أباطيل الكتابة: عبقرية الغموض
الاحد / 23 / شوال / 1444 هـ - 23:17 - الاحد 14 مايو 2023 23:17
حينما تكون الكتابة تفاعلية بين طرفيها «الكاتب- القارئ» فلا بد من وضوح يفسح المجال لهذه التفاعلية كي تصل لجمهور قُرّائها، وكي تحقق رسالتها المبتغاة، لكن الغموض ما زال أحد أباطيل الكتابة، وحينما نذكر الغموض هنا فإننا ربطناه بالتفاعلية، ولا يتضمن ذلك اللغة التخصصية حينما يتناول كاتب ما مجاله التخصصي الدقيق، ويكتب لجمهور من المختصين في ذات المجال، فلا يصبح الأمر حينها غامضا إلا عن قارئ مختلف لا ينتمي لهذا المجال وغير مهتم به، أما أن يتشكل الغموض عن قصدية واعية أو غير واعية غاية يطلبها الكاتب ويسعى إليها فهذا وهم عميق ضلّل رسالتي الكتابة والتلقي معا، بل وغبّش على وصول مدلولات الكتابة لمتلقيها من جمهور القرّاء.
يعتمد الكاتب متقصدا على الغموض حينما تضعف أدواته لبلوغ المعنى أو لصياغته، ويتكئ عليه حينما يفقد مهارته وقدرته على توصيل الفكرة بعد بلوغ المعنى ( إن توافر له ذلك)، ويتضاعف هذا الوهم حينما يقع في ذهن هذا الكاتب أنه كاتب عظيم طالما كان غامضا غير مفهوم، وفي هذا الحكم من التهافت والهشاشة ما لا يستدعي تفصيله أصلا؛ إذ ليس بالغموض يصنّف الكاتب عظيما مع ما للغموض من مستويات ومنازل تحدّث عنها الكتاب والنقاد منذ كتابات عبدالقاهر الجرجاني النقدية البلاغية مرورا برولاند بارت وبكل من جاء بينهما وبعدهما من الكتاب والنقاد، فإن كان الفيلسوف الفرنسي «هنري لوفيفر» يجد أن سلطة اللغة في غموضها، فلا ينبغي أن يؤخذ هذا الغموض بمعنى التضليل والتعمية ولكنه يريد اختلافها جماليا واستثنائيتها فنيا دون تَقَصّد التعميّة.
يصبح الغموض المقصود أمرا مرفوضا حينما يحاول كاتب واهم جعله مؤشرا لجودة كتابته، أو مطيّة لتعاليه على غيره من الكُتَّاب أو حتى على مستقبليه من القراء، وما تحتاجه اللغة من ماء الغموض الفني يأتي عفوا مع قدرة الكاتب ومهارته واستقرائه الذكي لواقع: أين يكتب؟ ولمن؟ وفي أي شيء؟
إن كان المكتوب قصيدة (مثلا) ففضاء الغموض ومستوياته فيها أعلى من غيرها من فنون النثر، وعلى الرغم من المتاح هنا إلا أن جمالية القصيدة ترفض كذلك تحولها إلى مساحة ضيقة تتراكم فيها الألغاز والرموز التي تفقدها معناها وجمالها معا، حيث يحاول كاتبها إخفاء عجزه في التوصيل بوهمه في تصنيع الغموض، أما إن كنت تكتب مقالة تريد بها نشر وعي مجتمعي، أو بناء ثقافة تنموية، أو تثقيف إنساني فكري عام فأنت إلى الوضوح أحوج منك إلى الغموض، بل إن الغموض في هذا المقام ما هو إلا مقصلة الأقلام، و تقويض جسور التواصل التفاعلية مع الناس الذين يمثلهم هنا عموم القراء والمتلقين والذين هم غاية هذا الكاتب وهدفه.
ولوقوع الكاتب عموما في شَرَك الغموض أسباب عديدة ومبررات مختلفة، أوردت هذه المقالة بعضها في تخيل العبقرية؛ إذ يتوهم الكاتب العلو أو التميز حينما يختار الغموض، حتى يظن بأنه مطلوب ما دام غامضا، والحقيقة المعاصرة التي نعيشها اليوم تدل على أن الغموض مادة للتنفير ومدعاة للمقاطعة، فمع كل هذه المصادر المعرفية الرقمية المختلفة في هذا العالم المفتوح تتسع دائرة البدائل والخيارات وحينها يختار القارئ من بينها ما يجد فيه وضوحا يكفيه ويجنبه مؤونة البحث والتقصي، وحلّ الألغاز وفك الشفرات الرمزية حتى وإن كان الغموض غموضا فنيا أو غموضا غير مقصود.
من مبررات اعتماد الغموض أسلوبا كذلك محاولة الكاتب غير الحقيقي ادعاء ما لا يملك من أدوات وصياغة وتراكيب ظنا منه بجهل القراء وعجزهم عن اكتشاف ضعف موهبته، ووهن أدواته، وفي حقيقة السياق العام فإنه ليس من شأن القارئ هذا النقد المُمَحِّص والتقييم الدقيق، ولكنه سيختار حتما النفور من غريب التركيب وصعوبة المعنى، لا سيما مع وجود واضح اللفظ جليّ المعنى في كتاب البدائل المتاحة والتي تسلمه إلى حال أن لن يطيل مقاما، بل سينأى لرحابة البدائل مع ذكاء القدرة على التوصيل.
