البوكر تفوز بـ«تغريبة القافر»
الروايةُ المُنقِذة
الثلاثاء / 2 / ذو القعدة / 1444 هـ - 19:49 - الثلاثاء 23 مايو 2023 19:49
لم يكن فوزا أن تَضَع جائزة البوكر العربيّة في حُسبانها الرواية العُمانيّة، لم يكن فخرا أن تستقرّ هذه الجائزة أخيرا على صالحٍ روائيّ فيه إجماعٌ بعد سلسلة من الخيبات والشكوك والاضطرام والاضطراب وسوء التقدير، لم يكن تكريما لروايةٍ عُمانيّة اكتملت شُروط بنائها وساهمت بوفيرٍ من الأعمال في المشهد الأدبي العربيّ والكوني، بل كان عودا للجائزة إلى إمكان توازنها، رواية زهران -في ظني- أكسبت الجائزة بعضا من ماء الثقة المفقود، وأهدأت نفوسا -أنا منها- لم تعد -فعلا- تؤمن بذوق ولا بعلم ولا بصفاء نيّة لجنة التحكيم التي جرّحت القارئ وهزأت -عن غير قصد- بقدرته على تمييز الطيب من الفاسد.
لقد كُنت عاقدا العزم أن أُواصل سلسلة مقالات حول «شغف القراءة»، بيد أنّ فوز زهران القاسمي بجائزة البوكر العربيّة جعلني أقطع هذه السلسلة وأنصرف إلى بيان موقفي من هذا الفوز الذي لا أراه فوزا وتقديرا لزهران القاسمي ولا لروايته التي حقّقت القبول الحسن من قبل أن تُبْدي لجنة التحكيم الموقّرة رأيها، بل أراه -في منظوري الشخصيّ- فوزا للجائزة التي وجدت في رواية «تغريبة القافر» منقذا لها من وفْرة اللّغط. لم تكن «تغريبة القافر» في حاجة إلى التتويج، فقد توجّها القُرّاء من قبل، في حين أن منزلة جائزة البوكر العربيّة، خاصّة بعد تفويز رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد»، وما سبق ذلك من هرج ومرج وخلاف وظنون حول قُدرة بعض دور النشر على التأثير في قرار الجائزة، أو حول الاعتبارات القُطرية، أو حول قلّة معرفة لجان التحكيم المتعاقبة، كانت في نُزولٍ، ورمّمت هذا النزول بحقّ أُحقَّ. لستُ مطّلعا على كافّة الأعمال التي بلغت القائمة الطويلة أو القائمة القصيرة، ولكن يُمكن أن أقِرَّ بأن «تغريبة القافر» روايةٌ لها شأن وأثرٌ من حيث جدّة موضوعها ودقّته، ومن حيث امتلاءُ الشخصيّات فيها، ومن حيث تناسل الأحداث بشكل سلس دالٍّ على إدراكٍ وتمثّلٍ دقيق من الكاتب لموضوع لا يخوض فيه الخائضون بيُسر. لقد قلتُ قولي في ما يكتبه زهران القاسمي مرارا، وخصصتُ رواية «تغريبة القافر» بأكثر من مقالٍ، ولذلك لن أعود إلى بيان ما به تتميّز وتنفرد، ولكن ما أردت أن أقوله أنّ تتويج زهران القاسمي هو نتاج اجتهاد وكدّ شخصيّ عمل فيه الكاتب من خلال رحلة في كتابة الأدب تقلّب فيها من الشعر إلى القصّة القصيرة إلى الرواية، وكان فعلا حاملا لهمّ وجودي حقيقيّ، يطوف البقاع ويتجوّل في البراري وفي الجبال يبحث عن حكاية، عن معنى للوجود، قد يظفر به في نظرة راعي إبل أو في هدْأة طائر غريب أو في زهرة تنبُت بين ثنايا الصخور الجبليّة، زهران لا يحكي الحكايا فقط بل هو يعيشها ويتعايش معها. وفي جانب آخر، فإنّي أقول ما قُلته يوم فازت جوخة الحارثي بالمان بوكر العالميّة، ولم ترفع راية الأدب العماني فحسب بل رفعت راية الأدب العربي قديمه وحديثه، بأنّ تتويجها يشفّ عن فضاء محلّي نشط ونوعيّ لكتابة الرواية، وأختلف جدّا مع عبدالله حبيب الذي قال في تدوينة له إنّ زهران القاسمي لا يُمثّل بلدا اسمه عُمان بل يُمثّل شخصه، لماذا أختلف معك يا صديقي عبدالله؟ لسبب بسيط جدّا، بعيدا عن الوطنيّة والمزايدات المحليّة، لأنّ زهران يُمثّل إرثا وجوديّا وأدبيّا وثقافيّا للبلد، ولأنّه ما زال منغرسا في تفاصيل هذا البلد، يكتبُ كلّ آهةٍ فيه، وكلّ ابتسامةَ رضيع، وكلّ أمل يُزهر، لأنّ الحكاية التي ينتجها تشبهه، مرتحلة في عروق بلد يعيشه بكلّ تفاصيله، هذا الكاتب الذي آثر حياة الجبال، وظنّي أنّه سيواصل تلك الحياة، كما سيواصل كتابة أنفاسها.
