الرمز T و12 ألف عام
الاثنين / 8 / ذو القعدة / 1444 هـ - 11:23 - الاثنين 29 مايو 2023 11:23
الرموز هي تلك الأشكال الجامدة في الواقع، المُتحركة في أذهان البشر، جاءتنا من زمن غابر، أطلقت أولى شرارات الوعي الإنساني، مُشكلة تكدسا معرفيا لحضارات متعاقبة عبر أزمان مختلفة. ليخلّد الإنسان فيها من طبائع الأشياء التي فهمها وتفاعل معها وآمن بها، معبرا عن مشاعر ومعتقدات وانفعالات وآمال مكنونة في جوهر روحه. وجدنا ناحتها الأول يتفنن في رَقْشِها على الصخور الصلدة والألواح الطينية والرقاع الجلدية. لا يعلم بارئ تلك الرموز بأن يديه قد أخذتنا نحو منحنى مهم في تاريخ البشرية. تاركا لنا جمّا وفيرا منها، لا يزال بعضه ينبض ويسري في حياتنا لفائدة ما تنفع الناس.
كان للرمز في الحضارات القديمة دور بارز وأثر كبير في بلورة الأفكار والمعتقدات الدينية والاجتماعية. ولو تمعنا في أصل نشأة هذه الرموز نجدها تتفرع إلى نموذجين رئيسيين: الأول.. الرموز الدينية، والتي تشكل الجانب الأكبر من العالم القديم، ومن أمثلتها: رمز الثعبان، ورمز الإله آب، ورمز القرابين. الثاني.. الرموز الاقتصادية؛ وهي تعبر عن الجانب المعيشي في حياة الإنسان القديم، ومثالها: رمز السفينة، ورمز النخيل، ورمز الصيد. هذان النموذجان انبثق منهما فرع جديد مركب من الرموز الدينية والرموز الاقتصادية، أطلق عليه «الرموز المركبة»، وهي بمثابة اللغة الحضارية الأولى لدى البشرية.
حتى نفهم أصل نشأة الرموز الحضارية لحظة تدوينها؛ علينا تفكيك التراكيب الرمزية إلى أجزاء رمزية مفردة، ونبدأ في البحث عن أصل كل رمز على حدة، محاولين الوصول إلى المعنى الأول للرمز، من خلال تتبع المسار الزمني له، عبر قياس مدى التأثير الذي يحدثه عند المجموعات البشرية، وفهم أسباب التشابه والاختلاف لمعنى الرمز عند الحضارات القديمة، وما مدى التطور الذي وصل إليه، وهل تشابهه في بقع مختلفة من العالم القديم يعني عودته إلى أصل مشترك من حيث المعنى؟
المقدمة السابقة مدخل لفهم رمز هذه المقالة. الرمز الذي كثُر تأويله وتشعبت معانيه باتساع انتشاره حول العالم القديم، محاولا تقريب القارئ إلى فهمه، قد يخرج بتساؤلات منطقية، يتمكن من خلالها رؤية الامتداد الحضاري الذي وفد لنا عبر آلاف السنوات.
في مطلع ستينات القرن الميلادي الماضي، كُتب للبشرية بأن يتغير مفهومها حول نشأة الحضارة بيد فلاح تركي، هم في الصباح الباكر بمعوله ليحرث أرضه في عمل دؤوب كما اعتاد كل يوم، لكن هذه المرة كانت ضربة معوله قفزت به إلى الوراء حوالي 12 ألف عام، عندما عثر تحتها على قطعة أثرية، أدهشت العلماء والآثاريين.
