أعمدة

دلالات الفضاءات المكانية في مجموعة «قناص في مضيق»

تُعدُّ مجموعة (قناص في مضيق) لزاهر السالمي الصادرة عن دار الانتشار العربي عام 2014م المجموعةَ الشعرية الثانية للشاعر بعد مجموعته (عبوة ناسفة) الصادرة عن دار شرقيات عام 2007م، وتأخذ مجموعة (قناص في مضيق) اتجاها نثريا في كتابتها الشعرية قدّمها الشاعر بلغةٍ امتزجت بالهدوء والبساطة والتركيز في اختيار المفردة وبناء الدلالة.

كما تنبني نصوص المجموعة على الاختصار دون الحاجة إلى الإطالة والخروج عن المراد الشعري للفكرة، وهذا ما يجعل الفكرة تدور في إطار مرجعي واحد دون أي تمدّد أو استطالة. إلا أنّ السالمي -كما نقرأ في المجموعة- يتكئ في بناء نصوصه على دلالات الفضاء المكاني وسياقاته الزمنية؛ فنجد حضورا طاغيا ومتنوعا للفضاءات المختلفة في نصوص المجموعة؛ فنجد النصوص تتشكّل من فضاءات المدن والقرى، أو فضاءات الطبيعة، أو فضاءات المنازل، أو الفضاءات المغلقة كالقبور، والفضاءات المتخيّلة والغيبية كالحلم مستعينا بها الشاعر لبناء صُوَره الشعرية المختلفة.

أقف في هذه القراءة على بعض نصوص المجموعة متأملا هذه الفضاءات التي استحضرها الشاعر؛ ففي نص (مروّض الريح) يمزج الشاعر بين فضاءات مختلفة صانعا منها مكانا للحركة، والانتقال من فكرة إلى أخرى ومن صورة إلى أخرى؛ نجد هذا التنوع في الفضاءات السماوية التي يُمثّلها التحليق، والفضاءات الأرضية التي يُمثّلها المسير، والفضاءات المغلقة التي تُحيل على القبور والرفات، والفضاءات المفتوحة التي تأخذ من المدينة اتساعا لتشكّلها، كما يحضر الفضاء الحلم الذي يأخذ من الغيبي أو المتخيّل صورةً في بناء النص، ثم يعمل على تكرار هذه الفضاءات من موضع إلى آخر بناء على تركيبته الشعرية، يقول في النص:

لم يعد التحليقُ حلما يتكرّرُ كل ليلة

لم تعد روحي خفيفة

أثقلتها الأرض

هياكل صخرية

لنساء ورجال

وثبوا من رفاتهم

ليُشكّلوا جسدَ المدينة

بلا جدوى

يتدلى

رأسُ المدينة

إلى البحر

حينما الطيران

كان

الحلم الأكثر تكرارا

كنت أحتاجُ فقط

أن أنشرَ ذراعي، وأترك جسدي للريح

الكوارثُ أرضية

لذلك كنتُ في الأعالي

أما الصواعق وما رافقها

من مكائد الآلهة

في الليالي الأشدّ رعبا

فلم تكن ناجزة

في ليالي المطاردات

كنت

أحتاج فقط

رئة عدّاء مسافات طويلة

العدّاء، مروّض الريح

يقتفي

زفيرَ الحشود

خط النار

نهاية حتمية

للمضمار

حيث

تتكشفُ صدور

القتلى

تطلعُ الفاكهة

أيها العدّاء

لا تفكر كثيرا...

عليك أن تتكئ على جرعة من

قنينة

خبّأتها ليوم عودة

تنفّس عميقا

.

.

.

انطلق.