لقد كتبتُ يوما في نفس هذا العمود: «هل يُبشّر زهران القاسمي بروايةٍ مختلفة يُمكن أن تُحدث رجّةً في المسار الروائيّ العمانيّ ومنه في المسار الروائي العربيّ؟ سبق أن ذكرتُ أنّ ميزة الرواية العمانيّة أنّنا في العشريّة الأخيرة صرنا نتعامل مع أربعة أسماء على الأقلّ لها رؤيةٌ ومشروع في كتابة الرواية، ومنها زهران القاسمي الذي ما زال يبحث عن الرواية الرجّة، الرواية التي تتوّج بحثه الروائيّ».
كما كتبتُ قبلها في مجلة الفيصل واسما الرواية الفائزة «من الماء والبحث عن الرواء يتأتّى السرد ويتولّد، فهو المستهلّ والمسار والمنتهى في مُعلَن الرواية وظاهرها، غير أنّ العمْق حاملٌ لمعانٍ وهمومٍ، وباعثٌ لأبعادٍ تتخطّى ظاهرَ الماء إلى حوامل من الشخصيّات تنوء بمحمولات تنقلها من وُجودِها العابر إلى عمق الوجود، وتملأ الروايةَ بمعان تُخرجها عن ظاهر السائد الروائي المؤسّس لواقعيّة اجتماعيّة صارت غالبة تَحْمل من ثوابت القضايا ودَارجِها الكونيّ إلى سردٍ إلى الواقع أقرب ذاتيا واجتماعيا وحضاريا، ذاك الواقع الممزوج بمسحة عجائبية وأسطوريّة أحيانا لا تجافي الواقع ولا تنفر عنه»، واعتقادي جازم بأنّ زهران القاسمي هو نتاج حركيّة روائيّة -آمنتُ بها من زمن، وعُدَّ إيماني تملّقا- نشيطة تكثر فيها الحوارات والمناقشات والمنافسات، حركيّة روائيّة مهّد لها جيلٌ من الروائيين، بعضهم ما زال يُعاني ويل الكتابة، وبعضهم انسحب، وبعضهم ارتحل إلى عالم الموت، أسماءٌ أحبّ أن أذكرها كلّما تُوِّجت رواية عمانيّة، فعلت في هذا الجيل الرائع من الروائيين، علي المعمري، ومبارك العامري، وبدريّة الشحّي، وغيرهم كُثر، هؤلاء كان لهم قصب السبق في فتح مغاليق الكتابة الروائيّة، وتمهيد السبيل لجوخة الحارثي، وهدى حمد، وبشرى خلفان، ورحمة المغيزوي الكاتبة القصصية المنسحبة، والخطاب المزروعي، وعبد العزيز الفارسي، وسليمان المعمري، وزهران القاسمي، والقائمة تطول في ذكر كُتّابٍ صقلوا تجاربهم، وكانت لحواراتهم وجدالاتهم في النادي الثقافي وفي جمعية الكُتّاب أثرٌ بالغ في تغذية تجاربهم، وهي مجالس مع الأسف في تراجع عجيب.
حركيّة روائيّة لم تُطلَق على عواهنها، وإنّما رعتها ذائقة متقَنَة، واعية، تعمل بجهد جهيد على تحريك الراكد الثقافي، حركيّة أدبيّة ترقُبها عيون ناقدة نافذة قد تشكّلت في السنوات الأخيرة، على رأسها منى السليميّة، وحركيّة صحفيّة متابعة، راقبة، مُعلنةٌ، مُفصحة، تُخرج أخبارَ مَن تألّق من الروائيين إلى النور، على رأسها سليمان المعمري. وجيلٌ من المُتَابعين من أهل الرأي أو من أهل الصمت قد مهّد السبيل سلبا أو إيجابا لزهران وأشباهه ونظائره.
