في الحكم المسبق على الظاهرة الاجتماعية
السبت / 8 / شوال / 1444 هـ - 20:34 - السبت 29 أبريل 2023 20:34
تنطلق هذه المقالة من سلسلة تغريدات كتبتها على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، وهنا أحاول تأصيل الفكرة بشكل أكثر عمقًا وربطها بسياق التحولات الاجتماعية الراهنة في المجتمع الخليجي. قلت في سلسلة التغريدات إنه ما من مرحلة يمُكن أن تنشط فيها (القراءة الاجتماعية الجادة) لحالة التغير الاجتماعي في مجتمعات الخليج مثل هذه المرحلة. التغير الاجتماعي اليوم تقودهُ الدولة وتسرع محركاته التنمية الموجهة من الأعلى، ومعها يختبر المجتمع أنماطا من التكيف والتواكب والتشكل. يمكن القول إنه في حالة المجتمع الخليجي الراهنة ستدرك كافة التكوينات (الدولة - حقل الأكاديميا - الفاعلون الاقتصاديون - المجتمع) أن البحث والتنقيب ومأسسة مراكز الفكر والدراسات الاجتماعية في هذه المرحلة ليست ترفًا؛ وإنما ضرورة وجود؛ العجلة تدور بأقصى سرعتها، والقراءة الاجتماعية الجادة عنصر اتزان. وأعتقد أن جيلنا والجيل القادم من المهتمين بالعلوم الاجتماعية وعلى رأسها علم الاجتماع سيظل أمام مأزق (كفاءة النظرية الاجتماعية في تفسير الحالة الاجتماعية). عُدة الباحث الجيد هي التجديد، ورهانه التجاوز إلى نقد كفاءة النظرية والتنقيب في البدائل. وختمت السلسلة بالقول إن القراءة الاجتماعية الجادة هي القراءة التي لا تهمل كافة العناصر المحيطة بالظاهرة/ القضية/ الموضوع/ المشكلة، ولا تتجاوز كل محيطاتها إلى قراءة ظرفية.
كان منطلق السلسلة السابقة هو تساؤل منهجي: متى يمكن أن يكون استشرافنا لمستقبل الظاهرة الاجتماعية استشرافًا منهجيًا؟. وأقصد بالاستشراف المنهجي هنا ذلك الذي يتجنب ثلاثة مآزق:
1- استتباع أحداث ومسارات الحادثة التاريخية وإسقاطها على الظاهرة الراهنة دون وعي بتغير العوامل والمحددات.
2- الحكم المسبق على مسارات الظاهرة دون إخضاع تلك الأحكام للتجربة أو القياس.
3- عدم مراجعة الانحيازات المعرفية للباحث أو المحلل حين محاولته تبين المسارات التي يمكن أن تسير فيها الظاهرة.
لا يمكن لمُراجع أن يغفل حالة التغير الاجتماعي المتسارع التي تعيشها بعض مجتمعات الخليج، في سياق سعيها لتشكيل مجتمعات أكثر أهبة وتهيئة لاستدماج الآخر، وفي ظل سباقها نحو تحريك كافة الأبعاد والمحددات التي تمكنها من بناء تنافسيتها الاقتصادية. هذا التغير تقوده (الدولة) بإحكام عبر مسار تحديث التشريعات، وخلق أنظمة وإجراءات جاذبة للمواهب والمستثمرين، والاهتمام بأنماط جودة الحياة، وتعزيز الحراك الطبقي بين الطبقات الاجتماعية. ميزة هذا التغير أنه (تراكمي Cumulative – متعدد الأوجه Multi-faceted – ولا يمكن التنبؤ به Unpredictable). وفي المقابل لا تزال القراءة الاجتماعية الجادة قاصرة في محاولة استيعاب هذا التغير. والحكم بقصورها مرتد إلى ثلاث علامات أساسية:
- أدبيات هذه القراءة من حيث كم الدراسات والمقالات والكتب والمناقشات المنشورة والتي يمكن الاعتداد بها كقراءات منهجية إزاء عملية التغير الاجتماعي.
- مدى قدرة هذه القراءة الاجتماعية على تنوير السياسة العامة أو مدى قدرة صانع السياسة العامة على استدماجها في صنع السياسات العامة المفضية إلى التغيير الاجتماعي.
- ضعف ومحدودية التطور في منهجيات القراءة والتحليل الاجتماعي مقارنة بغيرها من أدوات ومنهجيات القراءة والتحليل والتنبؤ الاقتصادي والسياسي وسواها.
