أعمدة

«رائحة» عبدالعزيز الفارسي

 
في رسالة طارت بالبريد من باريس إلى مدينة حيفا في فلسطين يقول محمود درويش لصديق عمره سميح القاسم إن «خريفنا ليس هو الشجر المُدافِع عن بذاءة الذهب، ولكنه الرائحة». ثم يسأله بتحسّر: «فكيف ستنقل إليَّ هذه الرائحة بالرسائل؟». بيد أن السؤال الأصعب الذي لم يخطر ببال درويش في وقت كتابته الرسالة (أُرِّخت في 19 مايو 1986م)، حيث لم يظهر في منطقتنا العربية بعدُ اختراع الإنترنت وملحقاته، هو: كيف ستنقل لي الرائحة عن طريق الأقمار الصناعية أو عبر البث المباشر عبر اليوتيوب أو في فيسبوك أو زووم أو تيمز، وغيرها من عناوين التقدم العلمي الذي جعل البعيد قريبا، بل وفي غرف نومنا؟

على هذه الفكرة (فكرة نقل الرائحة) تقوم واحدة من أجمل قصص عبدالعزيز الفارسي في مجموعته الأخيرة «رجل الشرفة، صياد السحب» الصادرة عام 2016م، ألا وهي قصة «الرائحة» التي أتحدث عنها هنا بمناسبة صدور كتاب «أنطولوجيا القصة القصيرة في أدب الخيال العلمي» للباحث المصريّ الدؤوب شوقي بدر يوسف قبل عدة أيام، والذي تضمّن قصصًا تنضوي تحت هذا النوع من الكتابة لعدد من الأدباء العرب، من بينها قصة «الرائحة».

والحقيقة أن «رائحة» عبدالعزيز الفارسي يمكن أن تندرج في خانة الخيال العلمي بامتياز، رغم أن مؤلفها على ما أعلم لم يكن يعنيه خوض الكتابة في هذا النوع الأدبي بقدر اهتمامه بالتجريب وفتح آفاق الخيال على اتساعها، وتقديم رؤيته الساخرة للعالم.

تقوم قصة «الرائحة» على فكرة توصُّل مهندس كندي شاب من أصل هندي اسمه جوبال شارما سينج إلى اختراع يتيح نقل الرائحة من مكان إلى آخر. وكما يحدث في معظم المخترعات التكنولوجية الأخرى، يبدأ الاختراع بدائيًّا بسبب محدودية الإمكانات وضعف الدعم، ثم يتطور شيئًا فشيئًا بعد ذلك. فقد كان في ظهوره الأول مخصصًا فقط لأجهزة التلفاز والحاسوب فقط، لكن الشرط الذي استوجبه هذا الجهاز للعمل هو النقل الحي للحدث، بحيث لم يعد المُشاهد مُشاهدًا فحسب، وإنما شامًّا أيضا. وهذا ما غيّر - حسب السارد - نشرات الأخبار والبرامج الحية والمباريات، حيث «أبهرت تلفزيونات الرائحة العالم». وهنا يترك الفارسي لخياله العنان بتخيّل ما سيحدث، فالمُشاهِد سيشم عطر مذيعات التلفزيون، وربات البيوت سيُقبلن على برامج الطبخ المباشِرة لقدرتها على إيصال روائح الطعام اللذيذة، والمتدينون سيحبون روائح أستار الكعبة، والمساجد في الصلوات المنقولة على الهواء، وعشّاق الغناء سيتمكنون من شم روائح مطربيهم المفضلين في حفلاتهم المنقولة على الهواء، بل ويتخيّل السارد ما هو تأثير هذا الاختراع على سياحة عُمان: «انتعشت السياحة العمانية حين وصلت رائحة الخريف الظفاري واللبان لأقصى الأرض، وصار الأمريكيون يزاحموننا على العيون والسهول والشقق في صلالة». ثم يتخيّل افتتاح قناة عُمانية متخصصة في عرض العطور الزكية على مدار الساعة اسمها «العطر».

وإذا كنّا قد سلمنا أن «الرائحة» هي قصة خيال علمي، إلا أنه من الصعب حصرها في هذا التوصيف فقط، فلعبة الميتاسرد في القصة التي يمارسها المؤلف بذكاء تضعها أيضًا في خانة الواقعية السحرية، ونقد الواقع الاجتماعي، والقصة الساخرة بامتياز. فالسارد لا يتورع عن صدْمِنا بثلاث مفاجآت في نهاية القصة تقلبها رأسًا على عقِب؛ وهي اسم السارد وزمان ومكان كتابة القصة، فالسارد هو عبدالعزيز الفارسي نفسه، والمكان هو «ميترو دبيّ الفضائي»، والزمان يوم عيد ميلاد عبدالعزيز المائة في 27 أغسطس 2076م. وها نحن نكتشف أن ما كنا نقرأه عن اختراع جهاز نقل الرائحة وتطويره على أنه استشراف للمستقبل البعيد الذي لم نصل إليه بعد، بات لدى عبدالعزيز الفارسي - كاتب القصة وساردها- ماضيًا قديمًا تجاوزه الزمن، فهو الآن (أي في 2076) يتسكع في كوكب زحل بعد أن تناول «إكسير الحياة» الذي صنعه عبقريّ صينيّ ومنحه - أي عبدالعزيز- الحيوية والشباب مجددا، متيحًا له تحقيق حلمه بالاحتفال بعيد ميلاده المائة على ذلك الكوكب البعيد.

هذه النهاية الساخرة تأتي بعد أن أخبرنا المؤلف بنهاية المهندس جوبال المأساوية؛ لقد وصل إلى نسخة جديدة من الاختراع أكثر تطورًا من سابقاتها، وهي إحياء الرائحة من الصور الفوتوغرافية، وفي تجريب هذه النسخة استعاد صورة قديمة لجده رافيندر سينج، مُحيِيًا الروائح التي صاحبت التقاط الجد لصورته تلك، «ولم تكن إلا للتوابل الكثيرة المتعددة في دكانه الكبير بمومباي. انتشرت الرائحة وتكثفت». ولأن الجهاز الجديد لم يكن مهيئًا بعد للتخفيض من حدة الروائح فقد اختنق جوبال ومات. وكأنها نهاية تقول إن المخترعات الكثيرة التي يقدمها لنا العلم تطرح نفسها في البداية خادمًا مطواعًا لنا مهمته تغيير حياتنا إلى الأفضل، ثم ما تلبث أن تنقلب علينا وتتسبب ليس فقط في إشقائنا نحن المستهلِكين، بل أيضًا في قتل من كانوا سببًا في ظهورها.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني