أفكار وآراء

حرية التعبير بين المسؤولية والموضوعية

تابعت عن بعد الأسبوع المنصرم احتفال جمعية الصحفيين العمانية، باليوم العالمي لحرية الصحافة، وهو الاحتفال الذي يتم الاهتمام به أيضا في أغلب دول العالم، من خلال المنظمات أو المؤسسات الصحفية أو الحقوقية، باعتبار حرية التعبير من الموضوعات المهمة في عالم اليوم، لما تمثله من تأثير في الحياة المعاصرة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فمن خلال الحرية تكشف بواطن القصور والخلل، لما يبرز من خلال المعايشة والمتابعة عبر حرية التعبير المنطقي والواقعي بالرؤية النقدية.. وإبراز السلبي من الإيجابي والجاد من العبثي وتقويمه بالآراء الصائبة، وقد حرصت كافة المواثيق والاتفاقيات الدولية، على أهمية حرية الرأي والمعتقد، من خلال النظم والدساتير التي تضعها الدول في نظمها الدستورية والقانونية، وكفالتها كأحد الحقوق الأساسية للإنسان وحرية اختياره واعتقاده فيما يطرحه من آراء، ومن روافدها حرية التعبير عبر الصحافة بمجالاتها المختلفة، ومنها الصحافة الإلكترونية التي دخلت مجال النشاط الصحفي حديثا، مع وسائل التقنية بشبكاتها المتعددة. ولا شك أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بباريس في العاشر من ديسمبر 1948، إذ تنص المادة (19)، على أنه: «لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرِّيته في اعتناق الآراء دون أي تَدَخّل، وفي استقاء الأنباء والأفكار، وتلقيها ونَقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية».

ولا شك أن قضية الحرية ـ ومنها حرية الصحافة ـ مثّلت منذ فجر التاريخ، أهمية كبيرة، وقيمة عظيمة في الحياة الإنسانية، إذ تعنى بحرية التعبير والنقاش الحر، دون معوقات أو مثبطات أو حواجز، وبما تكفله القوانين التي عنت بالحرية، ومنها حرية التعبير، لذلك حظيت بالاهتمام من كل المدارس والفلسفات الفكرية والسياسية، سواء بالاتفاق أو الاختلاف في بعض مجالات فلسفة الحرية، باعتبارها قضية محورية في حياة الإنسان المعاصر، وما تزال تلقى المدح والقدح ما دامت الحياة قائمة، خاصة الالتباس في مضامينها الكبيرة والمتعددة، سلبا أو إيجابا، قبولا أو رفضا، والرفض والقبول، والمدح والقدح، ليست معايير لصيقة بمفهوم الحرية في جانبها الإنساني الرفيع، وإنما في تفسيرها، وفي انحراف البعض بمضامينها التي جعلت الرؤى تختلف وتتباين في مدلولاتها الفكرية والفلسفية، بحسب المدارس السياسية المختلفة، فالمدرسة الليبرالية لها مدلول واسع للحرية إلى الإطلاق في تطبيقها، والمدرسة الماركسية تضّيق الحرية في مجال العيش الكريم فقط، وتبعا للتأويل والتفسير والتقويم والتحوير لتلك الرؤى والأفكار التي ناقشت فكرة الحرية بعمومها ـ وهذه سيكون لها حديث آخر ـ ومسألة الحرية ومقاييسها بحسب المواثيق الدولية، فقد يتوافق معها البعض وقد يختلف حوله تفسيرها كما أشرنا، لجوانب وقضايا عديدة، منها قضية اختلاف القيم والثقافة والأعراف والدين، في حياة الأمم والشعوب، وهي ما جعلت فكرة الحرية تتنوع وتتعدد في بعض البيئات لأسباب فكرية وثقافية، ووفق مضامين ومعطيات يتم وضعها بما يجعل فكرة وفلسفة الحرية تتعدد تفسيراتها وفق الفلسفات والثقافات كما أشرنا آنفا.

فالحرية في الإسلام حق من حقوق الإنسان، وتعدّ واجبة لقول كلمة الحق فيما يصلح الأمة ويرفع من شأنها، والدفاع عن قضايا الوطن والمواطن، بما يحقق المصلحة العامة. ومن هنا كما يقول د.عبد المجيد النجار: «فإن حرية الإنسان في الإعلان عن الرأي الذي توّصل إليه بالنظر والبحث، وإشاعته بين الناس، والمنافحة عنه والإقناع به. ولعل ذلك هو الوجه الأهم في حرية الرأي، وهو المعني أكثر من غيره في الاستعمال الشائع، إذ ما قيمة رأي يبقى حبيس الخاطر ولا يكون له في مجرى الحياة تأثير بأن يتبناه المجتمع ويعمل به؟ ومن ثم فإن الحرية فيه تعني أن يكون طريقه إلى الناس سالكا بانعدام كل المعيقات التي تعيق حرية التعبير والتمسك به عندما يكون الرأي منطقيا وهادفا، ويجد القبول من الآخرين، والدفاع عنه والإقناع به عند طرحه. وإن وقع شيء من ذلك فهو يعدّ تقييدا لحرية الرأي». أما الكبت والمنع من التعبير والمحاورة في الرأي، فلا يثمر إلا الانغلاق على الرأي الواحد، والتشبث به والتعصّب له، فهذا لم يعد له قبول خاصة في عصر الانفتاح والتعدد والتنوع في الآراء، وفي غيابه لن يكون العقل فاعلا إلى الأمور إلا من زاوية واحدة ضيقة، فقد تخطئه الحقيقة عندما يتم الاطلاع عليه، وتقبّل التصويب في كل مناخ تشيع فيه هذه الحرية الواجب قولها. وقد كانت للتربية النبوية في مجال حرية الرأي في هذا أثرها المهم في الجيل الأول من الصحابة، فقد انتهج نهج ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الانفتاح على تعددية الآراء، بما أتاحه من حرية القول والاختلاف، وهو النبي المبلغ عن الله سبحانه وتعالى، يتسع صدره للآراء المخالفة، بل كان يحرّض أصحابه تحريضا على أن تكون لهم آراؤهم واجتهاداتهم المستقلة فكان يقول لهم: «لا يكن أحدكم إمعة، يقول: أنا مع الناس». كما اتخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- شعارا له عندما يقول لهم: «أشيروا عليّ أيها الناس». وهو شعار تربوي يهدف إلى تربية المسلمين على الفكر النقدي المقارن بإتاحة الحرية الواسعة في القول والحجة، وهو مقتبس من القرآن الكريم في الآية (وإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، وهذه رؤية عقلية منطقية تهدف لإقناع الآخر المختلف معه، فإما نحن على صواب، أو أنتم، مع أنه عليه الصلاة والسلام مؤيد بالوحي، وتلك حكمة إلهية في تعدد الآراء من أجل الوصول للحق.