هنيئا لعُمان هذا التألّق في الكتابة الروائيّة الذي استُهِلّ بجوخة الحارثيّ وتأكّد بزهران القاسميّ، ومِن قبله ببشرى خلفان، والبقيّة ممّن يوازون هؤلاء إنتاجا نوعيّا في الكتابة الروائيّة قادمة آثارها وأعمالها، فهل من بعد كلّ ذلك يُمكن أن نُنْصِتَ لصائتٍ يتحدّث عن طفْرةٍ عارضة وَسْمًا لكلّ فوز من عُمان؟ هنيئا لزهران ما كابده من مشاقّ الكتابة وما تطعّمه من صنائعه، هنيئا لجائزة البوكر العربيّة الرواية المُنقذة.
لقد كُنت عاقدا العزم أن أُواصل سلسلة مقالات حول «شغف القراءة»، بيد أنّ فوز زهران القاسمي بجائزة البوكر العربيّة جعلني أقطع هذه السلسلة وأنصرف إلى بيان موقفي من هذا الفوز الذي لا أراه فوزا وتقديرا لزهران القاسمي ولا لروايته التي حقّقت القبول الحسن من قبل أن تُبْدي لجنة التحكيم الموقّرة رأيها، بل أراه -في منظوري الشخصيّ- فوزا للجائزة التي وجدت في رواية «تغريبة القافر» منقذا لها من وفْرة اللّغط. لم تكن «تغريبة القافر» في حاجة إلى التتويج، فقد توجّها القُرّاء من قبل، في حين أن منزلة جائزة البوكر العربيّة، خاصّة بعد تفويز رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد»، وما سبق ذلك من هرج ومرج وخلاف وظنون حول قُدرة بعض دور النشر على التأثير في قرار الجائزة، أو حول الاعتبارات القُطرية، أو حول قلّة معرفة لجان التحكيم المتعاقبة، كانت في نُزولٍ، ورمّمت هذا النزول بحقّ أُحقَّ. لستُ مطّلعا على كافّة الأعمال التي بلغت القائمة الطويلة أو القائمة القصيرة، ولكن يُمكن أن أقِرَّ بأن «تغريبة القافر» روايةٌ لها شأن وأثرٌ من حيث جدّة موضوعها ودقّته، ومن حيث امتلاءُ الشخصيّات فيها، ومن حيث تناسل الأحداث بشكل سلس دالٍّ على إدراكٍ وتمثّلٍ دقيق من الكاتب لموضوع لا يخوض فيه الخائضون بيُسر. لقد قلتُ قولي في ما يكتبه زهران القاسمي مرارا، وخصصتُ رواية «تغريبة القافر» بأكثر من مقالٍ، ولذلك لن أعود إلى بيان ما به تتميّز وتنفرد، ولكن ما أردت أن أقوله أنّ تتويج زهران القاسمي هو نتاج اجتهاد وكدّ شخصيّ عمل فيه الكاتب من خلال رحلة في كتابة الأدب تقلّب فيها من الشعر إلى القصّة القصيرة إلى الرواية، وكان فعلا حاملا لهمّ وجودي حقيقيّ، يطوف البقاع ويتجوّل في البراري وفي الجبال يبحث عن حكاية، عن معنى للوجود، قد يظفر به في نظرة راعي إبل أو في هدْأة طائر غريب أو في زهرة تنبُت بين ثنايا الصخور الجبليّة، زهران لا يحكي الحكايا فقط بل هو يعيشها ويتعايش معها. وفي جانب آخر، فإنّي أقول ما قُلته يوم فازت جوخة الحارثي بالمان بوكر العالميّة، ولم ترفع راية الأدب العماني فحسب بل رفعت راية الأدب العربي قديمه وحديثه، بأنّ تتويجها يشفّ عن فضاء محلّي نشط ونوعيّ لكتابة الرواية، وأختلف جدّا مع عبدالله حبيب الذي قال في تدوينة له إنّ زهران القاسمي لا يُمثّل بلدا اسمه عُمان بل يُمثّل شخصه، لماذا أختلف معك يا صديقي عبدالله؟ لسبب بسيط جدّا، بعيدا عن الوطنيّة والمزايدات المحليّة، لأنّ زهران يُمثّل إرثا وجوديّا وأدبيّا وثقافيّا للبلد، ولأنّه ما زال منغرسا في تفاصيل هذا البلد، يكتبُ كلّ آهةٍ فيه، وكلّ ابتسامةَ رضيع، وكلّ أمل يُزهر، لأنّ الحكاية التي ينتجها تشبهه، مرتحلة في عروق بلد يعيشه بكلّ تفاصيله، هذا الكاتب الذي آثر حياة الجبال، وظنّي أنّه سيواصل تلك الحياة، كما سيواصل كتابة أنفاسها.