(لتبدأ بعد ذلك، عام 1963م، رحلة التنقيب من باحثين أتراك من جامعة إسطنبول وأمريكا من جامعة شيكاغو، لتتوالى المفاجآت واكتشافات الآثار، وأهمها ما اكتشف في عام 1995م في منطقة غوبكلي تبه، وهي المسلات الحجرية، وعلى شكل حرف T، بطول 6 أمتار ووزن 60 طنا، وتعود للعصر الحجري الحديث) ـــ عدنان عبدالرزاق؛ مجلة العربي الجديد ــ. الموقع المكتشف يجسد معبدا بيضاوي الشكل، تعود أقدم بقاياه إلى 12 ألف عام. المعبد حيّر علماء الحضارات كثيرا، وأعاد ترتيب الكثير من أفكارهم حول أصل الحضارة. إن من المعروف لدى المتخصصين في علم الحضارة بأن الزراعة كانت المنطلق الأول لتمدن الإنسان، ومن خلالها شيد المدن واستقر حولها، بيد أنه بعد الكشف عن هذه الكنوز في غوبكلي تبه وأهمها المسلات الضخمة التي يحصى عددها بمائتي مسلة، كلها نحتت على شكل T، جعلتنا ننظر إلى الحضارة نظرة مختلفة. فالآثار الموجودة في ذلك الموقع تعود إلى زمن الإنسان المترحل وجامع الثمار؛ أي قبل أربعة آلاف عام من التدجين الحيواني والإنتاج الزراعي واختراع العجلة. وهنا السؤال: هل مولد المعابد جعل الإنسان يترك حياة الترحل من أجل البقاء بجانب معبده، ثم ولدت المدن حول المعابد تدريجيا بمرور الزمن، أم أن من الزراعة بدأت نواة التمدن، كما هو معروف في الوسط العلمي الحضاري؟
الرمز T ينتمي إلى الأشكال الرمزية المجردة، وهو ما أكسبه الغموض في المعنى، فأغلب الرموز الحضارية أكانت دينية أم اقتصادية؛ هي إما أنها رموز آدمية أو حيوانية أو خليط بينهما. ومن المعروف في الوسط العلمي الحضاري بأن الرموز المجردة (غير الصورية) لا تأخذ حقها الوافي في البحث والتحليل، وهنا أعذر المشتغل بها، بكون هذه الرموز يصعب تفسيرها المباشر كما يكثر تأويلها، وقد يصل بالبعض منهم إلى وضع نقطة على السطر بالقطع في معناها.
ما هي رقعة انتشار الرمز T؟ نجده موجودا في أغلب مستوطنات العالم القديم، فمثلا في إقليم عُمان يوجد في مناطق جبال الحجر الشمالية والغربية محفورا على الصخور. وخلال رحلتنا التوثيقية في مدينة كَدم وما حولها كتنوف بنزوى وبلاد سيت ببهلا وجبل السروج بمنح، وقفت على ذات الرمز. وهذا الانتشار والتكرار الواسع جعلني أبحر كثيرا فيه، باحثا عن معنى هذا الغموض. كذلك عثر المختصون في السعودية واليمن على ذات الرمز في مواقع مختلفة، لفتت نظر الباحثين. ويقترح أناتي في دراسة للفن الصخري في المملكة العربية السعودية، (بأن هذا يمكن أن يمثل خنجرا أو سلاحا، ويدعّم اقتراحه بمقارنته مع أمثله من الأناضول «ألجا هيوك»، ووادي الرافدين «أور» وسوريا. ويضيف أناتي تاريخا يعود إلى منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد لاستعمال الخنجر. ربط كل من جوري زارين وليني نيوتن هذا الشكل بخناجر تم نقشها على مِسَلة بشرية الشكل «كتلة صخرية منحوتة» توجد في العديد من المناطق، ابتداءً من معظم الجزء الغربي لأوروبا، عبر أواسط أوروبا والبلقان وإقليم بونتو، إلى الأناضول، والجزء الشمالي والجنوبي من شبه الجزيرة العربية، على وجه التحديد خلال الألفيتين الثالثة والثانية قبل الميلاد). ومن تأويلات رمز T التي يقدمها الباحث جاك (بأن الرمز قد يعني شجرة نخيل أو فأس قتال أو طائرا). ويذهب بعض المهتمين العرب بعلم الحضارات بأن الرمز T والمنتشر على الصخور، يدل على وجود قبر تحته، أو قريب منه، لذلك يعرفونه «بالرمز الجنائزي».
