الزمن الموحش
الثلاثاء / 18 / شوال / 1444 هـ - 20:50 - الثلاثاء 9 مايو 2023 20:50
كنت بصدد تخصيص جملة من المقالات في هذا العمود حول الكتب التي كان لها بالغ الأثر في حياتنا الأدبية وفي الآن ذاته عانت أشكالا من القمع والمطاردة والطرد، ووضعت في ذلك قائمة، كان من ضمنها رواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر»، هذه الرواية التي نودي بِحرقها ضمن ما تمارسه بعض الأطراف في البلاد المصرية من وصاية على الفكر العربي وعلى الإبداع، ولكن فوجِئت بخبر رحيل الروائي، فانحرفت عن الموضوع قليلا وخصصت المقال للحديث عن أمرين، عن حيدر حيدر الروائي وعن رحيل جيل من الكتاب -هو بصدد الانقراض- ممن آمنوا بقضايا كرسوا أعمارهم لها، وحلول جيل -له المستقبل- من كتاب المنصات الافتراضية، يأكلون من انتباه القراء القسط الأوفر، ويطلع عليهم الملايين من معجبيهم ويشتري كتبهم الآلاف من متابعيهم.
لم يكن حيدر حيدر مكثرا في الكتابة، ولكنه تميز بكتابة نوعية ثرية تركزت أساسا حول الكتابة السردية، ومن أعماله، «الزمن الموحش» (1973)، و«الفهد» (1978)، و«مرايا النار» (1992)، و«شموس الغجر» (1997)، «وهجرة السنونو» (2008) التي تحوي أصداء من سيرته الذاتية. وله في القصة: «حكايا النورس المهاجر» (1968)، و«الوعول» (1978)، و«التموجات» (1982)، وغيرها. وقد حاول أن يدون بعضا من رؤاه في رحلاته وتنقلاته ومنفاه، فكان كتاب «أوراق المنفى- شهادات عن أحوال زماننا» (1993)، هذا المنفى الذي صنعه وأثرى تجربته من جهة وسارع في إنهائه من جهة ثانية، ذلك أن الكاتب قد صمت منذ زمن إيمانا بالعجز عن التغيير، يصف منفاه الطوعي وما كان له من أثر في نفسه في كتابه «أوراق المنفى، شهادات عن أحوال زماننا» يقول، وهو صاحب المنفيين اختيارا وإجبارا: «يوم اختصمت مع نفسي وأسرتي، قلت للمرأة التي اشتجرت معها: لا بد من رحلة طويلة تستغرق بقايا زهرة العمر. ويوم تناثر الحلم واختصمت مع الوطن، رنت تحت الضلوع ساعة الرحيل، آنذاك قلت للسفر: كن رياحي التي تحملني على أمواج الجنون، وانثرني في العراءات الغريبة والمنافي التي لا عودة منها. هكذا بدأت الرحلة على دروب علاء الدين: درب الحريق، ودرب الغريق، ودرب السد الموغِل فيه لا يرَد. في ذلك الزمن الذي يبدو الآن سحيقا على شاشة الذاكرة، كان العالم في ما وراء حدود الوطن، عبر أحلامي، نوعا من الهيولى الأولى لبداية التكوين، وحواسي ستكتشف هذا الغمر الملون وأنا أنقذف كالسهم في المغامرة الغامضة، خلال ثلاثة عشر عاما من الزوغان والفوضى واضطراب الأزمنة وخفقان الموت وعشق النساء والقتال السري والعلني، صقِلت الروح كما تصْقَل حجارة الشواطئ بأمواج البحر، وعلى مدى هذه السنوات العجاف ضرِب الجسد والقلب بوهج البرق وهزيم الرعد ورعشة الجنون»، تلك جوانب من المؤثرات التي صنعت كاتبا عانى من واقعه كبير معاناة وعمل على نقْل هذا الحمل في كتاباته. يموت جيلٌ من الروائيين عايش أحلاما عظاما وآمن بوطن يسير نحو التحقق والكون، حيدر حيدر، الروائي السوري الذي رحل عن هذا العالم، هو من جيلٍ سائرٍ إلى الانقراض، من جيل خلفته الأزمات العربية المتلاحقة، وخاصة هزيمة 1967 التي كان لها بالغ الأثر في تأسيس توجهات في الكتابة الروائية صنعت قسما من أمجاد الرواية العربية، جِيل -أَعده أنا الداخل في زمن المهيَئين