أعمدة

ليس لعبا فحسب

 
حتى في تاريخ اللعب والألعاب سنلاحظ حضورا رمزيا للكثير من مبادئ الحرب والسُلطة؛ فالهجوم والدفاع والمراوغة والكرُّ والفرُّ والانتشار وإعادة التموضع كلها تُمثل جزءا طبيعيا من قوانين معظم الألعاب الفردية والجماعية؛ الأمر الذي قد يقودنا لتفسير الكثير من الألعاب من منظور عسكري وسياسي، وهذا ما نلاحظه ربما في برامج التحليل الرياضي التي تُعقَد على غرار البرامج السياسية المشغولة بتحليل الحروب على فضائيات التلفزيون. وبالطريقة نفسها نجد أنه من الممكن (بل من الممتع أحيانا) أن نراقب الحرب والأحداث السياسية كمباراة مفتوحة لأشكال لا نهائية من اللعب!

ثمة مبدأ أساسي تتقاطع فيه اللعبة مع الحرب منذ قديم الزمان؛ إنه مبدأ الغالب والمغلوب الذي يغذي روح المنافسة فينعكس تلقائيا على أداء اللاعبين كجنود يشتبكون على أرضية الميدان ليقدموا للمتفرجين محاكاةً مُقننة للصراعات الكبرى بين الدول، أو مسرحا لـ«حرب شريفة» بلغة معلقي كرة القدم التي تمثل اليوم واحدة من أشهر الألعاب في التاريخ وأكثرها تمثيلا للنظريات والخطط العسكرية في الحرب. هذا ما توحي به قبل كل شيء التشكيلة التي يدخل بها أيُّ فريق كرة قدم إلى المستطيل الأخضر؛ فالحساسية الخاصة التي يمثلها مركز كل لاعب في التشكيلة تشبه إلى حد بعيد طريقة الانتشار العسكري على أرض المعركة. وبالطبع فإن المعلقين الرياضيين هم أكثر من يدركون هذه المحاكاة ويقدمونها في تعبيراتهم اللغوية التي لا تخلو عادة من الإسقاط السياسي، وبصورة غير بريئة في الكثير من الأحيان، وذلك من أجل ضخ المزيد من الإثارة والندية في عروق عشاق اللعبة. كما أن قراءة سريعة في التاريخ السياسي لكرة القدم ستقدم لنا الكثير من الشواهد على الأزمات السياسية والأمنية التي خرجت من الملاعب، هذا فضلا عن توظيف المناسبات الكروية في بث رسائل سياسية أو عنصرية. في المقابل فإن للعب عموما، ولكرة القدم خصوصا، أثرها الإيجابي في ترميم ما أفسده السياسيون من العلاقات الدبلوماسية بين البلدان، ويكفي أن نرجع قليلا لآخر أعظم الأحداث الرياضية، كأس العالم في قطر 2022، المناسبة التي قدمت للعالم الشهادة البليغة عن قدرة كرة القدم في حشد الناس وتأليفهم.

لكن الاستعارة الحربية والسياسية لا تقتصر على الألعاب الرياضية التي تتطلب نوعا من الندية الجسمانية والنضال البدني كما هو الحال مع كرة القدم، ولا تتوقف عند صناعة ألعاب الفيديو الحربية التي تعتمد هواية الحرب صراحة كمادة للعب، بل يمكننا أن نرى تمثلات تلك الاستعارة السياسية واضحة وصريحة أيضا في لعبة ذهنية كالشطرنج.

منذ عامين تقريبا وجدتني ألعب الشطرنج على تطبيق إلكتروني بعد انقطاع الطويل عن أي ممارسة يومية لأي شكل من أشكال اللعب التقليدية طيلة سنوات ما بعد المدرسة. وفي الوقت الذي كنت فيه أستعين بالشطرنج لتبديد توتري الخارجي بتطوير توتر جانبي مختزل في حدود اللعبة، ظلت فكرة اللعب نفسها تستدرجني للعودة إلى جهات معينة من طفولتي كان اللعب محور كل شيء فيها. هكذا بدأت استعادة الرغبة في اللعب تدريجيا، لتنشط معها عادات وغرائز بدائية كالرغبة في الانتصار والانتقام وسحق الخصوم والانتشاء بأكبر جرعة معنوية من طاقة الفوز التي تضخها الانتصارات العبثية الصغيرة تعويضا عن هزائم وخسائر واقعية.

في الشطرنج نجد لاعبَين متقابلين يمثلان هويتين محددتين ويتشاطران لوحة اللعب بلونين مختلفين، لكل لاعب منهما أسلوبه وطريقته الخاصة في تحريك الأحجار فوق الرقعة، ولكل منها ماضيه وخبرته التراكمية في تفكيك ألغاز تلك المتاهة وصولا إلى قلب الملك الذي يمثل نقطة الضعف في كلا المعسكرين. ولكن ما يوقد روح المنافسة أكثر هو ذلك التاريخ النِّدي الذي يجمع بين الخصمين الصديقين المؤرشف في سجل هزائم وانتصارات كل منهما على الآخر. وقد تتوتر الإثارة أكثر كلما حضرت الإسقاطات الشخصية الصامتة التي يمارسها كل طرف على الآخر أثناء اللعب؛ وذلك من خلال استحضار تاريخ علاقتهما الشخصية ونديتهما السرية في مختلف شؤون الحياة ومجرياتها خارج اللعبة.

تخيل أن تراقب مباراة بين زوجين على رقعة الشطرنج! بعض الأخصائيين النفسيين مثلا يدعي إمكانية تحليل نمط العلاقة بين الشخصين من خلال مراقبة سلوكهما في لعبة تجمعهما كنِدَّين وجها لوجه. غير أن ما تُفقدني إياه تجربة لعب الشطرنج على التطبيق الإلكتروني مع غرباء من حول العالم هو ذلك الإحساس بالمواجهة المباشرة التي تتطلب استحضار الخصم شخصيا بدلا من اللعب مع مُعرَّفات افتراضية لا أملك أدنى تصور عن هوية من يقف خلفها، ويتحكم بردات أفعالها. الأكثر بلادة من ذلك هي فكرة اللعب مع النظام الحاسوبي نفسه، هذا قبل أن يداهمنا الذكاء الاصطناعي ليقترح علينا نوعا جديدا من الخصومة والندية خلال اللعب معه.

أما الآن فإنني أكتفي بالبحث عن شعور واضح وحقيقي يجبُ أن أشعر به كلما حاصرني الحاسوب بنقلاته المؤتمتة على رقعة الشطرنج الرقمية.

سالم الرحبي شاعر وكاتب