أجدني أختلف مع الفرضيات السابقة التي وضعها العلماء عن معنى هذا الرمز، فكيف يسقطون هذه المعاني الملموسة في الواقع على رمز مجرد غير صوري؟! فلو عدنا إلى الاكتشافات الآثارية الرمزية التي عثر عليها العلماء في بقاع شتى من العالم، نجد بأن الإنسان القديم كان قليل التجريد في نقش الأشياء التي حوله. وبكوني قد أكملت أربع سنوات في مشروع البحث الحضاري أجد النقوش الحيوانية والآدمية والنباتية تُنقش وبدقة عالية من قبل ناحتها بهدف إيصال معنى ما ينحت بكل بساطة. فهنا السؤال: لماذا يحاول العلماء إلصاق هذا الرمز المجرد أو غير الصوري بمعانٍ رمزية صورية مصورة؟
إذا ماذا يعني الرمز T ؟ قد لا نصل إلى المعنى الدقيق الذي يحمله، ولكن من الممكن وضع خارطة زمنية له تسهّل علينا الوصول إلى بناء فرضية متكاملة، قد تبعدنا عن المعاني المرتبطة بالجغرافية التي عثر فيها الرمز. وبحسب رأيي؛ أن البُعد الجغرافي هو الأكثر تأثيرا على تفسير الباحثين، فعندما يعثر المختصون في علم الآثار على الرمز في أوروبا يأولونه بمعنى الفأس، وهو متناسب مع طبيعة وجغرافية الإنسان الأوروبي في تلك العصور، وعندما يُعثر عليه في جزيرة العرب يأولونه بالنخلة، وهكذا في المناطق الأخرى. لذا من المهم وضع خارطة زمنية حتى يتضح المسار الذي سلكه الرمز، بداية؛ منذ 12 ألف عام، حيث عثر المختصون على مسلات ضخمة على شكل T في غوبكلي تبه، مرورا؛ بالمواقع المختلفة في العالم؛ التي نقش عليها ذات الرمز، والتي حصرتها بين الألفية 8-2ق.م، انتهاء؛ بحقبة ظهور الديانة النصرانية.
والذي أذهب إليه في معنى الرمز T ؛ هو أنه رمز ديني يعود إلى ديانة قديمة، كان موطنها الأول في الشرق الأوسط، وقد يكون بيتها المقدس الذي يحج إليه الناس في مدينة غوبكلي تبه. أما الرموز المتناثرة في بقاع مختلفة فهي تدل على أتباع هذه الديانة، فالرمز T الذي يعثر عليه بعض الباحثين على سطح القبور ليس لدلالة جنائزية، وإنما الميت ينتمي إلى هذه الديانة. وحتى التي نجدها على الصخور ما هي إلا تأكيد من المتعبد بأنه انتسب لها. وهي ديانة لا أعلم ما طريقة طقوسهم الدينية حتى الآن، ولكن يمكن القول بأن شعارهم الديني متجسد على شكل T. بطبيعة الحال؛ فالحياة قائمة على التطور والتدافع، فذات الرمز أخذ أتباعه في تطويره من حيث الشكل والمعنى، ولعل أتباع الديانة النصرانية قد تبنوه مع بعض الإضافات حتى يتناسب مع معتقد ديانتهم. بشكل عام؛ يهمني معنى الرمز، ولكن لن أضيف تأويلا على تأويل المختصين، وإنما الأهم هو معرفة ما جعل تأثير هذا الرمز في الواقع ملحوظا كثيرا، وهو وجود ديانة قديمة اتخذت هذا الرمز شعارا لها، انتشرت كثيرا في المنطقة وعمّرت طويلا ثم بادت، حتى اختفت معتقداتها وطقوسها، ليبقى رمزها T عبرة على ولادة المعتقدات وتطورها ثم اندثارها.
كان للرمز في الحضارات القديمة دور بارز وأثر كبير في بلورة الأفكار والمعتقدات الدينية والاجتماعية. ولو تمعنا في أصل نشأة هذه الرموز نجدها تتفرع إلى نموذجين رئيسيين: الأول.. الرموز الدينية، والتي تشكل الجانب الأكبر من العالم القديم، ومن أمثلتها: رمز الثعبان، ورمز الإله آب، ورمز القرابين. الثاني.. الرموز الاقتصادية؛ وهي تعبر عن الجانب المعيشي في حياة الإنسان القديم، ومثالها: رمز السفينة، ورمز النخيل، ورمز الصيد. هذان النموذجان انبثق منهما فرع جديد مركب من الرموز الدينية والرموز الاقتصادية، أطلق عليه «الرموز المركبة»، وهي بمثابة اللغة الحضارية الأولى لدى البشرية.
حتى نفهم أصل نشأة الرموز الحضارية لحظة تدوينها؛ علينا تفكيك التراكيب الرمزية إلى أجزاء رمزية مفردة، ونبدأ في البحث عن أصل كل رمز على حدة، محاولين الوصول إلى المعنى الأول للرمز، من خلال تتبع المسار الزمني له، عبر قياس مدى التأثير الذي يحدثه عند المجموعات البشرية، وفهم أسباب التشابه والاختلاف لمعنى الرمز عند الحضارات القديمة، وما مدى التطور الذي وصل إليه، وهل تشابهه في بقع مختلفة من العالم القديم يعني عودته إلى أصل مشترك من حيث المعنى؟
المقدمة السابقة مدخل لفهم رمز هذه المقالة. الرمز الذي كثُر تأويله وتشعبت معانيه باتساع انتشاره حول العالم القديم، محاولا تقريب القارئ إلى فهمه، قد يخرج بتساؤلات منطقية، يتمكن من خلالها رؤية الامتداد الحضاري الذي وفد لنا عبر آلاف السنوات.
