أفكار وآراء

الأسرة النووية .. ليست خيارا ثانويا

لا تزال الحالة الديموغرافية في سلطنة عمان تراوح نموا يحدده أكثر حركة الأيدي العاملة الوافدة؛ ارتفاعا أو انخفاضا، فقد «بلغ عدد السكان حتى الخميس 16 فبراير 2023م (4 ملايين و977 ألفا و909 نسمات). وبحسب الساعة السكانية المتوفرة على موقع المركز الوطني والإحصاء والمعلومات، شكّل العمانيون نسبة (57.77%) من عدد سكان سلطنة عمان، وبلغ عددهم (مليونين، و875 ألفا و874 نسمة) كما أظهرت البيانات أن الوافدين قد شكلوا نسبة 42.23% من عدد سكان سلطنة عمان وقد بلغ عددهم (مليونين و102 ألف و035 نسمة)» - حسب: https://shabiba.com/article/183692 -. بينما يصل معدل الخصوبة عند المرأة العمانية وفق إحصائية 2021م (2.6) وهو معدل يعد متوسطا وفق المقاييس الدولية؛ حيث إنه يزيد على معدل (.2) الذي تقع في نطاقه كثير من دول العالم، وهذا المعدل هو محدد مهم لمفهوم الأسرة النووية التي يتم الحديث عنها هنا باستفاضة، فالمجتمع العماني واحد من المجتمعات التي تجمع بين الحداثة والتقليد في شأن الثقافة الديموغرافية، فكما أنه يحافظ إلى حد ما على وجود الأسرة الممتدة، فإنه في المقابل يذهب أيضا إلى عصرنة الحياة الاجتماعية من خلال تنامي الأسر النووية، ولعلنا الآن نعيش هذا الواقع في كل الأحياء الحديثة في مختلف المحافظات بدءا من محافظة مسقط، وصولا إلى محافظ ظفار.

يحل كلا المسميين (العائلة الممتدة/ العائلة النووية) معرفيا؛ مفهومين جديدين على الذاكرة الجمعية، حيث كان مفهوم الأسرة؛ وإلى حد قريب؛ مفهوما عاما -أسرة وفقط- دون أن ينزلق هذا المفهوم إلى تقاطع يؤدي به إلى تصنيف هذا المفهوم إلى مكونين في غاية الأهمية، نظرا لخصوصية كل مكوِّن؛ فمكوِّن العائلة الممتد، غير مكوِّن العائلة النووية، وإن اشترك كلا المكوِّنين في مفهوم عدد من الأفراد يحملان التقسيمات نفسها لمفهوم الأسرة: أب وأم وأطفال، وقبلهما جد وجدة، وأعمام، وأخوال، ضمن تسلسل يأخذ بعدين: عمودي، وأفقي في الوقت نفسه.

