أفكار وآراء

متى يعلنون وفاة الصحف الورقية؟

من يتأمل في تلك المحاضرة العظيمة للفيلسوف والروائي الإيطالي الكبير إمبرتو إيكو، التي ألقاها في العام 2003 بمكتبة الإسكندرية بعنوان: « الذاكرة النباتية والمعدنية.. مستقبل الكتب» «وكان موضوعها؛ المقارنة بين ذاكرة النبات وذاكرة المعدن، في إشارة إلى الجدل الذي ظهر في مطلع الألفية بخصوص أفول الكتب الورقية في مقابل الحاسوب، وبالتالي أفول الصحف الورقية في مقابل الصحف الرقمية، سيدرك أن ما قاله إيكو بخصوص الورق أي الذاكرة النباتية، لم يكن مجرد مقارنات، وإنما كان الفيلسوف يتأمل في كيفية احتواء ذاكرة للبشر ممتدة إلى آلاف السنين لعبت دورا جوهريا في حفظ تراث الإنسانية عبر التاريخ، وإلى تقاليد حميمية لعلاقة الإنسان بالكتب.

سياق الجدل الذي يثيره بين الحين والآخر ناشطون متحمسون لوسائل التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر عن أفول عصر الورق، والتبشير بزواله، لا يعكس وعيا حقيقيا بمعنى وفلسفة الورق في الصحافة، ففضلا عن أن لكل من القراءة في الورق ومن الشاشة الإلكترونية فروق في هوية الاستخدام وطرائق الاستعمال، لا تتصل فقط بفكرة التقييد الذهني (ارتباط الأجهزة اللوحية بمقابس الطاقة، فضلا عن ما يمكن أن يحدثه تأثير الأشعة في عيون القراء) وإنما كذلك بفكرة الحميمية والإحساس وطبيعة اللمس، والقدرة على الحرية القرائية في كل الأحوال حيث لا يرتبط ذهن القارئ بطريقة معينة في الجلوس وأسلوب مخصص في القراءة، أو مصادر معينة للطاقة، وإنما بطرائق حميمية تعتبر تقليدا تليدا لأجيال من القراء مع ذاكرة الورق منذ دخول العالم في عصر اكتشاف الطباعة.

المفارقة التي لا ينتبه لها كثيرون، هي أنه متى ما أدركنا أن فلسفة عصر التحول الرقمي العالمي هدفها الانفتاح الواسع على القراءة بما يتيح قدرات غير مسبوقة للبشر في الوصول السهل إلى مصادر المعلومات ومراجع الكتب، فإننا حيال هذه المفارقة سنجد أنفسنا بالضرورة في وارد مقارنة بين مجتمع ومجتمع، تكشف ما هو مسكوت عنه في تلك المقارنة، حيث إن الحقيقة لا تكمن في مطلق المقارنة كما يراد تبريرها في جدل الصحافة الورقية والرقمية، بل الحقيقة هي أننا هنا بإزاء مقارنة بين مجتمعين؛ مجتمع عربي تقليدي ومجتمع غربي حديث؛ حيال عادات للقراءة وتقاليد للبحث عن المعرفة.

فحال المجتمعات الغربية التي اضطرت إلى اختراع ظاهرة « كتاب الجيب» لكي تستفيد من الوقت الذي يمضيه أفرادها في القطارات ووسائل النقل - منذ ثلاثينيات القرن العشرين - ليس هو حال مجتمعاتنا العربية التقليدية بطبيعة الحال، ما سيعني أن مطلق الحديث عن التطور الرقمي للبشر (الذي يزج خلاله بالحديث عن أفول الصحف الورقية) هو مجرد حيلة لا تعكس وعيا بالمعنى الذي يتم النقاش حوله في الجدل بين أفول الصحف الورقية أمام الصحف الرقمية.

فإذا كان من أهم خصائص التعامل مع وسائط التواصل الاجتماعي ومواقع الويب في مجتمعاتنا العربية، أن تحديثاتها المتجددة وسرعتها المتكررة ونَفَسَها القصير لا تعكس معنى الهدف الحقيقي من الثورة الرقمية: أي زيادة المعرفة وسهولة الوصول إليها، بل بالعكس تلعب طبيعة تعاملنا دورا كبيرا في تعويم السذاجة وإشاعة التفاهة، ما يعني سياقا آخر تماما خارج عن أي تنطع للحديث عن جدل الصحافة الورقية والرقمية!

إن وجود كبريات الصحف العالمية كنيويورك تايمز وواشنطن بوست في قيد الحيز الورقي للصحافة، يعكس حقيقة تغيب عن بال الكثيرين وهي: أنه طالما المحتوى محتوى صحافي مهما تعددت وسائله، فإن طريقة استقبال الناس له تظل مندرجة في الاختيار والحرية التي تتناسب مع كل فرد في طريقة استخدامه للصحيفة.

وإذا كان الفيلسوف الألماني الكبير نيتشه قد انتقد ثقافة الصحيفة في القرن التاسع عشر، ناعيا عصر القراءة الكلاسيكي الذي بدأ يخلي مكانه لصحف تختزل المعرفة وتبَّسطها وتجعلها مشتركا بين متشابهين في وعيهم، ترى ماذا كان سيقول في هذا العصر الذي بدت معه التفاهة والسذاجة عنواناً تختبئ وراءه كثير من الدعاوى العريضة كالجدل الذي يدور بين حين وآخر حول فناء الصحافة الورقية وبقاء الصحافة الرقمية!

وبهذه المناسبة؛ التحية للزميلة « الشرق الأوسط » الصحيفة العربية الرائدة؛ التي جددت هذه الأيام محتوى رقميا مواكبا لتطور الصحافة العصرية، دون أن يكون ذلك خصما على تصميمها الورقي الأنيق والأخاذ!