أعمدة

شغف القراءة «2»

 
عودا على بدء، أستأنف ما كنت قد بترته من حديث عن «شغف القراءة»، والنفخ في رماد كتب شكلت ذائقة أجيال من القراء ومثلت أرضية مهمة لبناء معرفي حفز أطفالا وكهولا وشبابا على تتبع الكتب والسعي خلفها، وهو أمر، لعمري، جليل، أن تعلق نفوس أطفال بكتب تتقصاها وتنتظر جديدها، وكنت قد ذكرت في مقال سابق بكتب الألغاز وما كان لها من أثر في تنشئة ناشئة ودفعها إلى حب الكتاب وعشق القراءة، وأشير اليوم إلى مرجعية كان لها عميق الأثر في جيلي وأجيال سابقة ولاحقة، وهي سلسلة «اللص الظريف» أرسين لوبين (Arsene lupin)، هذه الشخصية التي ابتكرها الكاتب الفرنسي موريس لوبلان Maurice leblanc (مولود سنة 1864)، التي شكلت مرجعية قيمية مهمة في الدفاع عن الظلم وإباء الضيم، وأسست لتصور عالم يمكن أن يعدل فيه ميزان الحق، فهو شخصية فكرة تأسست على هيئتها من بعد ذلك شخصيات شبيهة، منها «باتمان» و«سوبرمان» الغالبان في الأجيال الحالية. لذلك كنت دوما أقول إن من شخصيات بعض الأعمال الروائية والقصصية ما يمكن أن يخرج عن كونه الورقي وأن يؤسس لنموذج في الحياة. «أرسين لوبين»، هو من الشخصيات التي تأسست في عالم الرواية واتخذت سمات صارت ثابتة، النبل، الوجاهة، الشهامة، السعي إلى إحقاق الحق وإرجاع المسلوب إلى أصحابه، الأخذ من الأغنياء الذين يسرقون قوت الناس وتوزيع المأخوذ على المحتاجين، جملة من الصفات التي صارت مؤسسة لنماذج في قصص المغامرات شكلت طلائع لأنماط من الأدب تعد اليوم من الآداب الشعبية أو هي في درجة أدنى من «الأدب العالم»، كانت جزءا من الأرضية المعرفية الأولى التي شكلت شغفنا بالكتاب، ومثلت قيما قائمة على نصرة الفضيلة والنبوّ عن الرذيلة وعشق المغامرة، ظهر ذلك في عديد الأعمال التي ترجمت إلى العربية، وصرنا نلاحق جديدها، مثل «أرسين لوبين في السجن» و«أرسين لوبين في موسكو» و«أسنان النمر» و«التاج المفقود» و«الجاسوس الأعمى» و«الجريمة المستحيلة» وغيرها كثير. وبالموازاة مع قراءة كتب المغامرات وتتبع شخصياتها وملاحقة أحداثها، كانت هنالك كتب أخرى تنشر في طبعات شعبية رخيصة جدا، تمكنا آنذاك من تحصيلها، وصنعت قسما من آفاقنا القيمي، بكينا معها، ورقت قلوبنا لحالات إنسانية، أذكر من ذلك مجالين سادا في زمن طفولتنا، النموذج الأول هو مصطفى لطفي المنفلوطي الذي بالرغم من أسلوبه الإنشائي التقليدي إلا أن نثره بما يحمله من قيم وتأسيس لفضاء إنساني وأخلاقي كان مرغبا في متابعته، وأخص من ذلك كتابين لم ننس لليوم آثارهما في جيلنا وهما «العبرات» و«النظرات»، كتابان كان لهما عميق الأثر في تهذيب الأخلاق والاعتبار من الحياة، ومما كان يحفزنا على اللهث وراء هذه النماذج من الكتب هو وجود نصوص منها في كتبنا المدرسية في المرحلة الابتدائية، وفي المرحلة الإعدادية، وقد صرنا ننتقي من هذه الكتب أقوالا نتمثل بها أو نزين بها ما نكتب من تجارب في الشعر أو النثر، وقد كان أسلوب المنفلوطي على بلاغته ومتانته قريبا من أهوائنا، ويمكن أن أمثل على الأسلوب الوعظي التعليمي الواضح بقولين له، الأول من كتاب «العبرات»، يقول فيه: «إن الله قد خلق لكل روح من الأرواح روحا أخرى تماثلها وتقابلها، وتسعد بلقائها، وتشقى بفراقها، ولكنه قدر أن تضل كل روح عن أختها في الحياة الأولى، فذلك شقاء الدنيا، وأن تهتدي إليها في الحياة الثانية، فتلك سعادة الآخرة»، وهو قول شبيه بما ورد في كتاب سنطلع عليه لاحقا من ضمن الكتب التي ساهمت في صناعة ذائقتنا الأدبية ودفعتنا إلى حب الكتاب، وهو كتاب ابن حزم الأندلسي «طوق الحمامة» من اعتباره النفوس أُكرًا قد انشطرت، تلتقي في العالم الآخر. والثاني من كتاب «النظرات» يقول فيه: «ليست الفضيلة وسيلة من وسائل العيش أو كسب المال وإنما هي حالة من حالات النفس تسمو بها إلى أرقى درجات الإنسانية وتبلغ بها غاية الكمال». تلك إذن صورة ثانية عن كاتب تميز بخصلتين، البناء المعرفي اللغوي، فنصوصه كانت تتميز بلغة سلسة قوية إنشاء وتركيبا وتصويرا، والبناء النفسي والفكري لقارئ ما زال يحبو خطواته الأولى في إدراك معنى الحياة، تتقاذفه أهواء شتى.

