أفكار وآراء

لمن نكتب؟

مهما تبدّلت وسائلُ الكتابة وأدواتها تبقى واحدةً من أقوى وسائل التأثير؛ سواء كان تأثيرا في الذات، أو في المتلقي من مستقبليها عبر شتى وسائلها، ولا يمكن -حتى مع هذا العالم المفتوح رقميا- إنكار شأن الكتابة وتأثيرها، سلبيا كان أم إيجابيا، كما لا يمكن القفز إلى إجابات لأسئلة محورية دون الوقوف على أخرى هي منطلقها وفيها مداراتها، وحين يطرح الكُتَّاب على أنفسهم سؤال: «لمن نكتب؟» لا يمكن بأي حال تجاوز أسئلة «ما هي الكتابة؟ ولماذا نكتب؟».

وفي هذا وحوله يختلف الكتّاب ويتباينون، انطلاقا من فعل الكتابة ذاته، في كينونته الذاتية المهتمة بالأنا وتجلياتها وحاجاتها، أو كينونته الموضوعية المتمركزة حول الموضوع ومتلقيه ورسالته؟

الكتابة الذاتية لا تعنى بالمتلقي وآرائه ومتطلباته وتأويله فالكاتب حينها يكتب ذاته ويكتب لذاته دون كبير عناية بالآخر في تلقيه هذه الرسالة، وقد عبّر بعضهم عن ذلك بتعال لا يخفى في قوله بأن كتابته لقارئ غير موجود أو أنه يكتب لنفسه كما يخبرنا عن ذلك الروائي البرازيلي «باولو كويلو» في وصفه لكتّاب الستينيات الذين كانوا يرون بأن «من واجب الكاتب ألا يكون مفهوما من جيله وإلا فانه لا يعود عبقريا أبدا، وحدهم الكتاب الآخرون يفهمون ما يعنيه الكاتب ومع ذلك فهو يكره الكتاب الآخرين سرا لأنهم يسعون إلى الأمكنة نفسها التي يحفظها تاريخ الأدب عبر العصور، الكتاب الذي ينجح في أن يكون الأصعب يعد الأفضل». وقبل ذلك تمثُّل كثيرٍ من الكُتَّاب في غموض كتابتهم رد الشاعر العباسي أبي تمام حين سأله الفيلسوف الكندي: «لماذا تقول ما لا يُفهم؟ فردّ الشاعر على الفور بسؤال للسائل: «ولماذا لا تفهم ما يُقال؟» وبعيدا عن هذا التعالي والتصادم بين الكاتب وقرائه، تتشكل الكتابة مساحة أخرى للراحة والتخلص من ثقل الصمت بكتابة ما لا يقال، هنا لا تعدو الكتابة كونها فعل توثيق وتطهير لا يتجاوز أنا الكاتب، سواء كانت تلك الأنا مقهورة منهكة هدفها التنفيس والتطهير والسلام الداخلي أو كانت أنا متعالية مغرورة تجد في الكتابة توثيقا لأثرا خالدا يرفض الموت ويأبى الفناء، بل ويجد في أثره الخالد بالكتابة فضلا للذات على الآخرين من البشر الذين يستقبلون هذا الأثر وقد يقتفونه.

الكتابة الموضوعية وإن كان الكاتب هو المرسل بها والطرف الأول إلا أنها تعنى بالموضوع (مادة الكتابة) أكثر من عنايتها بالذات وليست الذات بها إلا ناقل لرسالة الكاتب لمتلقيه من جمهور القراء الذين يحاول مشاركتهم موضوعه وأفكاره وآراءه وتصوراته ومقترحاته، كل ذلك متضمنا رسالة قيمية أخلاقية أو فكرية اجتماعية تسعى بناء الوعي وتنمية المجتمع. ولا يمكن ادعاء انتفاء الذاتية من الكتابة الموضوعية، إذ أن الموضوع يعتمد على اختيار الكاتب الذي لا يخلو من انحياز وذاتية؛ حيث المفاضلة والتحديد في طرح فكرة ما، أو في نقد أخرى، أو في تصورات لغد أجمل وواقع أفضل.

مهما اختلفنا أو توافقنا مع أي من الفريقين فلا يمكن إنكار حرفتهم في الكتابة، وتمكنهم من وسائلها منطلقين إما من رغبة جامحة في الخلود، أو من شعور بالمسؤولية المجتمعية والإنسانية.

لكن بين هؤلاء وأولئك يتكاثر بعض مدعي الكتابة ومتصنعي التأثير ممن يتعلقون بالذاتية لا في سعيهم للخلود، وإنما في خدمة ذواتهم نفعيا باستغلال الكتابة مادة لتسلقهم وصولا لغاياتهم المادية أو طموحاتهم الحياتية، ثم يتعلقون بالموضوعية في تقافزهم الوصولي على موضوعات اجتماعية أو فكرية لمجرد أنها عتبات تصل بهم لمبتغاهم، حتى وإن نكأوا بها جرحا أو زرعوا فيها فتنة. وقد حفل التاريخ بالأنواع الثلاثة في كل مكان وزمان، غير أنهم يتكاثرون في عصرنا الحالي مع كل ما تيسر لهم من أدوات الزيف وأساليب الخداع، ثم تسارع الوصول عبر وسائل انتشار رقمية تمنحهم رحابة التلقي وسرعة الانتشار وقوة التأثير، خصوصا إن ما توافر لهم في مجتمع التلقي وعيا مسطّحا وفكرا مُفرغا إلا من البدع والتُرَّهَات.

فلمن نكتب؟

لذواتنا التي يمكن أن تحقق معادلة الذات/ الموضوع بمشقة بالغة، ولها ونحن نستحضر كل أذى تعرّضت له أو تقمَّصته حين تصير الكتابة مساحة للتطهير وفضاءات للتنفيس والتخلص من كل تراكمات الماضي وعقده، ولأنفسنا حين نرتقي بقيمة الإنسان الجمعي الذي يكتب ذاته للآخرين ويكتبها فيهم، فيسعد بذلك ويسعدون بكونه مرآة حيواتهم وآلامهم ورؤاهم، فيتبعون أثره حيثما كان، حتى بعد غيابه، ثم لأولئك الآخرين الذين نخبئ لهم الكثير ونريده عبر الكتابة جسرا بيننا، ولنا ولآخرين لم يهدهم العمر ملكة الكتابة العظيمة لتوثيق ذلك، ثم لنا ونحن نؤمن بأن الكاتب رسول إنسانيته ومجتمعه وأن رسالته تقتضي منه الكتابة متضمنة قيما نبيلة ومعاني سامية، لا تبلى مع الوقت ولا تزول مع الانفتاح، بل تنمو وتقوى.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية