التكنولوجيا و«وباء الوحدة»
الثلاثاء / 25 / شوال / 1444 هـ - 22:13 - الثلاثاء 16 مايو 2023 22:13
هل فكرت يوما في أن تتوقف، ولو لفترة، عن استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وتعود مرة أخرى إلى ما كنت عليه قبل ظهور وانتشار تلك الشبكات؟ كثيرون منا حاولوا، وبعضنا أقلع بالفعل عن إدمان هذه الشبكات، ولكن قليلون جدا هم من ثبتوا على مواقفهم وواصلوا حياتهم دون هذه الشبكات الاجتماعية الافتراضية، التي أكدت البحوث العلمية أنها تزيد من الشعور بالوحدة والانعزال في المجتمع الإنساني المعاصر.
تجربة جديدة بدأت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية تطبيقها الأسبوع الفائت في إطار سلسلة من المقالات التي تركز على الآثار السلبية لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية والنفسية للأفراد في محاولة للإجابة عن السؤال المحير الذي يقول: هل تساعد شركات التكنولوجيا العملاقة التي تمتلك وتدير تلك الشبكات الأشخاص الوحيدين أم تستفيد منهم وتزيد شعورهم بالوحدة؟
الجديد في حملة الصحيفة الأمريكية أنها طلبت من قرائها من جميع الفئات والأعمار رواية ومشاركة تجاربهم مع الشعور بالوحدة والدور الذي تلعبه منصات التكنولوجيا الجديدة سواء في تنمية هذا الشعور أو الحد منه. وقد بدأ بعض القراء في تقديم شهاداتهم التي نشرتها الصحيفة التي نعود إلى بعضها في مواضع أخرى من هذا المقال.
ومع إيماننا بأن الشعور بالوحدة لدى الناس يختلف باختلاف المجتمعات والثقافات والعادات والتقاليد، وأننا في المجتمعات العربية قد نكون أسعد حظا من أقراننا في المجتمعات الغربية فيما يتصل بشعور الوحدة وسلوك الانعزال الاجتماعي المترتب عليه، فإن الإنسان يبقى هو الإنسان في كل مكان وزمان، خاصة أن التكنولوجيا قد منحت فرصا متكافئة للجميع، وأصبح البشر في العالم كله يشتركون في استخدام نفس الشبكات والمنصات الاجتماعية المسؤولة، كما يرى الكثيرون، عن زيادة الشعور البشري بالوحدة.
تنسب الكاتبة «تاتوم هنتر» محررة الشؤون التكنولوجية بـ«واشنطن بوست» إلى الجراح الأمريكي العام «فيفيك مورثي» قوله في عام 2017: «إن الأمريكيين كانوا طوال تاريخهم يعيشون في ظل ما أسماه «وباء الوحدة» الذي غذته ودعمته وسائل الإعلام التقليدية بدرجة ما لكل منها، بداية من الكتب مرورا بالصحف والسينما والإذاعة والتلفزيون وحتى الإنترنت. ويرجع مورثي ذلك جزئيًا إلى أماكن وظروف العمل القمعية وغير الإنسانية.
وبعد ست سنوات ومع ظهور جائحة كورونا التي تحولت إلى وباء عالمي، حث «مورثي» -الذي اختير جراحا عاما للولايات المتحدة في عام 2021، وبالتالي المتحدث الرئيسي في شؤون الصحة العامة في الإدارة الأمريكية- الناس على مواجهة الوحدة وتهديدها المتزايد للصحة العامة. ويبدو هذا الأمر صحيحا ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن في كل دول العالم، حيث أجبرت الاحتياطات والإجراءات الاحترازية ملايين البشر إلى الجلوس في المنازل، بل والعمل منها، دون تواصل اجتماعي حقيقي مع الآخرين. وكان من الطبيعي أن تزيد المخاوف من العزلة الاجتماعية التي بلغت ذروتها أثناء الجائحة، ثم بدأت في الانخفاض بعدها.
ومع ذلك ما زال هناك ملايين البشر المنعزلين اجتماعيا بسبب قضائهم الساعات الطويلة وأوقات فراغهم على شبكات التواصل الاجتماعي. وعلى سبيل المثال ووفقًا لمسح أجرته مؤسسة جالوب نُشر الشهر الماضي، فإن 17% من الأمريكيين، يمثلون 44 مليون شخص، قالوا إنهم يعانون من الوحدة وما يرتبط بها من نتائج صحية سلبية بما في ذلك أمراض القلب والسكتة الدماغية والتدهور المعرفي وانخفاض المناعة ومرض الزهايمر. أما على مستوى الأمراض النفسية والاجتماعية، فإن الشعور المتزايد بالوحدة الناتج عن الاستخدام المكثف لشبكات التواصل الاجتماعي يزيد من الإصابة بالقلق والاكتئاب، حيث أصبح الناس يتغلبون على مشاكلهم دون أن يطلبوا من أصدقائهم المقربين المساعدة.