الكتابة معادلة صعبة ينبغي فهم كل محدداتها، ثم أهدافها وسياقاتها حتى تصل بنا ونصل بها إلى مبتغانا منها في التعبير والتغيير، ومبتغاها منّا في جمالية المبنى وتأسيس المعنى في الوعي والتفكير.
يعتمد الكاتب متقصدا على الغموض حينما تضعف أدواته لبلوغ المعنى أو لصياغته، ويتكئ عليه حينما يفقد مهارته وقدرته على توصيل الفكرة بعد بلوغ المعنى ( إن توافر له ذلك)، ويتضاعف هذا الوهم حينما يقع في ذهن هذا الكاتب أنه كاتب عظيم طالما كان غامضا غير مفهوم، وفي هذا الحكم من التهافت والهشاشة ما لا يستدعي تفصيله أصلا؛ إذ ليس بالغموض يصنّف الكاتب عظيما مع ما للغموض من مستويات ومنازل تحدّث عنها الكتاب والنقاد منذ كتابات عبدالقاهر الجرجاني النقدية البلاغية مرورا برولاند بارت وبكل من جاء بينهما وبعدهما من الكتاب والنقاد، فإن كان الفيلسوف الفرنسي «هنري لوفيفر» يجد أن سلطة اللغة في غموضها، فلا ينبغي أن يؤخذ هذا الغموض بمعنى التضليل والتعمية ولكنه يريد اختلافها جماليا واستثنائيتها فنيا دون تَقَصّد التعميّة.
يصبح الغموض المقصود أمرا مرفوضا حينما يحاول كاتب واهم جعله مؤشرا لجودة كتابته، أو مطيّة لتعاليه على غيره من الكُتَّاب أو حتى على مستقبليه من القراء، وما تحتاجه اللغة من ماء الغموض الفني يأتي عفوا مع قدرة الكاتب ومهارته واستقرائه الذكي لواقع: أين يكتب؟ ولمن؟ وفي أي شيء؟
إن كان المكتوب قصيدة (مثلا) ففضاء الغموض ومستوياته فيها أعلى من غيرها من فنون النثر، وعلى الرغم من المتاح هنا إلا أن جمالية القصيدة ترفض كذلك تحولها إلى مساحة ضيقة تتراكم فيها الألغاز والرموز التي تفقدها معناها وجمالها معا، حيث يحاول كاتبها إخفاء عجزه في التوصيل بوهمه في تصنيع الغموض، أما إن كنت تكتب مقالة تريد بها نشر وعي مجتمعي، أو بناء ثقافة تنموية، أو تثقيف إنساني فكري عام فأنت إلى الوضوح أحوج منك إلى الغموض، بل إن الغموض في هذا المقام ما هو إلا مقصلة الأقلام، و تقويض جسور التواصل التفاعلية مع الناس الذين يمثلهم هنا عموم القراء والمتلقين والذين هم غاية هذا الكاتب وهدفه.
ولوقوع الكاتب عموما في شَرَك الغموض أسباب عديدة ومبررات مختلفة، أوردت هذه المقالة بعضها في تخيل العبقرية؛ إذ يتوهم الكاتب العلو أو التميز حينما يختار الغموض، حتى يظن بأنه مطلوب ما دام غامضا، والحقيقة المعاصرة التي نعيشها اليوم تدل على أن الغموض مادة للتنفير ومدعاة للمقاطعة، فمع كل هذه المصادر المعرفية الرقمية المختلفة في هذا العالم المفتوح تتسع دائرة البدائل والخيارات وحينها يختار القارئ من بينها ما يجد فيه وضوحا يكفيه ويجنبه مؤونة البحث والتقصي، وحلّ الألغاز وفك الشفرات الرمزية حتى وإن كان الغموض غموضا فنيا أو غموضا غير مقصود.
من مبررات اعتماد الغموض أسلوبا كذلك محاولة الكاتب غير الحقيقي ادعاء ما لا يملك من أدوات وصياغة وتراكيب ظنا منه بجهل القراء وعجزهم عن اكتشاف ضعف موهبته، ووهن أدواته، وفي حقيقة السياق العام فإنه ليس من شأن القارئ هذا النقد المُمَحِّص والتقييم الدقيق، ولكنه سيختار حتما النفور من غريب التركيب وصعوبة المعنى، لا سيما مع وجود واضح اللفظ جليّ المعنى في كتاب البدائل المتاحة والتي تسلمه إلى حال أن لن يطيل مقاما، بل سينأى لرحابة البدائل مع ذكاء القدرة على التوصيل.
الكتابة معادلة صعبة ينبغي فهم كل محدداتها، ثم أهدافها وسياقاتها حتى تصل بنا ونصل بها إلى مبتغانا منها في التعبير والتغيير، ومبتغاها منّا في جمالية المبنى وتأسيس المعنى في الوعي والتفكير.