للانقراض- مؤسسٌ لخط في الكتابة الأدبية يعسر أن يستَعاد، ضم في الأدب القصصي والروائي عبد الرحمن منيف وحنا مينة وإدوار الخراط وصنع الله إبراهيم ويحيى الطاهر عبد الله وجمال الغيطاني وغيرهم كثير، وقد كان لهذا الجيل فضْل نقْلِ الهزيمة العربية إلى أعمال روائية، هذه الهزيمة التي لم تكن في عمقها هزيمة حربية بين العرب والكيان الصهيوني، بل كانت فشلا للمشروع العربي في التحقق والتقدم والحرية، كانت هزيمة نفسية ويقينا بأن لا خلاص وإيمانا بفشل التصورات الفردية والجمعية في بناء وطن أفضل. لم تَجد أرض سوريا بحيدر حيدر فقط في هذا الجيل المبدع الحامل لقضية، بل رافقه في هذا الجيل، ممدوح عدوان (1941- 2004) المسرحي والشاعر والروائي، وسعد الله ونوس (1941- 1997)، المسرحي الفاتح لأبوابٍ في كتابة المسرح كانت من قبله مغلَقة، وهاني الراهب الروائي المنسي عربيا (1939- 2000)، جيل ارتفع بحمْل القضية العربية وفتح في الكتابة مسارات جديدة في ما اصطلِح على تسميته بالواقعية الاشتراكية، أو تيار الوعي. حمل حيدر حيدر شخصياته أبعادا معنوية، وجعلها حمولات سياسية وثقافية، فكانت مادة حكايته مبنية على شخصيات دالة تحمل وعيا بالراهن الوجودي وبالحمل التاريخي وبالقاتم القادم، هي الشخصيات المأزومة المهزومة التي كونت أعمالا عديدة لهذا الجيل، وأزعجت في وجودها القولي الخطابي بأفعالها وأقوالها واقعا يروم إلى الاستكانة والركود والرضى بالحال، فأضجرت قوى قائمة، وكانت حكاية «وليمة لأعشاب البحر» وما نتج عنها من خلاف في الواقع المصري بعد عقدين من زمن ظهورها. طبعة أولى للرواية سنة 1983، مرت دون أن تثير ضجة، ثم أعيد طبعها في مصر سنة 1999 بواسطة الهيئة العامة لقصور الثقافة، فأثار نشرها هرجا ومرجا، وخرجت مظاهرات رافضة لها، وتقاتل الناس في شأنها، ودارت الرواية «كعب داير» بين أروقة المحاكم. ولمصر ودوائرها القضائية تاريخ كبير في محاكمات الكتب والكتاب، تفصل بين الزوج وزوجته، وتكفِر مسلما يقول أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإضافة إلى محاكمات «ألف ليلة وليلة» المشهورة، يمكن أن نذكر على سبيل المثال فقط وجها من هذا التاريخ المشرف للمحاكم المصرية في قَبْر الكتاب، محاكمات الكتب التالية: علي عبدالرازق «أصول الحكم في الإسلام»، طه حسين «في الشعر الجاهلي»، محمد أحمد خلف الله «الفن القصصي في القرآن الكريم»، نصر حامد أبو زيد «نقد الخطاب الديني»، هذا التاريخ المجيد من محاكمات الكتاب والكتب، هو الذي دفع عددا من المثقفين إلى القول بأن مصر بمواقفها هذه، وبما أقامته من محاكم التفتيش ستكون مثار سخرية العالم والأجيال القادمة، في نفس هذا السياق أقيمت محاكمة رواية «وليمة لأعشاب البحر» ونودي بحرقها بعد إيقاف توزيعها وتحويلها إلى المحاكمة. وليس ببعيد عن أروقة المحاكم، خاض المثقفون خلافا موازيا بين منتصر للرواية ولافظ لها رافض، من ذلك، انتصار جابر عصفور للرواية واعتبارها من أهم الآثار الروائية الفاعلة في تاريخ الرواية العربية، في حين رأى رجاء النقاش ومحمود الرميحي أن قراءتها مضيعة للوقت، وأنْ لا وليمة فيها. ومن الحسن أن يخوض النقاد في روايةٍ إعجابا ونفورا، ومن محاسن هذه الرواية أيضا أن أخرجت الناس إلى الشارع، وأنها تحولت موضوع نقاش العامة والخاصة، كل هذا يشكل ظاهرة تفاعلية مهمة، ولكن من المسيء أن تصبح الرواية معتَقَلة وأن يجلس القاضي ومستشاروه وأن يضيعوا وقتهم في محاكمةٍ سيسخر منها التاريخ، وتبقى الرواية قائمة على فناء ساجنيها، كما بقيت «ألف ليلة وليلة»، وبقيت كتب السهروردي، والغزالي، وابن رشد. أوَ نحاكم الجاحظ والتوحيدي والمعري والمتنبي وامرؤ القيس وعمر بن أبي ربيعة وصاحب العقد الفريد وصاحب الأغاني، وغيرها كثيرٌ، وهي كتب احتوت من واقع الحياة ما صارَ يخْجِل حراس الأخلاق؟
