أفكار وآراء

قياس الأثر الاجتماعي للتشريع

مع حالة الانتقال التشريعي التي تعيشها سلطنة عُمان منذ عام 2020، تستوجب التشريعات المستجدة سواء في سياقها الاقتصادي أو الاجتماعي قراءات منهجية، تنتقل بـ (تلقي التشريعات) من حالة (التلقي بالانطباعات impression) إلى حالة التلقي المنهجي، الذي يتأسس على القراءة العلمية، ويطور أدوات منهجية لمعرفة أبعاد تأثير التشريع على الأطراف ذات العلاقة، وصولًا إلى تحليل تكلفة التشريع مقابل العائد. في الواقع تختلف السياقات الممكنة لقياس أثر تشريع ما على قطاع/ فئة/ ظاهرة بعينها؛ تبعًا للممارسات الجديدة التي يرسخها التشريع، أو المفاهيم الجديدة التي يكرسها، أو الممارسات التي يحد منها، أو طبيعة (التغيير) الذي يفرضه سواء على سلوك الأفراد أو المؤسسات في المجتمع. هناك تشريعات يمكن قياس أثرها التشريعي بشكل مباشر خلال (عام أو عامين) من إقرار التشريع، وهناك تشريعات تحتمل (5) أعوام للتمكن المنهجي من قياس أثرها، بينما هناك تشريعات قد تحتاج إلى ما يزيد عن (10) أعوام لتبين الأثر الفعلي (غير اللحظي) لقياس أثرها؛ وهذا النوع من التشريعات هو التشريعات البنيوية. وتختلف الأدبيات في المقاييس المحتملة لتقييم آثار التشريعات؛ إلا أنه يمكن القول: إن القراءات المنهجية الناجزة للتشريعات تتأثر بعدة عوامل منها:

- وضوح فلسفة المشرع في وضع التشريع (عبر قنوات الاتصال والإفصاح الرسمي).

- وجود ممارسات بحثية/ أكاديمية سابقة تتقصى أثر التشريعات ويمكن البناء على منهجيتها.

- طبيعة المداولات والهواجس التي أثيرت حول التشريع - في حال عرضه على المجالس البرلمانية - أو في حالة تطبيق (المشاورات المجتمعية) أو (المشاورات القطاعية) السابقة حول مشروع التشريع.

- وجود وحدات/ مراكز متخصصة في قياس أثر التشريع تستطيع تطوير المنهجيات والممارسات العلمية التي يمكن البناء عليها.

- كفاية المعلومات/ الأدلة/ البيانات حول الظاهرة أو القطاع أو الممارسة التي ينظمها التشريع أو جاء لإصلاحها أو الحد منها مع ضرورة وجود سيناريوهات محتملة لدى المشرع للتعامل معها.

تلك العناصر - حسب تقديرنا - هي مفاتيح أساسية لإرساء قراءات منهجية حول التشريعات المقرة أو التي تكون قيد المناقشة. كما أن الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام يعتبر محوريًا في تعزيز هذه القراءات المنهجية؛ من خلال دفعها للنقاشات بشكل معمق نحو (الأدلة) بدلًا من الانطباعات. هناك منهجيات مختلفة بدأت في العقود الماضية تستخدم على نحو واسع في قياس آثار التشريعات، منها ما هو مشتق من حقل الدراسات القانونية، ومنها ما هو مشتق من حقل دراسات الجدوى الاقتصادية، ومع تطور علوم السياسات العامة بدأت نظرياتها كذلك تطور بعض المنهجيات الملاءمة لإسقاطها وتطبيقها على التشريعات لقياس أثرها. وفي السنوات الأخيرة بدأ تطوير ما يُعرف بقياس الأثر الاجتماعي، الذي أخذ نهجه من محاولة بعض الشركات والمؤسسات الدولية لتقييم تأثير مشاريعها في الاستثمار الاجتماعي والاستدامة على المجتمع. ما يعنينا في هذه المقالة هو التركيز على قياس الأثر الاجتماعي للتشريعات وكيف يمكن تطوير عناصر محلية لهذا القياس اتساقًا مع الحالة الراهنة. وفي الواقع يمكن استخدام عدد من المنهجيات في هذا الصدد منها: الدراسات الطولية وهي الدراسات التي تتقصى أفراد معينين/ ظواهر معينة خلال فترات زمينة (معتبرة) مع قياس كافة العوامل المؤثرة عليها وكيف تتفاعل تلك العوامل مع بعضها البعض للوقوف على أكثر العوامل تأثيرًا في تشكلهم وتحولهم. هناك أيضًا منهجيات ترتبط بدراسات الحالة إلا أن العامل المؤثر في مثل هذا النوع من الدراسات هو القدرة على تعميم طبيعة الحالة على المجتمع، ومع وجود الكم (المعتبر) من الحالات التي تسمح بالتعميم الاجتماعي يمكن أن تكون هذه المنهجية ممكنًا من ممكنات تقصي الأثر الاجتماعي للتشريعات.

