد لا يكون جعجعة جوفاء.

ومع ذلك، لستم بحاجة إلى أن تكونوا خبراء لتعرفوا أن مهاجمة دفاعات محصنة ـ وهو ما لا بد أن تفعله أوكرانيا ـ أمر في غاية الصعوبة.

في عشية يوم النصر، قال دوايت أيزنهاور للقوة الاستكشافية: إن «عيون العالم منصبة عليكم». والآن تنصب عيون العالم على قوات أوكرانيا المسلحة. فلنرجُ لها النجاح.