الخطاب النقدي عند إحسان عباس في كتابه «اتجاهات الشعر العربي المعاصر»
الاثنين / 24 / شوال / 1444 هـ - 20:41 - الاثنين 15 مايو 2023 20:41
يُعد إحسان عبّاس (1920-2003م) واحدا من أعلام الأدب العربي ونقده ضمن مسيرة إبداعية امتدّت طوال 80 عاما، شهدت التأليف في الأدب والنقد والتحقيق والترجمة حاز خلالها مكانة مرموقة في مجال الكتابة الأدبية بمؤلفات ضمّنها آراءه الفكرية والأدبية والنقدية، أثرى بها المكتبة العربية والقارئ والباحث المهتم بالمجالين الأدبي والنقدي.
إنّ إحسان عباس ذو قلم ثري في المجال التأليفي، وموسوعة أدبية ونقدية ولغوية شاملة يمكن مراجعة ذلك من القيمة الفنية للكتب التي تناولت جوانب مهمة من الثقافة العربية وآدابها. ويعدّ كتاب (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) الصادر في طبعته الأولى عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت عام 1978م من أهم الكتب التي تناولت الشعر العربي المعاصر في قراءة موجزة للمشهد الشعري المعاصر في الوطن العربي، ومع أنّ إحسان عباس قد بيّن في مقدمة الكتاب رأيه الشخصي في مسألة الإيجاز الوارد في الكتاب حين قال: «كانت النية تتجه أن يكون دراسة مبسّطة موجزة، ولكن المطلبين: التبسيط والإيجاز قد يقعان في تعارض أحيانا، فالتبسيط مثلا يتطلب القدر اليسير من الأحكام النظرية والقواعد الفكرية، والإكثار من الأمثلة والمقارنات، والإيجاز يعني الاكتفاء بأمثلة قليلة. ثم إنّ التبسيط في ميدان مثل ميدان الشعر المعاصر ناشب -طواعية- في أنواع مختلفة من الصعوبات، قد يكون غاية في ذاته، حتى يراد تقريب هذا الشعر للقراء، ولكن هذا لا يعني أن «عملية» التبسيط سهلة، أو أنها ممكنة في بعض المواقف...» (ص11)، فإنّ الكتاب لم يُخلّ مع الإيجاز، وقدّم تناولاً واضحا للتجربة الشعرية العربية في مرحلة زمنية مبكرة لا سيما وقت صدور الكتاب على الأقل.
يُظهرُ هذا الكتاب أهمية نقدية في قراءة الشعر العربي المعاصر؛ فيتناول مقدمة مهمة عن مجاورة الأشكال الشعرية الحديثة في الشعر العربي لبعضها، ويقوم على مناقشتها مناقشة هادئة لا سيما في بواكيرها الأولى، فالحديث عن نشأة الشعر الحر في الشعر الحديث كان مقدمة للانتقال النقدي في قراءة طبيعة الشعر الحديث وشكله، ومضامينه الحديثة المنسلّة من فكرة إلى أخرى، ثم الانفتاح بصورة أكبر في تحليل القضايا الأدبية الواردة في الشعر الحديث.
ولعلنا نقف في إطار الحديث عن الخطاب النقدي لهذا الكتاب على المنهج الذي اتّبعه الناقد في تحليله النصوص لتكون القراءة أكثر شمولية وأدق تناولا، فهو يشير إلى منهجه قائلا: «وقد اخترت منهجا لا يعدّ في نظري أبسط المناهج في العرض والتوضيح، وإن حاولت أن أجعل المحتوى واضحاً بقدر الإمكان، ذلك أنني وجدتني أقف بين أمرين: بين أن أختار طريقة مألوفة في دراسة الشعر: من خلال الاتجاه السياسي، أو الاتجاه القومي، أو الاتجاه الاجتماعي...الخ، وبين أن أكون أقرب إلى روح الشعر الحديث من حيث اعتماده العمق النفسي والفكري، فاخترت الثاني، لأن النوع الأول من الدراسة يحيل الشعر إلى وثائق، دون أن يركز البحث حول فكرة -أو أفكار- معينة، فيغدو أشبه شيء بالعرض التاريخي والوصف السطحي، لمظاهر، لا يعد الشعر أهم شواهدها أو وثائقها، وقد يكون المنهج الذي اخترته وثائقيا إلى حد، ولكنه متصل بحقيقة الشعر، لا بحقيقة التاريخ، ومحمله الفكري أعمق، والقدرة فيه على اكتشاف الفعاليات الفكرية والنفسية أرحب مجالا، ورغبة في تجنب «الوثائقية» المحض، وجدتني -في الغالب- أقف عند النماذج التي أجدها ذات قيمة فنية في ذاتها إلى جانب ما قد يكون لها من قيمة «وثائقية»، وكل باحث يعرف أن الشعر حين يستخدم وثيقة يستوي فيه الجيد والرديء، بل كثيرا ما تكون النماذج الرديئة أكثر دلالة حين يستشهد بها، لأنها أكثر طواعية وأبعد عن «حذاقة» الفن ودقته...». (ص11)
كما يُقدّم الكتاب قراءة مهمة في جوانب مختلفة في الشعر الحديث لعل أهمها تقسيمه القضايا التي يناقشها إلى ما عرّفها بالمواقف، فهو يقرأ النصوص من تشكّلات المواقف الناتجة عنها، فنجده يتناول الشعر من زوايا: الموقف من الزمن، والموقف من المدينة، والموقف من التراث، والموقف من الحُب، والموقف من المجتمع، وهنا يصدر أحكاماً نقدية بناء على النصوص التي وقف عليها وأحكم رأيه النقدي فيها.