من مصلحة الدولة في الخليج اليوم دفع الباحثين في علم الاجتماع تحديدًا إلى الاقتراب أكثر من هيكل صنع السياسة العامة، ونقصد بالاقتراب أشكالًا مختلفة؛ كالاستكتاب، والتدقيق السابق واللاحق على التشريع أو الاستراتيجية أو وثيقة السياسة، أو العمل على قياس الأثر المتوقع والسيناريوهات الاجتماعية الموازية. إلا أن كل ذلك قاعدته وأساسه هو أن تقوم الجماعة العلمية في علم الاجتماع في الخليج أولًا بمراكمة المزيد من الأبحاث وبمنهجيات مختلفة، تتقصد فيها كشف التغير الاجتماعي الراهن وعتباته وأسئلته من قبيل أسئلة التكيف، وأسئلة الصراع، وأسئلة الحراك الطبقي والحراك الدؤوب والحراك المجتمعي، وأسئلة القيم الصاعدة والقيم الهابطة، وأسئلة الأدوار المستجدة للمؤسسات الاجتماعية. قناعتنا أن حالة اليأس الراهنة نسبيًا في أوساط الجماعة العلمية في علم الاجتماع الخليجي لابد أن تتبدد وأن تبدأ الطريق بنقد مناهجها ونتاجها وأدواتها ومخرجاتها، ثم لتبدأ نقد هياكل التمدرس والتلقي الأكاديمي للمعرفة الاجتماعية. والأهم الكيفية التي تتواكب بها مقررات ومساقات العلوم الاجتماعية مع الواقع الراهن. ما أعلمه على وجه اليقين أن الفجوة بين الممارسة الراهنة تدريسًا وبحثًا في العلوم الاجتماعية وبين القراءة الاجتماعية الجادة لحالة التغير الاجتماعي يمكن سدها وردمها متى ما كانت لغة الفصل/ الصف الدراسي حية تجاه الواقع، ممهدة المجال لتدافع الأفكار والرؤى والمنظورات النقدية لما يعتمل فيه، ولمدى كفاءة النظرية الاجتماعية الكلاسيكية في تفسيره وقراءته. وعوضًا عن ذلك فإن مراكمة رصيد معتبر من الدراسات التي تستخدم المناهج الكيفية والكمية حيال الحالة الراهنة سيمكن أيضًا من استشراف مستقبل الظاهرة الاجتماعية بدقة تتجاوز معها القراءات العرضية والإسقاطات غير الدقيقة.
إذن ما الذي تتطلبه المرحلة المقبلة في سياق استشراف أدق للظاهرة الاجتماعية الخليجية؟ لا نريد أن نكرر الحلول (الكلاسيكية) المكررة من قبيل إنشاء مراكز الدراسات وتوسع مراكز الأبحاث. المقاربة التي نذهب إليها هي (التركيز). ومؤداه أن تتوحد جهود البحث المشتتة سواء فرديًا أو أكاديميًا أو عبر الجماعات العلمية في مشروع بحثي جامع، وحين نقول مشروع جامع لا نعني (ورقة بحث واحدة)، وإنما اتجاه واحد يشتغل عليه الجميع مرحليًا. وليكن على سبيل المثال البحث في أثر التحول الاقتصادي والاجتماعي الراهن على التركيب السكاني في هذه المجتمعات، أو عوامل تكيف المجتمعات الخليجية مع حالة التنافسية الاقتصادية ومتطلباتها في دول الخليج، أو مستوى القدرة والتهيئة الثقافية للمجتمعات في دعم عمليات التنمية الاقتصادية بمقارباتها الراهنة... تلك أمثلة من قائمة طويلة بلا شك تحفل بها المجتمعات الخليجية في حالة تغيرها الراهن، والأهم أن يكون هناك جهد بحثي جاد يؤطر المعرفة التي تسمح باستباق الظواهر الاجتماعية والتحكم بها، لا الحكم المسبق والمؤطر عليها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
كان منطلق السلسلة السابقة هو تساؤل منهجي: متى يمكن أن يكون استشرافنا لمستقبل الظاهرة الاجتماعية استشرافًا منهجيًا؟. وأقصد بالاستشراف المنهجي هنا ذلك الذي يتجنب ثلاثة مآزق:
1- استتباع أحداث ومسارات الحادثة التاريخية وإسقاطها على الظاهرة الراهنة دون وعي بتغير العوامل والمحددات.
2- الحكم المسبق على مسارات الظاهرة دون إخضاع تلك الأحكام للتجربة أو القياس.
3- عدم مراجعة الانحيازات المعرفية للباحث أو المحلل حين محاولته تبين المسارات التي يمكن أن تسير فيها الظاهرة.
لا يمكن لمُراجع أن يغفل حالة التغير الاجتماعي المتسارع التي تعيشها بعض مجتمعات الخليج، في سياق سعيها لتشكيل مجتمعات أكثر أهبة وتهيئة لاستدماج الآخر، وفي ظل سباقها نحو تحريك كافة الأبعاد والمحددات التي تمكنها من بناء تنافسيتها الاقتصادية. هذا التغير تقوده (الدولة) بإحكام عبر مسار تحديث التشريعات، وخلق أنظمة وإجراءات جاذبة للمواهب والمستثمرين، والاهتمام بأنماط جودة الحياة، وتعزيز الحراك الطبقي بين الطبقات الاجتماعية. ميزة هذا التغير أنه (تراكمي Cumulative – متعدد الأوجه Multi-faceted – ولا يمكن التنبؤ به Unpredictable). وفي المقابل لا تزال القراءة الاجتماعية الجادة قاصرة في محاولة استيعاب هذا التغير. والحكم بقصورها مرتد إلى ثلاث علامات أساسية:
- أدبيات هذه القراءة من حيث كم الدراسات والمقالات والكتب والمناقشات المنشورة والتي يمكن الاعتداد بها كقراءات منهجية إزاء عملية التغير الاجتماعي.