أما النموذج الثاني والأخير فهو التيار الرومنسي وعلى رأسه جبران خليل جبران، أتذكر لحد اليوم نصوصا ما زالت محفورة في ذاكرتي، ومن بقي معي من الصحب الذين عاشوا تلك المرحلة، أهم نص رافقنا منذ المرحلة الابتدائية هو قصيدة لمعروف الرصافي، وإن لم يكن داخلا في هذا التيار، غير أنه مشارك ببعض قصائده في التعبير عن الشعور الإنساني العميق، هذا النص هو قصيدة «الأرملة المرضعة» الذي يمثل قصة شعرية اهتزت لها طفولتنا التي عُبّئت بالأسى والحزن لا بالفرح والابتهاج، يقول فيها الشاعر: «لقيتها ليتني ما كنت ألقاها/ تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها/ أثوابها رثة والرجل حافية/ والدمع تذرفه في الخد عيناها/ بكت من الفقر فاحمرت مدامعها/ واصفر كالورس من جوع محياها/ مات الذي كان يحميها ويسعدها/ فالدهر من بعده بالفقر أشقاها/ الموت أفجعها والفقر أوجعها/ والهم أنحلها والغم أضناها». ومن هذه النصوص التي تجلت لنا وأخذت من عواطفنا ومهجنا ومشاعرنا نصوص جبران، انطلاقا من ذاك النص الكوني الجميل «بائعة الكبريت»، ومنه تفتحنا على «دمعة وابتسامة» و«الأجنحة المتكسرة» و«البدائع والطرائف» و«العواصف»، قبل أن نتعمق في فكر جبران وأن نقرأ «النبي» و«حديقة النبي»، وقبل أن نكتشف الرائع ميخائيل نعيمة في «كتاب مرداد» و«اليوم الأخير». لقد مثل جبران خليل جبران مدرسة للعواطف اللينة الموجودة في كل الشباب، وصوتا موازيا لصوت «المغامرة» كما تجلت في الكتب البوليسية، فكان المصدران، النفسي والعقلي، الجامح والملطف عاملين في تشكيل ذائقة محبة للكتاب، ومنه بعد ذلك كان انفتاحنا على مجمل التيار الرومنسي الهادئ، وكانت النصوص الموجودة في كتاب اللغة العربية تمثل أفضل حافز على هذا الانفتاح إضافة إلى وجود أساتذة لهم من القدرة اللغوية والذائقة القرائية ما يجعلنا نتخذهم قدوة، ولذلك كنت دوما ما أقول إن تدريس اللغة العربية في مدارسنا سيظل فاشلا وبدون معنى، ما لم يحبب الأستاذ طلبته في هذه النصوص، وذلك أولا بانتقائها بشكل مرغب، وثانيا بتدريسها بالشكل نفسه، وهو ما لا يتوفر في أغلب مدارسنا وجامعاتنا.