وتُشكّل المواقف المذكورة أهمية في الشعر الحديث من حيث الدلالات التي يُحدثها في النص، والاتجاهات التي ينتجها الشعراء كونها موضوعا يتعاضد مع الملامح الحديثة للشعر العربي وهو بلا شك يقدّم صورة مغايرة عن الموضوعات الشعرية القديمة في الأغلب؛ لذا نجد إحسان عباس يستفيض في عرض النماذج الشعرية في المواقف التي يناقشها محلّلاً ومعارضاً بين النصوص ببعضها لينتج رؤية نقدية ينطلق منها القارئ والباحث في الشعر الحديث.
لقد كانت المواقف السابقة صورة عن الهاجس أو الموضوع الذي أحدثه الانتقال في طبيعة الشعر الحديث، فما المدينة والزمن والتراث والحب والمجتمع إلا موضوعات متجددة لأغراض سابقة طرقها الشعراء من قبل، لكنّ الشاعر الحديث انفتح من خلالها على أبعادٍ فلسفية ونفسية واجتماعية، فاتسعت معها قراءة الناقد، وأخذت أشكالاً ودلالات أكثر شمولية في التناول والعرض.
ويتحدد الخطاب النقدي واتجاهاته في الكتاب بناء على المحددات التي من خلالها سعى الناقد إلى تأسيس رؤيته النقدية، ولعل أهم ما يمكن الإشارة إليه في ذلك ما يلي:
أولا: قامت القراءة على تحليل النصوص الشعرية وربطها بالموضوع الذي يناقشه، وهنا جاء اختيار النصوص بناء على ذائقة الناقد واطلاعه على المدونة الشعرية في ذلك الوقت، وبناء عليه فإن هذه النصوص ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتوجه الشعراء في مرحلة زمنية معينة لا سيما المراحل الخاضعة للثورات، والتغيرات المكانية والزمانية؛ فنجد الموقف من المدينة متغيرا من شاعر لآخر بناء على الارتباط الداخلي بالمكان: القرية أو المدينة، وما نجده سببا عند السياب من موقفه من المدينة، نجد له سببا آخر عند البياتي في الموقف نفسه من المدينة.
ثانيا: تحيل القراءات على مرجعيات نقدية تكوينية في تناول النصوص سواء كانت عربية أو غير عربية ومحاولة تحليلها وفق رؤية خارجية يتكئ عليها النص النقدي؛ يقول مثلا: «لا أعتقد بأننا نلازم جانب الدقة حين نقول هذا اتجاه ماركسي أو ذاك اتجاه وجودي، وإنما الأصح أن يقال ثمة أثر ماركسي وأثر وجودي وما أشبه ذلك في جوانب الشعر الحديث...» ص(60)، ويقول: «ثمة أسباب كثيرة ربما كان في أولها -وإن لم يكن أقواها- التقليد للشعر الغربي الذي اتخذ الأسطورة -منذ القديم- سداه ولحمته، ولكن منذ دراسة جيمس فريزر (في الغصن الذهبي) للأسطورة، ومنذ دراسات فرويد ويونج لدورها في اللاوعي الإنساني، انهارت الحواجز التي كانت تقوم دون تقبلها في الشعر العربي الحديث». (ص128).