فما الذي حدا بالمجتمع إلى الذهاب في الأخذ بهذا التصنيف -وهو مهم في حد ذاته؛ وليس سيئا بالمطلق- الإجابة البديهية على هذا السؤال: هو الضرورة العصرية التي تفرضها الحياة الحديثة اليوم، حيث إن هناك الكثير يخضع لهذا التحديث، وفي مقدمتها مختلف المفاهيم التي ترتبط بالأسرة ارتباطا وثيقا، خاصة أن الأسرة هي النواة التي يتشكل منها المجتمع، وهذه الضرورة العصرية هي ذاتها التي تنتقل بالأفراد من الحاجة إلى الرغبة، وهذه الرغبة قد لا تكون متطلبا ثانويا، بقدر ما تكون متطلبا رئيسيا مهما في مشروع المجتمع الإنساني، فالزيادة في عدد السكان؛ على سبيل المثال؛ قد ينظر إليه على أنه حاجة ماسة «مهمة» وأهميتها تكمن في تعزيز المشروع التنموي في أي بلد ينشد التطور، والترقي، وهنا تحل الحاجة والرغبة في آن واحد، خاصة مع توفر الأسباب الداعمة أو المشجعة لمثل هذه الزيادة، فتقدم الصين لم يأت من فراغ، بل عززته هذه الكثافة السكانية (1.4) مليار نسمة حتى الآن، ولذلك فسياسية «طفل لكل عائلة» منهج الصين القائم اليوم، وحسب المراقبين أن ذلك سيؤدي إلى انخفاض حاد في عدد السكان، وقد «يتقلص عدد سكان الصين مع عام (2050م) إلى (500) مليون فقط»، وقد تواجه عجزا في القوى العاملة؛ حيث زيادة عدد كبار السن، ووفقا لـ (مجلة «ناشيونال جيوغرافيك العربي» الصادرة في أبريل 2023م) فإن تقارير منظمة الأمم المتحدة تشير إلى: «عدد سكان الأرض بلغ ثمانية مليارات نسمة حتى عام 2023م -تتصدر الدول في هذه المليارات الثماني الصين والهند- ولقد تضاعف في أقل من 50 عاما، أي منذ عام 1974م (...) في ذلك الوقت، كانت ثلاث حواضر كبرى فقط موطنا لعشرة ملايين نسمة أو أكثر؛ وهي نيويورك وطوكيو ومدينة مكسيكو. أما اليوم فهناك أكثر من 30 حاضرة. وأسباب هذا الانفجار السكاني معروفة: منها تطور الطب والقواعد الصحية وتحسن المحاصيل الزراعية. ونتيجة لذلك فإن معدل وفيات الأطفال آخذ في الانخفاض بحدة، ومتوسط أمد العمر آخذ في الارتفاع. ويتوقع علماء الديموغرافيا لدى المعهد الدول لتحليل النظم التطبيقية في النمسا ومعهد القياسات والتقييمات الصحية في الولايات المتحدة أن تعداد البشر سيصل إلى (9.4) مليار و(9.7) مليار على التوالي، ويعتقد خبراء الأمم المتحدة أننا قد نصل إلى (10.4) مليار نسمة في وقت لاحق من القرن الحالي».

ومعنى هذا؛ وعودة إلى مقدمة الموضوع، فإن هذا النمو الديموغرافي السريع والكبير، هو الذي يوجِد أشكالا وأنواعا لتدرجات الأسرة، سواء في حياتها اليومية كعمليات تقوم به داخل محيطها الصغير، أو في أشكال أنماطها، كما هو الحديث عن الأسرة النووية «الحديثة» التي تحل مفهوما اجتماعيا حديثا بخصوصيته الاجتماعية، وبشروطه الحديثة، وبآليات عمله المختلفة، عما اعتادت عليه الذاكرة الاجتماعية لمفهوم الأسرة؛ والتي يطلق عليها اليوم؛ تعريفا حديثا؛ «أسرة ممتدة» أي أنها تضم ذلك الجيل الممتد من الأجداد والجدات والأعمام والعمات، وما ينحدر بعدهم من تكونات أسرية صغيرة للأبناء الذي يأتون في مراحل متأخرة من عمر هذه الأسرة الممتدة.

ومع الاحتفاء بهذا المولود الجديد (أسرة نووية) إلى أن هناك ثمة إشكاليات اجتماعية؛ جانبية؛ طرأت على هذه الصورة الحديثة، يأتي في مقدمتها: أولا، أن العائلة النووية ستفقد تلك الحميمية الأسرية الموجودة في العائلة الممتدة، ستفقد اللمة، ستفقد خلية النحل المتفاعلة، والصاخبة بصياح الأطفال، وبتبادل الأدوار بين أعضاء العائلة الكبيرة، ستفقد الراعي الكبير «الجد/ الجدة» المتربع على عرش الأسرة، ستفقد مجموعة المنازعات والكيديات الجانبية لبعض أفراد الأسرة، ستفقد بيت العائلة الكبير، الذي قد ينظر إليه على أنه رمز مهم للهيبة الاجتماعية، ومن ضمن المفقودات أيضا تصدير القيم والعادات، والقدوات، والتضحيات ما بين الأجيال الممتدة. كذلك تشير بعض التقارير اليوم إلى أن هناك قضايا ومشاكل أسرية ناتجة عن الأسر النووية يأتي في مقدمتها انقطاع التواصل بين العائلتين (الممتدة/ النووية) حيث تنكمش الأسرة النووية على ذاتها، فقطبا الأسرة (الزوج/ الزوجة) مشغولان حتى الثمالة لتوفير العيش الرغيد لطفل أو طفلين؛ حيث أصبح شائعا انخفاض معدلات الخصوبة على مستوى دول العالم، ووفقا للمصدر السابق فإن معدلات الخصوبة في انخفاض مستمر، حيث «بلغ معدل الخصوبة العالمي خمس ولادات لكل امرأة في عام 1950م، وبحلول عام 2021، انخفض إلى (2.3)؛ ومن المتوقع أن ينخفض المعدل إلى (2.1) مولود بحلول منتصف القرن الحالي» فحتى عام 2050م في بعض البلدان ستكون معدلات الخصوبة كالتالي: (الصين: (1.2)، إيطاليا (1.3)، الولايات المتحدة الأمريكية (1.7)، الهند (.2) وتبقى نيجيريا (5.1) هي الاستثناء، وهي المرشحة لأن تنافس الصين حتى عام 2100م، فمن المتوقع أن يصل عدد سكانها (377) مليون نسمة في عام 2050م».

ثانيا، تنامي مشاكل خدم المنازل، حيث الفراغ الكبير الذي يتركه قطبا العائلة (الزوج/ الزوجة) على أثر انشغالهما بأعمال الوظيفة الخاصة أو العامة، حيث يجد الخدم مرتعهم الآمن للإساءة إلى الأطفال خاصة في الأعمار المبكرة قبل ذهابهم إلى المدرسة، وهذه من القضايا المهمة جدا، لا تقلق الأسر الصغيرة فقط، بل تقلق المجتمع ككل، حيث إن لها تداعيات خطيرة على مستقبل هؤلاء الأطفال الذين أصبحوا يواجهون مصيرا مؤلما لما يقوم به هؤلاء الخدم من إساءات نوعية خطيرة جدا، يتعلق بعضها بالعقيدة، وبعضها الآخر بالأحوال النفسية للأطفال، وانتهاك خصوصياتهم، من الاعتداءات الجنسية وغيرها.

ثالثا، ومن ضمن الإشكاليات أيضا؛ غياب الحميمية الاجتماعية «اللحمة» للمجتمع الواحد أو للأسرة الواحدة، فالأسر النووية منعزلة انعزالا يكاد يكون تاما، أو منقطعا عن أي تواصل، أو تقارب حتى في الحي الحديث، حيث تفصل بينهم الجُدُر الأسمنتية والزجاجية، ولا يرى بعضهم البعض إلا مصادفة أو على عجلة من الأمر، فالجميع مشغول، والجميع منعزل، والجميع لا يفكر إلا بحاله وأسرته، وقد لا تنال الأسرة ذلك الاهتمام المبالغ فيه، فاللهاث المادي أخذ من الناس مأخذه، فالكل مشغول بتوفير لقمة العيش، وتكوين الذات، فيسرق الزمن منهم أجمل اللحظات وأهمها، فلا يدري الفرد إلا وقد انسحب منه العمر في لحظة زمنية؛ تكاد تكون؛ فارقة، والغبن يبقى مؤثرا أكثر عندما لا يصل أحدنا إلى تحقيق الكثير مما نطمح إليه، ونحن نعيش غيابا متعمدا عن أسرة ممتدة كانت في يوم من الأيام ذلك الحضن الدافئ.