وإذا تحدثنا عن قضية حرية التعبير في بلادنا، نجد النصوص في النظام الأساسي للدولة واضحة وجلية عن تحديد هذه المسألة، منذ صدور النظام الأساسي للدولة عام 1996 وتعديلاته في عهد السلطان قابوس بن سعيد ـ تغمده الله برحمته ـ وقد نصّت المادة رقم (37)على أن «حرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة وفقا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون، ويحظر ما يؤدي إلى الفتنة أو الكراهية أو يمس بأمن الدولة أو يسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه». وقد أكد هذا المنحى وأهميته ودوره ما قاله جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ في خطابه الأول بعد توليه الحكم في عام 2020، إذ قال في هذا الصدد: «إن مما نفخر به، أن المواطنين والمقيمين على أرض عُمان العزيزة يعيشون بفضل الله في ظل دولة القانون والمؤسسات، دولة تقوم على مبادئ الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، قوامها العدل، وكرامة الأفراد وحقوقهم وحرياتهم فيها مصانة، بما في ذلك حرية التعبير التي كفلها النظام الأساسي للدولة». وهذه الإشارة من جلالته ـ أيده الله ـ في عبارة (مما نفخر به)، يعطي الدلالة على تقدير جلالته وفقه الله لـ «مبادئ الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص.. وحرية التعبير»؛ وهذا الاستمساك بها، بما لا تتجاوز حدود هذه الحرية لحرية الآخرين، فليست هناك حرية مطلقة، فيما أقرته المنظمة الدولية في قضية حرية التعبير، وقد أكد هذا المضمار معالي الدكتور عبدالله بن ناصر الحراصي وزير الإعلام، منذ عدة أسابيع في حواره مع الإعلامي موسى الفرعي، حيث أشار معاليه في حديثه إلى أن جلالة السلطان «يدعم بقوّة حريّة الرّأي المسؤول».. «ويدعم الوعي النّقديّ الّذي يدفع بالإنسان لتقديم ما لديه لتطوّر البلد»، وأن «جلالة السّلطان ينصحني شخصيّا بتوفير الحريّة للكتّاب فيما يريدون قوله، لكن بمسؤوليّة وتحليل حقيقيّ، ينبع من الصّدق والتّأمل والبحث، ويقول لنا: « إذا رأينا نفعا فيما يقوله الكاتب سنغير به مسارات وقرارات اتّخذت».

ولا شك أن قضية حرية التعبير، كما أكد عليها جلالته ـ حفظه الله، وقبل ذلك كما حُددت في النظام الأساسي للدولة وتعديلاته، يؤكد رغبة القيادة الحكيمة في الانفتاح على النقد، وعلى حرية التعبير الصادق والمسؤول، وتوصيله عبر وسائل الإعلام بهدف الإصلاح من خلال الوعي بالواقع برؤية ناقدة وثاقبة، تستفيد منه مؤسسات الدولة، فالسفينة واحدة والمصلحة واحدة، وكلها تصب من أجل الوطن ونهضته وتقدمه، فالرأي الذي يُطرح بنزاهة ومسؤولية واجب قوله لا شك في ذلك، ولا أحد يرفض النقد الصادق الذي يخدم المصلحة الوطنية، عندما توجد سلبية تحتاج إلى تصحيح ونقد وتعديل، وهذا ما أكد عليه معالي وزير الإعلام في الحوار المشار إليه آنفاً، إذ قال: إن: «المفكر الحقيقيّ لا يهاب من طرح رأيه وفكره، فنحن نخاف على أصحاب الفكر والجيل الجديد من التّقوقع على الذّات، والخوف من طرح الفكر»، مضيفا في فقرة أخرى ـ «فالرّأي الحرّ الحقيقيّ اليوم مطلوب لتطوير مؤسّسات الدّولة ذاتها». لذلك من الإنصاف أن نذكر أن هناك مساحة ممتازة للتعبير عن الرأي، وهذا ما نلمسه ونتابعه لكن فكرة الاستزادة في مجال الرأي والتعبير مسألة طبيعية والحياة متحولة ومتغيرة دون حرق المراحل، لكن مع ذلك نقول: إن بعض ما يقال من خلال بعض الهيئات التي تتابع الحريات الصحفية في الوطن العربي، ليست منصفة من خلال تقييمها لحرية التعبير في بلادنا، في تقاريرها السنوية، وهذا ينطبق عليها المثل الغربي (من يكذب مرة، لا يدرك قدر الورطة التي أوقع نفسه فيها، إذ عليه أن يخترع عشرين كذبة أخرى للحفاظ على هذه الكذبة).