من المنهجيات المهمة كذلك دراسات الإسقاط الكمي وهذه الدراسات تعمل على جمع وتوصيف كل البيانات الكمية المرتبطة بالأفراد/ المؤسسات/ القطاعات/ الظواهر التي يلامسها التشريع قبل إقراره ووضع توقعات لما ستؤول إليه تلك البيانات بعد إقرار التشريع. وعند نقطة زمنية معينة يمكن للباحثين تتبع مدى تحقق تلك التوقعات كميًا. وبالتالي الحكم على فعالية وأثر التشريع من عدمه.

لماذا إذن من المهم الالتفات إلى قياس الأثر الاجتماعي للتشريعات في المرحلة الراهنة في سلطنة عُمان؟ يمكن القول: إن هناك تشريعات (هيكلية) متظافرة تلامس الجانب الاجتماعي صدرت/ وستصدر خلال هذه المرحلة. هذه التشريعات من شأنها أن تشكل ظواهر معنية وتعيد تركيب أنماط اجتماعية وممارسات فور دخولها حيز التنفيذ وبعضها بعد سنوات معينة من إقرارها. نتحدث هنا عن التشريعات المتصلة بالحماية الاجتماعية، والتشريعات المتصلة بالعمل، والتشريعات المتصلة بالإسكان، والتشريعات المتصلة بالبيانات الشخصية. عوضًا عن بعض التشريعات الاقتصادية التي تحتمل أبعادًا اجتماعية. ولعل من أهم التشريعات التي أخذت حيزها من النقاش خلال الآونة الأخيرة هو المرسوم السلطاني «في شأن زواج العمانيين من أجانب».

ومع كل مداولات وسائل التواصل الاجتماعي ووسائط الإعلام حول فحوى القانون ومقتضياته إلا أنه يمكن القول: إن مجمل النقاشات - من خلال رصدنا المحدود - اتجهت نحو قضايا محددة في شأن فحوى التشريع المقر. وبمساعدة منهجيات قياس الأثر الاجتماعي يمكن توسيع نطاق هذه النقاشات ونقلها إلى دائرة أكثر اتساعًا للقضايا المحتملة والآفاق التي يحملها التشريع. من الأسئلة التي يمكن أن تفتح: هل سيمكن هذا التشريع المجتمع والدولة من تكوين كتلة سكانية ملاءمة لنمو الاقتصاد في عُمان وتنويعه؟ وهل يمكن فهم المشروع في سياق الانتقال الذي تعيشه دول المنطقة عمومًا من مرحلة كانت تحتاج فيها إلى نوعية محدودة المهارات من القوى العاملة في اقتصاداتها إلى مرحلة تقتضي جذب المواهب و القوى العاملة ذات الكفاءة العالية، وبالتالي فإن هذا المشروع يأتي في سياق تهيئة بيئة تشريعية جاذبة ترتكز على هذا الاتجاه؟ هناك سؤال آخر: ما طبيعة الأنماط القيمية والاجتماعية التي يمكن أن تنشأ، في مقابل الأنماط والممارسات التي يمكن يعالجها التشريع؟

كمختص في الشأن الاجتماعي، نعترف بقصور القراءة الاجتماعية إزاء التشريعات، والتحدي الأكبر من القصور هو عدم وجود منهجيات يتم تطويرها لقياس الأثر الاجتماعي للتشريعات. الذي يمكن أن يساهم حسب تقديرنا في توجيه المفاهيم واستدراك فلسفة المشرع عوضًا عن التوقع الدقيق للظاهرة الاجتماعي، وبناء الأدلة حول حالة التشريع الاجتماعي مستقبلا.