ثالثا: إيجاد مقارنات دائمة بين النصوص المنتقاة، موضحا الفارق بين الدلالات في الموضوع الواحد، يقول: «فإذا كان نازك والسياب قد اشتركا في ارتياد شكل جديد، فإن البياتي كان أسبق المجددين إلى تغيير طبيعة المحتوى في ذلك الشكل» (ص47)، ويقول: «وتكاد لا ترى أن خليل حاوي -رغم تعلقه بالأم- يتحدث كثيرا عن الماضي، ويحلم بالعودة إليه، وعلى الرغم من إيمانه بجمال الطفولة، فإنه لا يعدها ملاذا وحمى، وهو في هذا يفارق -مثلا- شاعرا مثل السيّاب، عاش طول حياته يحلم بالطفولة والعودة إلى الأم ويجد في الماضي عزاء عن الحاضر، بل هو يزخرف الماضي لأن في ذلك التمويه تعويضا عن قسوة الحاضر...» (ص71)، ويقول عن التصوف عند الشعراء: «فتصوف البياتي إحساس باستمرار النفي، وظمأ إلى الحب، وارتياح إلى عالم الأشباح (عائشة) وحزن لأن الكفاح الطويل لم يأتِ بثمرة موجزة. وتصوف أدونيس انفتاح على الكون واتحاد بالتراث الصوفي الديني، وتصوف محمد عبدالحي استخدام للرموز الصوفية الإسلامية للتعبير عن الحقائق الكونية، وتصوف محمد الفيتوري حزن عميق يشوبه الإخفاق العاطفي والإحساس بالغربة...» (ص160).
رابعا: قدّم الكتاب خطابا نقديا مبسّطا في مضمونه، دون التعمق في الطرح، بما يتناسب والقارئ عموما، والباحث المختص.
خامسا: تنوعت القراءة في اختيار النصوص والشعراء بما يتناسب والموضوع المراد نقده، لذا يتنوع الشعراء في المدونة الشعرية المنتقاة وفي المحاور النقدية، فنجد نازك الملائكة والسياب والبياتي وأدونيس ومحمود درويش وأمل دنقل وبلند الحيدري وأحمد عبدالمعطي حجازي ونزار قباني وصلاح عبدالصبور ومحمد الفيتوري وممدوح عدوان ومعين بسيسو وغيرهم من الشعراء من مختلف اتجاهات القصيدة الحديثة، وهذا التنوع في التناول أوجد قراءة شاملة وواضحة حول الموقف من الشعر الحديث.
يعدّ كتاب اتجاهات الشعر العربي المعاصر من الكتب التي رصدت حركة الشعر العربي واتجاهاته بناء على حركة التحديث الشعري، فكانت القراءة النقدية فيه انطلاقا من رؤيا الشعر ومتغيراته، فكان الرهان على قراءة تجربة جديدة أتى بها شعراء الشعر الحديث في تجاربهم الشعرية التي تغاير النمط السابق شكلا ومضمونا.
إنّ إحسان عباس ذو قلم ثري في المجال التأليفي، وموسوعة أدبية ونقدية ولغوية شاملة يمكن مراجعة ذلك من القيمة الفنية للكتب التي تناولت جوانب مهمة من الثقافة العربية وآدابها. ويعدّ كتاب (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) الصادر في طبعته الأولى عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت عام 1978م من أهم الكتب التي تناولت الشعر العربي المعاصر في قراءة موجزة للمشهد الشعري المعاصر في الوطن العربي، ومع أنّ إحسان عباس قد بيّن في مقدمة الكتاب رأيه الشخصي في مسألة الإيجاز الوارد في الكتاب حين قال: «كانت النية تتجه أن يكون دراسة مبسّطة موجزة، ولكن المطلبين: التبسيط والإيجاز قد يقعان في تعارض أحيانا، فالتبسيط مثلا يتطلب القدر اليسير من الأحكام النظرية والقواعد الفكرية، والإكثار من الأمثلة والمقارنات، والإيجاز يعني الاكتفاء بأمثلة قليلة. ثم إنّ التبسيط في ميدان مثل ميدان الشعر المعاصر ناشب -طواعية- في أنواع مختلفة من الصعوبات، قد يكون غاية في ذاته، حتى يراد تقريب هذا الشعر للقراء، ولكن هذا لا يعني أن «عملية» التبسيط سهلة، أو أنها ممكنة في بعض المواقف...» (ص11)، فإنّ الكتاب لم يُخلّ مع الإيجاز، وقدّم تناولاً واضحا للتجربة الشعرية العربية في مرحلة زمنية مبكرة لا سيما وقت صدور الكتاب على الأقل.