لم يكن حيدر حيدر مكثرا في الكتابة، ولكنه تميز بكتابة نوعية ثرية تركزت أساسا حول الكتابة السردية، ومن أعماله، «الزمن الموحش» (1973)، و«الفهد» (1978)، و«مرايا النار» (1992)، و«شموس الغجر» (1997)، «وهجرة السنونو» (2008) التي تحوي أصداء من سيرته الذاتية. وله في القصة: «حكايا النورس المهاجر» (1968)، و«الوعول» (1978)، و«التموجات» (1982)، وغيرها. وقد حاول أن يدون بعضا من رؤاه في رحلاته وتنقلاته ومنفاه، فكان كتاب «أوراق المنفى- شهادات عن أحوال زماننا» (1993)، هذا المنفى الذي صنعه وأثرى تجربته من جهة وسارع في إنهائه من جهة ثانية، ذلك أن الكاتب قد صمت منذ زمن إيمانا بالعجز عن التغيير، يصف منفاه الطوعي وما كان له من أثر في نفسه في كتابه «أوراق المنفى، شهادات عن أحوال زماننا» يقول، وهو صاحب المنفيين اختيارا وإجبارا: «يوم اختصمت مع نفسي وأسرتي، قلت للمرأة التي اشتجرت معها: لا بد من رحلة طويلة تستغرق بقايا زهرة العمر. ويوم تناثر الحلم واختصمت مع الوطن، رنت تحت الضلوع ساعة الرحيل، آنذاك قلت للسفر: كن رياحي التي تحملني على أمواج الجنون، وانثرني في العراءات الغريبة والمنافي التي لا عودة منها. هكذا بدأت الرحلة على دروب علاء الدين: درب الحريق، ودرب الغريق، ودرب السد الموغِل فيه لا يرَد. في ذلك الزمن الذي يبدو الآن سحيقا على شاشة الذاكرة، كان العالم في ما وراء حدود الوطن، عبر أحلامي، نوعا من الهيولى الأولى لبداية التكوين، وحواسي ستكتشف هذا الغمر الملون وأنا أنقذف كالسهم في المغامرة الغامضة، خلال ثلاثة عشر عاما من الزوغان والفوضى واضطراب الأزمنة وخفقان الموت وعشق النساء والقتال السري والعلني، صقِلت الروح كما تصْقَل حجارة الشواطئ بأمواج البحر، وعلى مدى هذه السنوات العجاف ضرِب الجسد والقلب بوهج البرق وهزيم الرعد ورعشة الجنون»، تلك جوانب من المؤثرات التي صنعت كاتبا عانى من واقعه كبير معاناة وعمل على نقْل هذا الحمل في كتاباته. يموت جيلٌ من الروائيين عايش أحلاما عظاما وآمن بوطن يسير نحو التحقق والكون، حيدر حيدر، الروائي السوري الذي رحل عن هذا العالم، هو من جيلٍ سائرٍ إلى الانقراض، من جيل خلفته الأزمات العربية المتلاحقة، وخاصة هزيمة 1967 التي كان لها بالغ الأثر في تأسيس توجهات في الكتابة الروائية صنعت قسما من أمجاد الرواية العربية، جِيل -أَعده أنا الداخل في زمن المهيَئين للانقراض- مؤسسٌ لخط في الكتابة الأدبية يعسر أن يستَعاد، ضم في الأدب القصصي والروائي عبد الرحمن منيف وحنا مينة وإدوار الخراط وصنع الله إبراهيم ويحيى الطاهر عبد الله وجمال الغيطاني وغيرهم كثير، وقد كان لهذا الجيل فضْل نقْلِ الهزيمة العربية إلى أعمال روائية، هذه الهزيمة التي لم تكن في عمقها هزيمة حربية بين العرب والكيان الصهيوني، بل كانت فشلا للمشروع العربي في التحقق والتقدم والحرية، كانت هزيمة