- مدى قدرة هذه القراءة الاجتماعية على تنوير السياسة العامة أو مدى قدرة صانع السياسة العامة على استدماجها في صنع السياسات العامة المفضية إلى التغيير الاجتماعي.
- ضعف ومحدودية التطور في منهجيات القراءة والتحليل الاجتماعي مقارنة بغيرها من أدوات ومنهجيات القراءة والتحليل والتنبؤ الاقتصادي والسياسي وسواها.
من مصلحة الدولة في الخليج اليوم دفع الباحثين في علم الاجتماع تحديدًا إلى الاقتراب أكثر من هيكل صنع السياسة العامة، ونقصد بالاقتراب أشكالًا مختلفة؛ كالاستكتاب، والتدقيق السابق واللاحق على التشريع أو الاستراتيجية أو وثيقة السياسة، أو العمل على قياس الأثر المتوقع والسيناريوهات الاجتماعية الموازية. إلا أن كل ذلك قاعدته وأساسه هو أن تقوم الجماعة العلمية في علم الاجتماع في الخليج أولًا بمراكمة المزيد من الأبحاث وبمنهجيات مختلفة، تتقصد فيها كشف التغير الاجتماعي الراهن وعتباته وأسئلته من قبيل أسئلة التكيف، وأسئلة الصراع، وأسئلة الحراك الطبقي والحراك الدؤوب والحراك المجتمعي، وأسئلة القيم الصاعدة والقيم الهابطة، وأسئلة الأدوار المستجدة للمؤسسات الاجتماعية. قناعتنا أن حالة اليأس الراهنة نسبيًا في أوساط الجماعة العلمية في علم الاجتماع الخليجي لابد أن تتبدد وأن تبدأ الطريق بنقد مناهجها ونتاجها وأدواتها ومخرجاتها، ثم لتبدأ نقد هياكل التمدرس والتلقي الأكاديمي للمعرفة الاجتماعية. والأهم الكيفية التي تتواكب بها مقررات ومساقات العلوم الاجتماعية مع الواقع الراهن. ما أعلمه على وجه اليقين أن الفجوة بين الممارسة الراهنة تدريسًا وبحثًا في العلوم الاجتماعية وبين القراءة الاجتماعية الجادة لحالة التغير الاجتماعي يمكن سدها وردمها متى ما كانت لغة الفصل/ الصف الدراسي حية تجاه الواقع، ممهدة المجال لتدافع الأفكار والرؤى والمنظورات النقدية لما يعتمل فيه، ولمدى كفاءة النظرية الاجتماعية الكلاسيكية في تفسيره وقراءته. وعوضًا عن ذلك فإن مراكمة رصيد معتبر من الدراسات التي تستخدم المناهج الكيفية والكمية حيال الحالة الراهنة سيمكن أيضًا من استشراف مستقبل الظاهرة الاجتماعية بدقة تتجاوز معها القراءات العرضية والإسقاطات غير الدقيقة.
إذن ما الذي تتطلبه المرحلة المقبلة في سياق استشراف أدق للظاهرة الاجتماعية الخليجية؟ لا نريد أن نكرر الحلول (الكلاسيكية) المكررة من قبيل إنشاء مراكز الدراسات وتوسع مراكز الأبحاث. المقاربة التي نذهب إليها هي (التركيز). ومؤداه أن تتوحد جهود البحث المشتتة سواء فرديًا أو أكاديميًا أو عبر الجماعات العلمية في مشروع بحثي جامع، وحين نقول مشروع جامع لا نعني (ورقة بحث واحدة)، وإنما اتجاه واحد يشتغل عليه الجميع مرحليًا. وليكن على سبيل المثال البحث في أثر التحول الاقتصادي والاجتماعي الراهن على التركيب السكاني في هذه المجتمعات، أو عوامل تكيف المجتمعات الخليجية مع حالة التنافسية الاقتصادية ومتطلباتها في دول الخليج، أو مستوى القدرة والتهيئة الثقافية للمجتمعات في دعم عمليات التنمية الاقتصادية بمقارباتها الراهنة... تلك أمثلة من قائمة طويلة بلا شك تحفل بها المجتمعات الخليجية في حالة تغيرها الراهن، والأهم أن يكون هناك جهد بحثي جاد يؤطر المعرفة التي تسمح باستباق الظواهر الاجتماعية والتحكم بها، لا الحكم المسبق والمؤطر عليها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان