أفكار وآراء

إفريقيا بين الحروب والتنمية

بعد سنوات الكفاح والنضال ضد المستعمر الغربي ونيل الاستقلال كانت هناك تطلعات الأجيال في إفريقيا نحو إيجاد منظومة مستدامة للتنمية الشاملة واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية لبناء إفريقيا جديدة على ضوء ما حدث في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

ولعل هذا الأمل كان ممكنا لأسباب تتعلق بالموقع الجغرافي الفريد لعدد كبير من دول القارة الإفريقية، إلى جانب المقدرات الطبيعية الكبيرة من النفط والغاز والمعادن النفيسة كالذهب واليورانيوم، علاوة على الأنهار والبحيرات الممتدة. كما أن لإفريقيا طاقات بشرية كان بالإمكان استغلال إمكاناتها من خلال خطط التعليم والانطلاق نحو عالم بعيد عن الحروب والصراعات الداخلية. وكان عدد من الدراسات الاستراتيجية يشير إلى أن وجود الحكم الرشيد في إفريقيا هو المدخل الصحيح نحو بناء إفريقيا المتطورة والحديثة، واستغلال كل المقومات، وإقامة علاقات متوازنة مع دول العالم المختلفة، وحتى مع الدول الاستعمارية في إطار الاحترام المتبادل وتبادل المصالح المشتركة ومن خلال رؤى واضحة تستند إلى وضع الدول الإفريقية على مسار التحديث والتطور. ولقد شهدت شخصيا عام ١٩٨٦ خلال قمة عدم الانحياز في زيمبابوي وفي عاصمتها هراري بزوغ تلك الآمال بعد نهاية الاستعمار البريطاني ونجاح الكفاح لشعب هذه الدولة الإفريقية التي كانت تسمى روديسيا البيضاء، حيث سيطرة الاستعمار الأبيض على زيمبابوي، وكان هدف قمة عدم الانحياز هو الاحتفاء بهذه الدولة الإفريقية التي نالت استقلالها كباقي الدول الإفريقية، والتي كان آخرها بعد سنوات دولة جنوب إفريقيا، حيث التخلص من الاستعمار العنصري. وكانت آمال الشعوب الإفريقية حاضرة في كل دول القارة، ومع ذلك فإن إفريقيا اليوم تعاني وعلى مدى عقود من انتكاسة في مجال التحديث الاقتصادي والاجتماعي، ومن خلال وجود مديونيات عالية ووجود ظاهرة الفساد التي سببت ضياع المقدرات علاوة على اندلاع الحروب والصراعات الداخلية بين القوى السياسية، والتي كان من المفترض أن تقود تلك الدول إلى عالم أفضل، كما حدث في القارة الآسيوية خاصة دول جنوب شرق آسيا، حيث تتجه اتجاها مختلفا التي حققت خلال نصف قرن طفرة صناعية وتنموية كبيرة نشير لها دوما كنموذج ناجح على صعيد الدول النامية. ومن هنا دخلت الدول الإفريقية في صراعات وحروب على السلطة والنفوذ وضاعت آمال الأجيال الإفريقية واستغلت الدول الاستعمارية ذلك المناخ، حيث استغلال الثروات الطبيعية لصالح كبرى الشركات الغربية. كما تزايدت الانقلابات العسكرية تبعا لهوى المصالح. وعلى ضوء لمحة سريعة لوضع الدول الإفريقية خاصة دول جنوب الصحراء والساحل وحتى دول شرق وغرب إفريقيا، فإن المشهد السياسي في غاية التعقيد والمؤشرات تتحدث عن نفسها، حيث الفقر والبطالة والمعاناة التي تعيشها الدول الإفريقية في ظل حروب معقدة استنزفت المقدرات وخسرت الشعوب الإفريقية فرصا محققة للانطلاق نحو التحديث والتنمية.

ونحن نتحدث عن إفريقيا فإن النموذج السوداني يظل من النماذج الصارخة في كيفية وصول هذا البلد العربي الإفريقي إلى هذا المستوى من تدني التنمية، وقد اتضح ذلك من خلال النقل التلفزيوني للشبكات الإخبارية حول الحرب بين الفرقاء في معسكري الجيش السوداني وقوات التصدي السريع. ومن هنا فإن المشهد السياسي الإفريقي عموما هو مشهد سلبي في حين نجح نموذج دول جنوب شرق آسيا، حيث إن الفكر والحكم الرشيد هو الذي حقق المعادلة الواقعية رغم أن دول جنوب شرق آسيا اكتوت بأكبر حروب العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وفقدت القارة الآسيوية الملايين من أبنائها في اليابان وكوريا قبل التقسيم وفيتنام ولاوس وكمبوديا والفلبين، وكانت تلك الحروب بسبب الاستعمار الغربي وبعضها حروب أهلية. ومن هنا يمكن القول ونحن نشهد الوضع الصعب والخطير في الحرب السودانية بأن هذا هو النموذج الإفريقي حيث سيطرة العسكريين على شؤون تلك الدول وربط مصالحهم بمصالح القوى الخارجية فهناك الصراعات والحروب والخلافات بين معظم الدول الإفريقية، هناك مشاكل في دول القرن الإفريقي، حيث الصومال وإثيوبيا وإرتيريا، وهناك دول جنوب الصحراء والساحل حيث تشاد والنيجر وهناك دول غرب إفريقيا وهناك ظاهرة الإرهاب والمهاجرين على سواحل البحر المتوسط وهناك ظاهرة الفقر والبطالة، كما تمت الإشارة. وعلى ضوء ذلك فإن إفريقيا عانت من تسلط الأنظمة العسكرية والانقلابات والحروب الأهلية والفساد وضياع المقدرات، وفي النهاية تدفع الشعوب الثمن الأكبر، وتضيع أحلام الملايين من الأجيال المتطلعة إلى حياة كريمة ومستقبل أفضل. ويظل نموذج دولة رواندا هو الأمل نحو تعافي إفريقيا ونحو إيجاد رؤية مختلفة وفكر جديد من خلاله تنطلق إفريقيا نحو عالم التحديث والتنمية الحقيقية وإيجاد مناخ يعطي الأجيال فرصة لوجود حكومات منتجة وحوكمة ورقابة حقيقية ومحاسبة تعطي الأمل نحو انطلاقة إفريقيا نحو المستقبل، وفي ظل شراكات حقيقية وواقعية ومتوازنة مع الدول العربية، حيث العلاقات التاريخية والبعد الجغرافي علاوة على إيجاد خطط لاستغلال المقدرات الكبيرة التي من خلالها تحقق إفريقيا ما تحقق في دول جنوب شرق آسيا، بل إن الإمكانات الطبيعية في إفريقيا هي أكبر بكثير من دول جنوب شرق آسيا فقط تبقى الإدارة الذكية والحكم الرشيد والحوكمة هو المدخل الصحيح نحو إيجاد تشريعات حقيقية تمنع العسكريين من تولي السلطة في تلك الدول الإفريقية؛ لأن تجربة العقود الأخيرة كانت مريرة ولعل المشهد السوداني هو نموذج على الحال الذي وصلت إليه إفريقيا رغم إمكاناتها الكبيرة.