أفكار وآراء

في غزة تحقق الردع مقابل الردع بامتياز!

عندما نستعيد الذاكرة فيما جرى من الحروب والهجمات على المباني السكنية والمنشآت والمزارع في غزة، وكذلك استهداف قيادات المقاومة الفلسطينية منذ أكثر من عقدين، نتذكر ما واجهته هذه المدينة الباسلة من العدوان الإسرائيلي على غزة المقاومة والصامدة، منذ احتلالها بعد حرب عام 1967 المشؤومة، والتي ظهر فيها ضيق إسرائيل من مقاومتها وتحديها وصمودها ضد العدوان عليها، والذي لم يتوقف منذ عدة عقود، وامتد منذ احتلالها في القرن الماضي، وهو ما عبّر عنه رئيس وزرائها الأسبق «إسحاق رابين» عندما قال في أحد الأيام: «أتمنى أن استيقظ يوما من النوم فأجد غزة وقد غرقت في البحر»!. هذا الشعور والحلم الذي راود إسحاق رابين باختفاء غزة في البحر، يبرز أن ما فعلته وتفعله غزة في مقاومتها القوية للعدوان الدائم وآخرها ما جرى منذ عشرة أيام وتحقق الردع بكل ما تعنيه الكلمة من بسالة وصمود وشجاعة، وقوة نيران على أغلب الأراضي التي تحتلها إسرائيل، ومنها أراض احتلت عام 1948مثل تل أبيب وحيفا وعسقلان وغيرها من المدن الفلسطينية المحتلة، فغزة هي التي أرغمته على الانسحاب من غزة عام 2005، بقوة مقاومتها وإرادتها التي لا تقبل الضيم، ولا تستكين لهذا المحتل الغاشم، وكونها عصية على الاستسلام والهزيمة وعدم التوقف عن مواجهته في كل الظروف والأوقات الصعبة، مع كل الآلام التي يتكبدها الشعب الفلسطيني في هذه المدينة الصابرة المحتسبة.

كانت إسرائيل في عدوانها المستمر الدائم على غزة والهجوم على القيادات في مساكنهم مع أسرهم ومساكن البيوت الآمنة المجاورة لها، من خلال الطائرات الحربية، كانت حالة مستمرة وربما لن تتحقق الأهداف الفلسطينية إلا في تحرير أرضهم المحتلة. وأولى الهجمات على المنازل جرت في عام 2002، عندما ألقت الطائرة F16 بقنبلة تزن طناً واحدا بكامله ـ بحسب المركز الفلسطيني للإعلام ـ على إحدى البنايات التي تتكون من عدة طوابق في مدينة غزة، بهدف اغتيال المجاهد / صلاح شحادة (1952-2002)، مؤسس الجهاز العسكري الأول لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» ثم لاحقاً قائداً لكتائب عز الدين القسام، والمعروف أن قطاع غزة مزدحم بالمباني المتقاربة لكثافة العمران، لأنها تاريخيا آوت بعد حرب 1948، الآلاف من الفلسطينيين الذي هُجروا من أراضيهم بالقوة العسكرية، فسكن عدد كبير منهم هذه المدينة.. وبعد عامين فقط، أي في عام 2004، أقدمت إسرائيل على اغتيال الشهيد المقعد أحمد ياسين، والذي يعتبر المؤسس لحركة حماس، لكنه لم يعد يمارس العمل التنظيمي والسياسي في الحركة بسبب الإعاقة، وكان ذاهبا لصلاة الفجر، بعده اغتالت إسرائيل د.عبد العزيز الرنتيسي القيادي في حركة حماس عام 2004 أيضاً.

ثم توالت الاغتيالات للقيادات أو الذين لهم نشاط من كل الفصائل الفلسطينية، ولم تكتف فقط بذلك، لكنها تدمر منازلهم، أو تقتلهم مع أسرهم في بيوتهم، ومنها الاغتيال الأخير لبعض قيادات حركة الجهاد الإسلامي (سرايا القدس) مع بعض أسرهم. بهذه الأفعال ربما تعتقد إسرائيل أن هذه الاغتيالات في البيوت والمساكن أو هم نائمون، أو تدمير منازل النشطاء في المقاومة، أو الذين قاموا بعمليات فدائية، أنها بهذه الممارسات سوف يتم توقيف عملهم الفدائي وإسكاتهم عن النشاط، أو الضغط عليهم من أهليهم، عندما يجلسون في العراء، بعد هدم المنازل.. فهذه كلها لم تؤثر عليهم أبداً، وأخلاقيا لا يجوز القيام بمثل هذا الأعمال، بل إن المقاومة الفلسطينية بعد ذلك، زادت والسلاح تطور بشكل أكبر، والإرادة استقوت في مواجهة العدوان، وهذه قامت بها كل الشعوب التي تسعى لنيل حقوقها المنزوعة منها، لكن إسرائيل أمعنت في مواجهة المقاومين، بهدف كسر إرادتهم، لكن الأمر كان عكسيا ويرتفع دون أن ينخفض، فكانت الروح المعنوية ثابتة، والجهد والمثابرة أعظم، وفتحت الباب لتطوير سلاحهم، وهي رسائل لم يفهمها كثيرا الكيان الإسرائيلي حتى الآن، مما أدى إلى رضوخه بعد الحرب الأخيرة التي ـ كما أشرنا ـ حق مقدرة المقاومة على الردع بالردع في داخل العمق الإسرائيلي، والهجمات بالطيران وقتل القيادات وهدم المنازل، تم الرد بضربات صاروخية، وهذا ما جعلهم يحسون أن المعادلة اقتربت كثيرا مما كان يتصورون، وأن الهوة بينهم أصبحت متقاربة وواضحة، وإن لم يتحقق معادلة توازن الرعب، وهذه مرحلة ربما تتحقق مستقبلاً.

وعندما أقدمت على وقف الحرب، كان لديها الكثير من الخوف من توسع رقعة الحرب خاصة من لبنان، وهي تعرف ماذا يحدث عندما تتحرك المقاومة اللبنانية! وستأتي صواريخ أخرى من جهات لم تكن في حسبانها، لكن الأمر الأهم هو تأثير صواريخ المقاومة التي هزت الكيان الإسرائيلي من الداخل، وهروب الكثير منهم إلى خارج إسرائيل، بعدما تكررت الصواريخ على تل أبيب ومدن أخرى وفشلت القبة الحديدية الواقية من اعتراض هذه الصواريخ بشكل كلي، وقد أكد الباحث «أنطوان شلحت» المتخصص في الشأن الإسرائيلي على هذا المنحى وقال: «إن إسرائيل تخشى من أي تصعيد طويل الأمد مع الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، كما أن لديها هواجس من سيناريو وتصعيد على جبهات مختلفة في الوقت ذاته، تشمل جبهات لبنان وسوريا وحتى صواريخ قد تستهدفها تُطلق من اليمن أو العراق، وفقا للتقديرات الاستخباراتية الإسرائيلية، وهو ما بات يسميه الفلسطينيون «وحدة الساحات» في مواجهة إسرائيل». والأسس الإسرائيلية التي اتبعتها منذ احتلال فلسطين وحتى الآن مستمرة ولم تتوقف، القتل، والتجويع، والحصار، وغيرها من الأساليب، وهذا ما عبر عنه رئيس وراء إسرائيل الأسبق «شيمون بيريز» في كتابه: (من أجل السلام) إذ يقول وهو يناقض نفسه بنفسه، بما يعبر عنه من مخططات للتهدم وليس لبناء السلام: «قبل إرساء أساسيات السلام لهذا الشرق الأوسط الجديد، وكما نفعل مع أي مشروع للبناء، علينا أن ننظف الأرض أولا». هذه هي الحقيقة أو الصورة الناصعة لبيريز وأفكاره وأهدافه الجلية، بعدما فعله في لبنان أو ما يسميه بـ(عناقيد الغضب) الذي كشف فيه بسهولة ما كان يقوله ويتشدق به طوال السنوات الماضية عن السلام بين العرب وإسرائيل المقبل فـ (الحكم على الشيء فرع من تصوره)، كما تقول القاعدة الأصولية، أي فهم مقاصدها، تلك المسلّمة الحقيقية لتفسير نوايا بيريز للمنطقة بعد الذي حدث في لبنان، من قتل المئات من النساء والأطفال الأبرياء والتدمير في بلدة (قانا)، في عام 1996، فهذا الإرهاب المتعمد للأبرياء، لم يتوقف، ومثلما حصل في لبنان عام 1996، حصل في غزة مرات ومرات، آخرها في مايو 2023، ويفترض أن تتحدد معالمه للعالم كله ـ إذا يريد أن يقول الكلمة الفاصلة ـ في المظالم على الشعب الفلسطيني، وأن تسمى الأشياء بمسمياتها ورأي القانون الدولي فيما جرى ويجري، مع سكوت النظام الدولي، والتي أصبحت مكشوفة أمام العالم وبصره، ومن بعض الدول التي صاغت النظام الدولي نفسه، والتي تحمي إسرائيل وتسلحها، وتستخدم حق النقض (الفيتو) لكل القرارات التي تلزمها وتدينها، التي أصدرتها المنظمة الدولية منذ أكثر من 70 عاماً!!، فالانتقاء والازدواج في المعايير، لن يحل مشاكل التوترات والحروب، في غياب إقرار الحق لأصحابه، إذا ما أريد لها أن تحل بالوسائل السلمية، فإسرائيل منذ احتلالها لفلسطين في عام 1948 وهي ماضية في خططها وأهدافها في استمرارية المذابح والاغتيالات والاستباحات والاعتقالات، وذلك لإبقاء هذا الاحتلال قائماً وجاثما على الأرض الفلسطينية منذ احتلالها، لكنها تحاول من خلال الادعاء من أجل تصديقها بأنها تريد السلام، وأنها تحارب دعاة الإرهاب والعنف، ولا يريدون السلام الذي تريده إسرائيل وكما تفهمه، وهذا لا يُقبل عقلاً ولا منطقاً، أن يتم احتلال أرض الغير بالقوة والقتل والبطش، والادعاء بأنها تواجه الإرهاب العربي الفلسطيني! فقد أصبحت هذه المقولة مستهلكة، كمن يغطي الشمس بالغربال.. الردع مقابل الردع أصبح حقيقة واقعة، ولا حل إلا بالإذعان للحق العادل، وبغيره لن يتحقق ما تريده إسرائيل بالقوة الغاشمة.. أما ذكرى مرور خمسة وسبعين عاما على نكبة 1948 فلها حديث آخر.