الخطير في الأمر، كما تقول بعض الدراسات الحديثة، أن دوائر الأصدقاء المقربين تقلصت إلى حد كبير، وتشير دراسة أجراها مركز مسح الحياة الأمريكية، ونشرتها مجلة «ناشيونال ريفيو» إلى أن العقود الثلاثة الأخيرة، أي منذ انتشار الإنترنت، شهدت انخفاضا في عدد الأصدقاء خاصة لدى الرجال. فقد انخفضت نسبة الرجال الذين لديهم ستة أصدقاء مقربين إلى النصف، وفي المقابل قفزت نسبة الذين ليس لديهم أصدقاء مقربين بمعدل خمسة أضعاف. ورغم أن هذا التآكل في الصداقات قد يعود لأسباب اجتماعية عديدة، مثل انخفاض معدلات الزواج، والعمل عن بعد، والأسرة النووية، وتغيير مكان الإقامة والعمل بشكل مستمر، فإن انتشار وسائل الإعلام الجديدة وعلى رأسها منصات التواصل الاجتماعي لا يمكن إغفاله كسبب من أسباب تصدع الصداقات والشعور بالوحدة والانعزال.
ويقدر بحث مؤسسة جالوب، الذي سبق وأن أشرنا له، إلى أن أكثر من 300 مليون شخص على مستوى العالم ليس لديهم صديق واحد، وأن واحدا من كل خمسة أشخاص ليس لديه أصدقاء أو عائلة يمكنه الاعتماد عليهم في الأوقات الصعبة. وتزداد أزمة الصداقة لدى غير المتزوجين وصغار السن وأصحاب الدخول المنخفضة.
عندما تقرأ تجارب التعافي من الإدمان على استخدام شبكات التواصل الاجتماعي تتأكد أن التكنولوجيا كما تجمعنا معا على هذه الشبكات، فإنها تمزق روابطنا الاجتماعية أيضا. المشكلة أننا نعي مخاطر الاستخدام الكثيف لهذه الشبكات، بل ونهنئ من يقول لنا إنه توقف عن استخدامها أو على الأقل نجح في ترشيد هذا الاستخدام، ونشيد بإرادته القوية، ونقول له «أحسنت عملا»، ومع ذلك فإننا نستمر في استخدامها، ويصل الحال بالبعض إلى إدمانها دون أن نعترف بذلك. والإدمان، كما يقول البعض، هو «أكثر الأمراض إثارة للاهتمام، لأنه مرض يقنعك بأنه ليس لديك مرض».
كثيرون منا لديهم يقين بأن إدمان وسائل التواصل الاجتماعي كارثة، لكن القليل منا نجح في التخلص منه، وعلى سبيل المثال يقول 64% من الأمريكيين، ونسب مقاربة في كل دول العالم تقريبا، إن هذه الوسائل لها تأثير سلبي على الحياة وجودتها، ومع ذلك ما زال نحو 75% يحتفظون بحساب واحد على الأقل على وسائل التواصل الاجتماعي، وفقًا لبيانات مركز بيو للأبحاث.
وإذا كان إنسان هذا العصر لا يستطيع أن يستغني عن هذه الشبكات فإن عليه أن يكافح للتحكم في مقدار الوقت الذي يقضيه عليها حتى لا يشعر بالوحدة والعزلة الاجتماعية والثقل العقلي نتيجة التدفق المستمر للصور والمعلومات. جرب إذن أن تتوقف عن استخدامها ولو ليوم واحد أسبوعيا ثم يومين ثم ثلاثة.. وهكذا.. واسأل نفسك هل أصبحت أسعد حالا أم لا، واشغل نفسك بأعمال أخرى مثل مشاهدة برامجك التلفزيونية المفضلة أو الذهاب إلى السينما برفقة العائلة أو الأصدقاء المقربين أو حتى التمدد على الأريكة وقراءة كتاب أو رواية.
إن كل التجارب التي أرسلها القراء الذين توقفوا عن استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، ونشرتها «واشنطن بوست» تؤكد أن حياة هؤلاء الناس قد تغيرت إلى الأحسن، وتخلصوا من الحالات المزاجية السيئة التي كانت تصيبهم، تماما مثلما تخلصوا من العلاقات الضحلة والمعلومات المضللة، وأن أداءهم لواجباتهم العائلية وأعمالهم أصبح أفضل.
تجربة جديدة بدأت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية تطبيقها الأسبوع الفائت في إطار سلسلة من المقالات التي تركز على الآثار السلبية لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية والنفسية للأفراد في محاولة للإجابة عن السؤال المحير الذي يقول: هل تساعد شركات التكنولوجيا العملاقة التي تمتلك وتدير تلك الشبكات الأشخاص الوحيدين أم تستفيد منهم وتزيد شعورهم بالوحدة؟
الجديد في حملة الصحيفة الأمريكية أنها طلبت من قرائها من جميع الفئات والأعمار رواية ومشاركة تجاربهم مع الشعور بالوحدة والدور الذي تلعبه منصات التكنولوجيا الجديدة سواء في تنمية هذا الشعور أو الحد منه. وقد بدأ بعض القراء في تقديم شهاداتهم التي نشرتها الصحيفة التي نعود إلى بعضها في مواضع أخرى من هذا المقال.
ومع إيماننا بأن الشعور بالوحدة لدى الناس يختلف باختلاف المجتمعات والثقافات والعادات والتقاليد، وأننا في المجتمعات العربية قد نكون أسعد حظا من أقراننا في المجتمعات الغربية فيما يتصل بشعور الوحدة وسلوك الانعزال الاجتماعي المترتب عليه، فإن الإنسان يبقى هو الإنسان في كل مكان وزمان، خاصة أن التكنولوجيا قد منحت فرصا متكافئة للجميع، وأصبح البشر في العالم كله يشتركون في استخدام نفس الشبكات والمنصات الاجتماعية المسؤولة، كما يرى الكثيرون، عن زيادة الشعور البشري بالوحدة.
تنسب الكاتبة «تاتوم هنتر» محررة الشؤون التكنولوجية بـ«واشنطن بوست» إلى الجراح الأمريكي العام «فيفيك مورثي» قوله في عام 2017: «إن الأمريكيين كانوا طوال تاريخهم يعيشون في ظل ما أسماه «وباء الوحدة» الذي غذته ودعمته وسائل الإعلام التقليدية بدرجة ما لكل منها، بداية من الكتب مرورا بالصحف والسينما والإذاعة والتلفزيون وحتى الإنترنت. ويرجع مورثي ذلك جزئيًا إلى أماكن وظروف العمل القمعية وغير الإنسانية.
وبعد ست سنوات ومع ظهور جائحة كورونا التي تحولت إلى وباء عالمي، حث «مورثي» -الذي اختير جراحا عاما للولايات المتحدة في عام 2021، وبالتالي المتحدث الرئيسي في شؤون الصحة العامة في الإدارة الأمريكية- الناس على مواجهة الوحدة وتهديدها المتزايد للصحة العامة. ويبدو هذا الأمر صحيحا ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن في كل دول العالم، حيث أجبرت الاحتياطات والإجراءات الاحترازية ملايين البشر إلى الجلوس في المنازل، بل والعمل منها، دون تواصل اجتماعي حقيقي مع الآخرين. وكان من الطبيعي أن تزيد المخاوف من العزلة الاجتماعية التي بلغت ذروتها أثناء الجائحة، ثم بدأت في الانخفاض بعدها.
ومع ذلك ما زال هناك ملايين البشر المنعزلين اجتماعيا بسبب قضائهم الساعات الطويلة وأوقات فراغهم على شبكات التواصل الاجتماعي. وعلى سبيل المثال ووفقًا لمسح أجرته مؤسسة جالوب نُشر الشهر الماضي، فإن 17% من الأمريكيين، يمثلون 44 مليون شخص، قالوا إنهم يعانون من الوحدة وما يرتبط بها من نتائج صحية سلبية بما في ذلك أمراض القلب والسكتة الدماغية والتدهور المعرفي وانخفاض المناعة ومرض الزهايمر. أما على مستوى الأمراض النفسية والاجتماعية، فإن الشعور المتزايد بالوحدة الناتج عن الاستخدام المكثف لشبكات التواصل الاجتماعي يزيد من الإصابة بالقلق والاكتئاب، حيث أصبح الناس يتغلبون على مشاكلهم دون أن يطلبوا من أصدقائهم المقربين المساعدة.
الخطير في الأمر، كما تقول بعض الدراسات الحديثة، أن دوائر الأصدقاء المقربين تقلصت إلى حد كبير، وتشير دراسة أجراها مركز مسح الحياة الأمريكية، ونشرتها مجلة «ناشيونال ريفيو» إلى أن العقود الثلاثة الأخيرة، أي منذ انتشار الإنترنت، شهدت انخفاضا في عدد الأصدقاء خاصة لدى الرجال. فقد انخفضت نسبة الرجال الذين لديهم ستة أصدقاء مقربين إلى النصف، وفي المقابل قفزت نسبة الذين ليس لديهم أصدقاء مقربين بمعدل خمسة أضعاف. ورغم أن هذا التآكل في الصداقات قد يعود لأسباب اجتماعية عديدة، مثل انخفاض معدلات الزواج، والعمل عن بعد، والأسرة النووية، وتغيير مكان الإقامة والعمل بشكل مستمر، فإن انتشار وسائل الإعلام الجديدة وعلى رأسها منصات التواصل الاجتماعي لا يمكن إغفاله كسبب من أسباب تصدع الصداقات والشعور بالوحدة والانعزال.
ويقدر بحث مؤسسة جالوب، الذي سبق وأن أشرنا له، إلى أن أكثر من 300 مليون شخص على مستوى العالم ليس لديهم صديق واحد، وأن واحدا من كل خمسة أشخاص ليس لديه أصدقاء أو عائلة يمكنه الاعتماد عليهم في الأوقات الصعبة. وتزداد أزمة الصداقة لدى غير المتزوجين وصغار السن وأصحاب الدخول المنخفضة.
عندما تقرأ تجارب التعافي من الإدمان على استخدام شبكات التواصل الاجتماعي تتأكد أن التكنولوجيا كما تجمعنا معا على هذه الشبكات، فإنها تمزق روابطنا الاجتماعية أيضا. المشكلة أننا نعي مخاطر الاستخدام الكثيف لهذه الشبكات، بل ونهنئ من يقول لنا إنه توقف عن استخدامها أو على الأقل نجح في ترشيد هذا الاستخدام، ونشيد بإرادته القوية، ونقول له «أحسنت عملا»، ومع ذلك فإننا نستمر في استخدامها، ويصل الحال بالبعض إلى إدمانها دون أن نعترف بذلك. والإدمان، كما يقول البعض، هو «أكثر الأمراض إثارة للاهتمام، لأنه مرض يقنعك بأنه ليس لديك مرض».
كثيرون منا لديهم يقين بأن إدمان وسائل التواصل الاجتماعي كارثة، لكن القليل منا نجح في التخلص منه، وعلى سبيل المثال يقول 64% من الأمريكيين، ونسب مقاربة في كل دول العالم تقريبا، إن هذه الوسائل لها تأثير سلبي على الحياة وجودتها، ومع ذلك ما زال نحو 75% يحتفظون بحساب واحد على الأقل على وسائل التواصل الاجتماعي، وفقًا لبيانات مركز بيو للأبحاث.
وإذا كان إنسان هذا العصر لا يستطيع أن يستغني عن هذه الشبكات فإن عليه أن يكافح للتحكم في مقدار الوقت الذي يقضيه عليها حتى لا يشعر بالوحدة والعزلة الاجتماعية والثقل العقلي نتيجة التدفق المستمر للصور والمعلومات. جرب إذن أن تتوقف عن استخدامها ولو ليوم واحد أسبوعيا ثم يومين ثم ثلاثة.. وهكذا.. واسأل نفسك هل أصبحت أسعد حالا أم لا، واشغل نفسك بأعمال أخرى مثل مشاهدة برامجك التلفزيونية المفضلة أو الذهاب إلى السينما برفقة العائلة أو الأصدقاء المقربين أو حتى التمدد على الأريكة وقراءة كتاب أو رواية.
إن كل التجارب التي أرسلها القراء الذين توقفوا عن استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، ونشرتها «واشنطن بوست» تؤكد أن حياة هؤلاء الناس قد تغيرت إلى الأحسن، وتخلصوا من الحالات المزاجية السيئة التي كانت تصيبهم، تماما مثلما تخلصوا من العلاقات الضحلة والمعلومات المضللة، وأن أداءهم لواجباتهم العائلية وأعمالهم أصبح أفضل.