لا يمكن المرور على نصوص المجموعة دون الاستئناس بدلالات الفضاء المكاني؛ ونحن نقرأ نصوصا مثل: (معبد، ومروّض الريح، ومدينة، وطوفان، وOylat، وفراق، وقرية، وجسر، والكنز) نلمح ذلك التركيب والاستعادة المكانية؛ ففي نص (Oylat) نجد الحضور الدلالي للفضاء ومحاولة التركيز على المدينة في بناء مشهد بصري مكاني في النص، ويظهر لنا الوصف معبّرا عن فضاء ممتزج بين الطبيعة والمدن: (قرية جبلية، في أعلى نقطة من الأطلس. ثلاثة فنادق صغيرة، تطلّ على ساحة، وشلال. في الساحة

شباب ورفيقاتهم

عائلات

أطفال يمرحون

خفافيش

تفتحُ الشرفات عينيها على غابةٍ لا متناهية

الصيف دافئ، هواء ناعم وبليل

يتسلل إلى الأوردة.

كما ينتقل الوصف الشعري من فضاء إلى آخر؛ فنجده ينتقل من فضاء واسع متمثل في الجبل إلى فضاء أكثر اتساعا متمثل في (مدينة بورصة التركية) والعودة إلى فضاء مغلق داخل المدينة متمثل في الحانة:

من على الجبل

أنزلقُ..

إلى بورصة

تستقبلني حانة

صوت أناضولي

كوبرا... تتلوى لذيذة

يستقبلني جموحكِ.

هذا الانتقال تقابله محاولة مستميتة في رسم علاقة واضحة مع الآخر، أيا كان الآخر المتمثل في الخطاب في مفردة (جموحكِ)، المنعكس من واجهة المدينة الحاضرة في النص الشعري.

ويقودنا نص (فراق) إلى الفضاءات المتعددة المغلقة المرتبطة بالبيت، وهنا تظهر العلاقة مع الآخر/ المكان؛ إذ يبدأ النص بالوصف مُظهرا المكان في لحظة الارتباط اليومي، فيصف الشاعر البيت مبيّنا فضاءاته المتشكلة من ذاكرة الشاعر ووجدانه:

البيت:

غرفتا نوم

صالة طعام ألحقنا بها المكتبة

في غرفة المعيشة، علَقتِ

ابتسامة الموناليزا

وفي المطبخ

تركت على باب الثلاجة

تذكارات الرحلات القليلة

روجيه فيدرر وهو يبكي

وقصيدة الهادي آدم مع أم كلثوم

البيت:

منامة صغيرة

أجرجرها مع كل ليل

إلى أمام التلفاز

لأشاهد:

House Of D

وهنا يظهر الارتباط بين النص ودلالة البناء؛ فحضور المكتبة، وصالة الطعام، والمطبخ في النص لهم دلالة في عملية الارتباط بالمكان/ البيت، وكذلك لحظة مشاهدة التلفاز واقترانها بالفيلم (House Of D) الذي يعدّ البيت فيه عنصرا مهما في بناء الأحداث.

ولعلّي أنهي استحضار الفضاءات المكانية الحاضرة في المجموعة بالوقوف على نص (قرية) الذي استطاع الشاعر من خلاله بناء قيمة وجدانية واستعادة ذاكرة سابقة، وحنين إلى الماضي رغم سقوط سقف بنيان الماضي، وانهيار أضلاع بيته، وتركه أهله.

وهنا تقوم الفضاءات المكانية ببناء جسر من الذاكرة إلى النص محاوِلةً النبش في كل ذاكرة واستعادتها وتثبيتها في الكتابة. إنّ القرية هنا ذاكرة، وحنين، وانتماء أول يحاول الشاعر التماهي معه وعدم فقدانه مطلقا:

لم يزل يعقوب

في القرية

يحومُ

بين البيت القديم والمزرعة

البيت القديم

انهارت أضلاعه

سقط سقفه

أخلاه أهله

لكنّ يعقوب

لم يزل وحده

في غرفة المكتبةِ

لم يزل يعقوب

يحومُ

في القرية

بين البيت القديم

والمزرعة

لا يجد إلا ظلَّه

إذن تقوم مجموعة (قناص في مضيق) على الاشتغال على فضاءات مختلفة معيدةً توظيفها في النصوص توظيفا يدل على قيمة كل فضاء مكاني، كما تبرز النصوص القيمة الفنية لهذه الفضاءات مُشكّلة منها تعبيرا شعريا يتقاطع مع الزمن الشعري والفكرة المتخيلة.

خالد المعمري كاتب عماني