يُظهرُ هذا الكتاب أهمية نقدية في قراءة الشعر العربي المعاصر؛ فيتناول مقدمة مهمة عن مجاورة الأشكال الشعرية الحديثة في الشعر العربي لبعضها، ويقوم على مناقشتها مناقشة هادئة لا سيما في بواكيرها الأولى، فالحديث عن نشأة الشعر الحر في الشعر الحديث كان مقدمة للانتقال النقدي في قراءة طبيعة الشعر الحديث وشكله، ومضامينه الحديثة المنسلّة من فكرة إلى أخرى، ثم الانفتاح بصورة أكبر في تحليل القضايا الأدبية الواردة في الشعر الحديث.
ولعلنا نقف في إطار الحديث عن الخطاب النقدي لهذا الكتاب على المنهج الذي اتّبعه الناقد في تحليله النصوص لتكون القراءة أكثر شمولية وأدق تناولا، فهو يشير إلى منهجه قائلا: «وقد اخترت منهجا لا يعدّ في نظري أبسط المناهج في العرض والتوضيح، وإن حاولت أن أجعل المحتوى واضحاً بقدر الإمكان، ذلك أنني وجدتني أقف بين أمرين: بين أن أختار طريقة مألوفة في دراسة الشعر: من خلال الاتجاه السياسي، أو الاتجاه القومي، أو الاتجاه الاجتماعي...الخ، وبين أن أكون أقرب إلى روح الشعر الحديث من حيث اعتماده العمق النفسي والفكري، فاخترت الثاني، لأن النوع الأول من الدراسة يحيل الشعر إلى وثائق، دون أن يركز البحث حول فكرة -أو أفكار- معينة، فيغدو أشبه شيء بالعرض التاريخي والوصف السطحي، لمظاهر، لا يعد الشعر أهم شواهدها أو وثائقها، وقد يكون المنهج الذي اخترته وثائقيا إلى حد، ولكنه متصل بحقيقة الشعر، لا بحقيقة التاريخ، ومحمله الفكري أعمق، والقدرة فيه على اكتشاف الفعاليات الفكرية والنفسية أرحب مجالا، ورغبة في تجنب «الوثائقية» المحض، وجدتني -في الغالب- أقف عند النماذج التي أجدها ذات قيمة فنية في ذاتها إلى جانب ما قد يكون لها من قيمة «وثائقية»، وكل باحث يعرف أن الشعر حين يستخدم وثيقة يستوي فيه الجيد والرديء، بل كثيرا ما تكون النماذج الرديئة أكثر دلالة حين يستشهد بها، لأنها أكثر طواعية وأبعد عن «حذاقة» الفن ودقته...». (ص11)
كما يُقدّم الكتاب قراءة مهمة في جوانب مختلفة في الشعر الحديث لعل أهمها تقسيمه القضايا التي يناقشها إلى ما عرّفها بالمواقف، فهو يقرأ النصوص من تشكّلات المواقف الناتجة عنها، فنجده يتناول الشعر من زوايا: الموقف من الزمن، والموقف من المدينة، والموقف من التراث، والموقف من الحُب، والموقف من المجتمع، وهنا يصدر أحكاماً نقدية بناء على النصوص التي وقف عليها وأحكم رأيه النقدي فيها.
وتُشكّل المواقف المذكورة أهمية في الشعر الحديث من حيث الدلالات التي يُحدثها في النص، والاتجاهات التي ينتجها الشعراء كونها موضوعا يتعاضد مع الملامح الحديثة للشعر العربي وهو بلا شك يقدّم صورة مغايرة عن الموضوعات الشعرية القديمة في الأغلب؛ لذا نجد إحسان عباس يستفيض في عرض النماذج الشعرية في المواقف التي يناقشها محلّلاً ومعارضاً بين النصوص ببعضها لينتج رؤية نقدية ينطلق منها القارئ والباحث في الشعر الحديث.
لقد كانت المواقف السابقة صورة عن الهاجس أو الموضوع الذي أحدثه الانتقال في طبيعة الشعر الحديث، فما المدينة والزمن والتراث والحب والمجتمع إلا موضوعات متجددة لأغراض سابقة طرقها الشعراء من قبل، لكنّ الشاعر الحديث انفتح من خلالها على أبعادٍ فلسفية ونفسية واجتماعية، فاتسعت معها قراءة الناقد، وأخذت أشكالاً ودلالات أكثر شمولية في التناول والعرض.
ويتحدد الخطاب النقدي واتجاهاته في الكتاب بناء على المحددات التي من خلالها سعى الناقد إلى تأسيس رؤيته النقدية، ولعل أهم ما يمكن الإشارة إليه في ذلك ما يلي:
أولا: قامت القراءة على تحليل النصوص الشعرية وربطها بالموضوع الذي يناقشه، وهنا جاء اختيار النصوص بناء على ذائقة الناقد واطلاعه على المدونة الشعرية في ذلك الوقت، وبناء عليه فإن هذه النصوص ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتوجه الشعراء في مرحلة زمنية معينة لا سيما المراحل الخاضعة للثورات، والتغيرات المكانية والزمانية؛ فنجد الموقف من المدينة متغيرا من شاعر لآخر بناء على الارتباط الداخلي بالمكان: القرية أو المدينة، وما نجده سببا عند السياب من موقفه من المدينة، نجد له سببا آخر عند البياتي في الموقف نفسه من المدينة.
ثانيا: تحيل القراءات على مرجعيات نقدية تكوينية في تناول النصوص سواء كانت عربية أو غير عربية ومحاولة تحليلها وفق رؤية خارجية يتكئ عليها النص النقدي؛ يقول مثلا: «لا أعتقد بأننا نلازم جانب الدقة حين نقول هذا اتجاه ماركسي أو ذاك اتجاه وجودي، وإنما الأصح أن يقال ثمة أثر ماركسي وأثر وجودي وما أشبه ذلك في جوانب الشعر الحديث...» ص(60)، ويقول: «ثمة أسباب كثيرة ربما كان في أولها -وإن لم يكن أقواها- التقليد للشعر الغربي الذي اتخذ الأسطورة -منذ القديم- سداه ولحمته، ولكن منذ دراسة جيمس فريزر (في الغصن الذهبي) للأسطورة، ومنذ دراسات فرويد ويونج لدورها في اللاوعي الإنساني، انهارت الحواجز التي كانت تقوم دون تقبلها في الشعر العربي الحديث». (ص128).
ثالثا: إيجاد مقارنات دائمة بين النصوص المنتقاة، موضحا الفارق بين الدلالات في الموضوع الواحد، يقول: «فإذا كان نازك والسياب قد اشتركا في ارتياد شكل جديد، فإن البياتي كان أسبق المجددين إلى تغيير طبيعة المحتوى في ذلك الشكل» (ص47)، ويقول: «وتكاد لا ترى أن خليل حاوي -رغم تعلقه بالأم- يتحدث كثيرا عن الماضي، ويحلم بالعودة إليه، وعلى الرغم من إيمانه بجمال الطفولة، فإنه لا يعدها ملاذا وحمى، وهو في هذا يفارق -مثلا- شاعرا مثل السيّاب، عاش طول حياته يحلم بالطفولة والعودة إلى الأم ويجد في الماضي عزاء عن الحاضر، بل هو يزخرف الماضي لأن في ذلك التمويه تعويضا عن قسوة الحاضر...» (ص71)، ويقول عن التصوف عند الشعراء: «فتصوف البياتي إحساس باستمرار النفي، وظمأ إلى الحب، وارتياح إلى عالم الأشباح (عائشة) وحزن لأن الكفاح الطويل لم يأتِ بثمرة موجزة. وتصوف أدونيس انفتاح على الكون واتحاد بالتراث الصوفي الديني، وتصوف محمد عبدالحي استخدام للرموز الصوفية الإسلامية للتعبير عن الحقائق الكونية، وتصوف محمد الفيتوري حزن عميق يشوبه الإخفاق العاطفي والإحساس بالغربة...» (ص160).
رابعا: قدّم الكتاب خطابا نقديا مبسّطا في مضمونه، دون التعمق في الطرح، بما يتناسب والقارئ عموما، والباحث المختص.
خامسا: تنوعت القراءة في اختيار النصوص والشعراء بما يتناسب والموضوع المراد نقده، لذا يتنوع الشعراء في المدونة الشعرية المنتقاة وفي المحاور النقدية، فنجد نازك الملائكة والسياب والبياتي وأدونيس ومحمود درويش وأمل دنقل وبلند الحيدري وأحمد عبدالمعطي حجازي ونزار قباني وصلاح عبدالصبور ومحمد الفيتوري وممدوح عدوان ومعين بسيسو وغيرهم من الشعراء من مختلف اتجاهات القصيدة الحديثة، وهذا التنوع في التناول أوجد قراءة شاملة وواضحة حول الموقف من الشعر الحديث.
يعدّ كتاب اتجاهات الشعر العربي المعاصر من الكتب التي رصدت حركة الشعر العربي واتجاهاته بناء على حركة التحديث الشعري، فكانت القراءة النقدية فيه انطلاقا من رؤيا الشعر ومتغيراته، فكان الرهان على قراءة تجربة جديدة أتى بها شعراء الشعر الحديث في تجاربهم الشعرية التي تغاير النمط السابق شكلا ومضمونا.