نفسية ويقينا بأن لا خلاص وإيمانا بفشل التصورات الفردية والجمعية في بناء وطن أفضل. لم تَجد أرض سوريا بحيدر حيدر فقط في هذا الجيل المبدع الحامل لقضية، بل رافقه في هذا الجيل، ممدوح عدوان (1941- 2004) المسرحي والشاعر والروائي، وسعد الله ونوس (1941- 1997)، المسرحي الفاتح لأبوابٍ في كتابة المسرح كانت من قبله مغلَقة، وهاني الراهب الروائي المنسي عربيا (1939- 2000)، جيل ارتفع بحمْل القضية العربية وفتح في الكتابة مسارات جديدة في ما اصطلِح على تسميته بالواقعية الاشتراكية، أو تيار الوعي. حمل حيدر حيدر شخصياته أبعادا معنوية، وجعلها حمولات سياسية وثقافية، فكانت مادة حكايته مبنية على شخصيات دالة تحمل وعيا بالراهن الوجودي وبالحمل التاريخي وبالقاتم القادم، هي الشخصيات المأزومة المهزومة التي كونت أعمالا عديدة لهذا الجيل، وأزعجت في وجودها القولي الخطابي بأفعالها وأقوالها واقعا يروم إلى الاستكانة والركود والرضى بالحال، فأضجرت قوى قائمة، وكانت حكاية «وليمة لأعشاب البحر» وما نتج عنها من خلاف في الواقع المصري بعد عقدين من زمن ظهورها. طبعة أولى للرواية سنة 1983، مرت دون أن تثير ضجة، ثم أعيد طبعها في مصر سنة 1999 بواسطة الهيئة العامة لقصور الثقافة، فأثار نشرها هرجا ومرجا، وخرجت مظاهرات رافضة لها، وتقاتل الناس في شأنها، ودارت الرواية «كعب داير» بين أروقة المحاكم. ولمصر ودوائرها القضائية تاريخ كبير في محاكمات الكتب والكتاب، تفصل بين الزوج وزوجته، وتكفِر مسلما يقول أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإضافة إلى محاكمات «ألف ليلة وليلة» المشهورة، يمكن أن نذكر على سبيل المثال فقط وجها من هذا التاريخ المشرف للمحاكم المصرية في قَبْر الكتاب، محاكمات الكتب التالية: علي عبدالرازق «أصول الحكم في الإسلام»، طه حسين «في الشعر الجاهلي»، محمد أحمد خلف الله «الفن القصصي في القرآن الكريم»، نصر حامد أبو زيد «نقد الخطاب الديني»، هذا التاريخ المجيد من محاكمات الكتاب والكتب، هو الذي دفع عددا من المثقفين إلى القول بأن مصر بمواقفها هذه، وبما أقامته من محاكم التفتيش ستكون مثار سخرية العالم والأجيال القادمة، في نفس هذا السياق أقيمت محاكمة رواية «وليمة لأعشاب البحر» ونودي بحرقها بعد إيقاف توزيعها وتحويلها إلى المحاكمة. وليس ببعيد عن أروقة المحاكم، خاض المثقفون خلافا موازيا بين منتصر للرواية ولافظ لها رافض، من ذلك، انتصار جابر عصفور للرواية واعتبارها من أهم الآثار الروائية الفاعلة في تاريخ الرواية العربية، في حين رأى رجاء النقاش ومحمود الرميحي أن قراءتها مضيعة للوقت، وأنْ لا وليمة فيها. ومن الحسن أن يخوض النقاد في روايةٍ إعجابا ونفورا، ومن محاسن هذه الرواية أيضا أن أخرجت الناس إلى الشارع، وأنها تحولت موضوع نقاش العامة والخاصة، كل هذا يشكل ظاهرة تفاعلية مهمة، ولكن من المسيء أن تصبح الرواية معتَقَلة وأن يجلس القاضي ومستشاروه وأن يضيعوا وقتهم في محاكمةٍ سيسخر منها التاريخ، وتبقى الرواية قائمة على فناء ساجنيها، كما بقيت «ألف ليلة وليلة»، وبقيت كتب السهروردي، والغزالي، وابن رشد. أوَ نحاكم الجاحظ والتوحيدي والمعري والمتنبي وامرؤ القيس وعمر بن أبي ربيعة وصاحب العقد الفريد وصاحب الأغاني، وغيرها كثيرٌ، وهي كتب احتوت من واقع الحياة ما صارَ يخْجِل حراس الأخلاق؟