لقد كتبتُ يوما في نفس هذا العمود: «هل يُبشّر زهران القاسمي بروايةٍ مختلفة يُمكن أن تُحدث رجّةً في المسار الروائيّ العمانيّ ومنه في المسار الروائي العربيّ؟ سبق أن ذكرتُ أنّ ميزة الرواية العمانيّة أنّنا في العشريّة الأخيرة صرنا نتعامل مع أربعة أسماء على الأقلّ لها رؤيةٌ ومشروع في كتابة الرواية، ومنها زهران القاسمي الذي ما زال يبحث عن الرواية الرجّة، الرواية التي تتوّج بحثه الروائيّ».
كما كتبتُ قبلها في مجلة الفيصل واسما الرواية الفائزة «من الماء والبحث عن الرواء يتأتّى السرد ويتولّد، فهو المستهلّ والمسار والمنتهى في مُعلَن الرواية وظاهرها، غير أنّ العمْق حاملٌ لمعانٍ وهمومٍ، وباعثٌ لأبعادٍ تتخطّى ظاهرَ الماء إلى حوامل من الشخصيّات تنوء بمحمولات تنقلها من وُجودِها العابر إلى عمق الوجود، وتملأ الروايةَ بمعان تُخرجها عن ظاهر السائد الروائي المؤسّس لواقعيّة اجتماعيّة صارت غالبة تَحْمل من ثوابت القضايا ودَارجِها الكونيّ إلى سردٍ إلى الواقع أقرب ذاتيا واجتماعيا وحضاريا، ذاك الواقع الممزوج بمسحة عجائبية وأسطوريّة أحيانا لا تجافي الواقع ولا تنفر عنه»، واعتقادي جازم بأنّ زهران القاسمي هو نتاج حركيّة روائيّة -آمنتُ بها من زمن، وعُدَّ إيماني تملّقا- نشيطة تكثر فيها الحوارات والمناقشات والمنافسات، حركيّة روائيّة مهّد لها جيلٌ من الروائيين، بعضهم ما زال يُعاني ويل الكتابة، وبعضهم انسحب، وبعضهم ارتحل إلى عالم الموت، أسماءٌ أحبّ أن أذكرها كلّما تُوِّجت رواية عمانيّة، فعلت في هذا الجيل الرائع من الروائيين، علي المعمري، ومبارك العامري، وبدريّة الشحّي، وغيرهم كُثر، هؤلاء كان لهم قصب السبق في فتح مغاليق الكتابة الروائيّة، وتمهيد السبيل لجوخة الحارثي، وهدى حمد، وبشرى خلفان، ورحمة المغيزوي الكاتبة القصصية المنسحبة، والخطاب المزروعي، وعبد العزيز الفارسي، وسليمان المعمري، وزهران القاسمي، والقائمة تطول في ذكر كُتّابٍ صقلوا تجاربهم، وكانت لحواراتهم وجدالاتهم في النادي الثقافي وفي جمعية الكُتّاب أثرٌ بالغ في تغذية تجاربهم، وهي مجالس مع الأسف في تراجع عجيب.
حركيّة روائيّة لم تُطلَق على عواهنها، وإنّما رعتها ذائقة متقَنَة، واعية، تعمل بجهد جهيد على تحريك الراكد الثقافي، حركيّة أدبيّة ترقُبها عيون ناقدة نافذة قد تشكّلت في السنوات الأخيرة، على رأسها منى السليميّة، وحركيّة صحفيّة متابعة، راقبة، مُعلنةٌ، مُفصحة، تُخرج أخبارَ مَن تألّق من الروائيين إلى النور، على رأسها سليمان المعمري. وجيلٌ من المُتَابعين من أهل الرأي أو من أهل الصمت قد مهّد السبيل سلبا أو إيجابا لزهران وأشباهه ونظائره.
هنيئا لعُمان هذا التألّق في الكتابة الروائيّة الذي استُهِلّ بجوخة الحارثيّ وتأكّد بزهران القاسميّ، ومِن قبله ببشرى خلفان، والبقيّة ممّن يوازون هؤلاء إنتاجا نوعيّا في الكتابة الروائيّة قادمة آثارها وأعمالها، فهل من بعد كلّ ذلك يُمكن أن نُنْصِتَ لصائتٍ يتحدّث عن طفْرةٍ عارضة وَسْمًا لكلّ فوز من عُمان؟ هنيئا لزهران ما كابده من مشاقّ الكتابة وما تطعّمه من صنائعه، هنيئا لجائزة البوكر العربيّة الرواية المُنقذة.