في مطلع ستينات القرن الميلادي الماضي، كُتب للبشرية بأن يتغير مفهومها حول نشأة الحضارة بيد فلاح تركي، هم في الصباح الباكر بمعوله ليحرث أرضه في عمل دؤوب كما اعتاد كل يوم، لكن هذه المرة كانت ضربة معوله قفزت به إلى الوراء حوالي 12 ألف عام، عندما عثر تحتها على قطعة أثرية، أدهشت العلماء والآثاريين.
(لتبدأ بعد ذلك، عام 1963م، رحلة التنقيب من باحثين أتراك من جامعة إسطنبول وأمريكا من جامعة شيكاغو، لتتوالى المفاجآت واكتشافات الآثار، وأهمها ما اكتشف في عام 1995م في منطقة غوبكلي تبه، وهي المسلات الحجرية، وعلى شكل حرف T، بطول 6 أمتار ووزن 60 طنا، وتعود للعصر الحجري الحديث) ـــ عدنان عبدالرزاق؛ مجلة العربي الجديد ــ. الموقع المكتشف يجسد معبدا بيضاوي الشكل، تعود أقدم بقاياه إلى 12 ألف عام. المعبد حيّر علماء الحضارات كثيرا، وأعاد ترتيب الكثير من أفكارهم حول أصل الحضارة. إن من المعروف لدى المتخصصين في علم الحضارة بأن الزراعة كانت المنطلق الأول لتمدن الإنسان، ومن خلالها شيد المدن واستقر حولها، بيد أنه بعد الكشف عن هذه الكنوز في غوبكلي تبه وأهمها المسلات الضخمة التي يحصى عددها بمائتي مسلة، كلها نحتت على شكل T، جعلتنا ننظر إلى الحضارة نظرة مختلفة. فالآثار الموجودة في ذلك الموقع تعود إلى زمن الإنسان المترحل وجامع الثمار؛ أي قبل أربعة آلاف عام من التدجين الحيواني والإنتاج الزراعي واختراع العجلة. وهنا السؤال: هل مولد المعابد جعل الإنسان يترك حياة الترحل من أجل البقاء بجانب معبده، ثم ولدت المدن حول المعابد تدريجيا بمرور الزمن، أم أن من الزراعة بدأت نواة التمدن، كما هو معروف في الوسط العلمي الحضاري؟
الرمز T ينتمي إلى الأشكال الرمزية المجردة، وهو ما أكسبه الغموض في المعنى، فأغلب الرموز الحضارية أكانت دينية أم اقتصادية؛ هي إما أنها رموز آدمية أو حيوانية أو خليط بينهما. ومن المعروف في الوسط العلمي الحضاري بأن الرموز المجردة (غير الصورية) لا تأخذ حقها الوافي في البحث والتحليل، وهنا أعذر المشتغل بها، بكون هذه الرموز يصعب تفسيرها المباشر كما يكثر تأويلها، وقد يصل بالبعض منهم إلى وضع نقطة على السطر بالقطع في معناها.
ما هي رقعة انتشار الرمز T؟ نجده موجودا في أغلب مستوطنات العالم القديم، فمثلا في إقليم عُمان يوجد في مناطق جبال الحجر الشمالية والغربية محفورا على الصخور. وخلال رحلتنا التوثيقية في مدينة كَدم وما حولها كتنوف بنزوى وبلاد سيت ببهلا وجبل السروج بمنح، وقفت على ذات الرمز. وهذا الانتشار والتكرار الواسع جعلني أبحر كثيرا فيه، باحثا عن معنى هذا الغموض. كذلك عثر المختصون في السعودية واليمن على ذات الرمز في مواقع مختلفة، لفتت نظر الباحثين. ويقترح أناتي في دراسة للفن الصخري في المملكة العربية السعودية، (بأن هذا يمكن أن يمثل خنجرا أو سلاحا، ويدعّم اقتراحه بمقارنته مع أمثله من الأناضول «ألجا هيوك»، ووادي الرافدين «أور» وسوريا. ويضيف أناتي تاريخا يعود إلى منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد لاستعمال الخنجر. ربط كل من جوري زارين وليني نيوتن هذا الشكل بخناجر تم نقشها على مِسَلة بشرية الشكل «كتلة صخرية منحوتة» توجد في العديد من المناطق، ابتداءً من معظم الجزء الغربي لأوروبا، عبر أواسط أوروبا والبلقان وإقليم بونتو، إلى الأناضول، والجزء الشمالي والجنوبي من شبه الجزيرة العربية، على وجه التحديد خلال الألفيتين الثالثة والثانية قبل الميلاد). ومن تأويلات رمز T التي يقدمها الباحث جاك (بأن الرمز قد يعني شجرة نخيل أو فأس قتال أو طائرا). ويذهب بعض المهتمين العرب بعلم الحضارات بأن الرمز T والمنتشر على الصخور، يدل على وجود قبر تحته، أو قريب منه، لذلك يعرفونه «بالرمز الجنائزي».
أجدني أختلف مع الفرضيات السابقة التي وضعها العلماء عن معنى هذا الرمز، فكيف يسقطون هذه المعاني الملموسة في الواقع على رمز مجرد غير صوري؟! فلو عدنا إلى الاكتشافات الآثارية الرمزية التي عثر عليها العلماء في بقاع شتى من العالم، نجد بأن الإنسان القديم كان قليل التجريد في نقش الأشياء التي حوله. وبكوني قد أكملت أربع سنوات في مشروع البحث الحضاري أجد النقوش الحيوانية والآدمية والنباتية تُنقش وبدقة عالية من قبل ناحتها بهدف إيصال معنى ما ينحت بكل بساطة. فهنا السؤال: لماذا يحاول العلماء إلصاق هذا الرمز المجرد أو غير الصوري بمعانٍ رمزية صورية مصورة؟
إذا ماذا يعني الرمز T ؟ قد لا نصل إلى المعنى الدقيق الذي يحمله، ولكن من الممكن وضع خارطة زمنية له تسهّل علينا الوصول إلى بناء فرضية متكاملة، قد تبعدنا عن المعاني المرتبطة بالجغرافية التي عثر فيها الرمز. وبحسب رأيي؛ أن البُعد الجغرافي هو الأكثر تأثيرا على تفسير الباحثين، فعندما يعثر المختصون في علم الآثار على الرمز في أوروبا يأولونه بمعنى الفأس، وهو متناسب مع طبيعة وجغرافية الإنسان الأوروبي في تلك العصور، وعندما يُعثر عليه في جزيرة العرب يأولونه بالنخلة، وهكذا في المناطق الأخرى. لذا من المهم وضع خارطة زمنية حتى يتضح المسار الذي سلكه الرمز، بداية؛ منذ 12 ألف عام، حيث عثر المختصون على مسلات ضخمة على شكل T في غوبكلي تبه، مرورا؛ بالمواقع المختلفة في العالم؛ التي نقش عليها ذات الرمز، والتي حصرتها بين الألفية 8-2ق.م، انتهاء؛ بحقبة ظهور الديانة النصرانية.
والذي أذهب إليه في معنى الرمز T ؛ هو أنه رمز ديني يعود إلى ديانة قديمة، كان موطنها الأول في الشرق الأوسط، وقد يكون بيتها المقدس الذي يحج إليه الناس في مدينة غوبكلي تبه. أما الرموز المتناثرة في بقاع مختلفة فهي تدل على أتباع هذه الديانة، فالرمز T الذي يعثر عليه بعض الباحثين على سطح القبور ليس لدلالة جنائزية، وإنما الميت ينتمي إلى هذه الديانة. وحتى التي نجدها على الصخور ما هي إلا تأكيد من المتعبد بأنه انتسب لها. وهي ديانة لا أعلم ما طريقة طقوسهم الدينية حتى الآن، ولكن يمكن القول بأن شعارهم الديني متجسد على شكل T. بطبيعة الحال؛ فالحياة قائمة على التطور والتدافع، فذات الرمز أخذ أتباعه في تطويره من حيث الشكل والمعنى، ولعل أتباع الديانة النصرانية قد تبنوه مع بعض الإضافات حتى يتناسب مع معتقد ديانتهم. بشكل عام؛ يهمني معنى الرمز، ولكن لن أضيف تأويلا على تأويل المختصين، وإنما الأهم هو معرفة ما جعل تأثير هذا الرمز في الواقع ملحوظا كثيرا، وهو وجود ديانة قديمة اتخذت هذا الرمز شعارا لها، انتشرت كثيرا في المنطقة وعمّرت طويلا ثم بادت، حتى اختفت معتقداتها وطقوسها، ليبقى رمزها T عبرة على ولادة المعتقدات وتطورها ثم اندثارها.