راشد بن عميرة
رواد الأدب العماني
الجمعة / 29 / رمضان / 1444 هـ - 21:51 - الجمعة 21 أبريل 2023 21:51
لا نعلم شيئا كثيرا عن حياة راشد بن عميرة إذ تسكت المصادر سكوتا واضحا عن تفاصيل هذه الحياة، ولد هذا العالم في قرية العيني بالرستاق في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري /أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، في عائلة علمية من أهم مشاغلها الطب، فوالده عميرة بن ثاني وجده ثاني بن خلف طبيبان، وكثير من رجال العائلة أطباء وعلماء، منهم راشد بن خلف بن محمد، وعلي بن مبارك بن خلف بن محمد، وخلف بن هاشم بن عبدالله بن هاشم، ويبدو أنهم حازوا مكانة متميزة في زمانهم بدليل أن اثنين من كبار شعراء عُمان هما اللواح الخروصي، والكيذاوي يقومان برثاء بعض علماء هذه العائلة، ولولا تلك المنزلة المتميزة لما وقع ذلك الرثاء، إذ نجد اللواح يرثي الطبيب عميرة بن ثاني بقصيدة مطلعها:
أبعد ابن ثاني ذي المثاني عميرة
نؤمل عمرا أو نرى عنه سلوانا
لئن كان نطيسا وعيبة حكمة
فقد كان أواها ونورا وبرهانا
حكيما يرى ما لا ترى العين قلبه
له جوهر يبدي السريرة إعلانا
حكيما له من جوهر العقل فطنة
له قالب في الفكر يسبك إيمانا
فَمن لأصول الدين بعد عميرة
فإن الردى قد جذ أصلا وأغصانا
ومَنْ لفنون العلم يجمع شتها
ويودعها إلا قلوبا وأبدانا
فهو يرثيه بأظهر ما فيه من صفات وهي العلم والحكمة عموما، والطب الذي أفاد به الناس ونفعهم خصوصا، ويرثي اللواح أيضا العالم الطبيب علي بن مبارك بن هاشم بقصيدة مطلعها:
هذي نهاية وقَعْ الحادث الجللِ
موت الطبيب الأريب الهاشمي علي
وفيها:
يا سر عيسى نبي الله في زمن
لا هرمس لك محمول على المثل
حسبي لديك فجالينوس صاحب
أفلاطنُ بل أرسطاليس كالخَولِ
كم مقلة عميت أرجعت ناظره
فاليوم تبكيك حزنا جملة المقلِ
وكم شفيتَ بني دنياك من عل
فاليوم لاقَيْتَ ما أبلاك من علل
فيختار له خصال الحكمة والطب التي عُرف بها، وخصوصا مداواة العيون. ويضيف إليها تفوقه على مشاهير الأطباء في العصور القديمة كهرمس، وجالينوس، وأفلاطون، وأرسطو، أما ذكره عيسى فإشارة إلى معجزاته في برء الأكمه، والأبرص، وهذا من المبالغات التي يلجأ إليها الشعراء رغبة في بلوغ المثل، وأقصى الوصف، ونرى الشاعر الكيذاوي يرثي الطبيب علي بن مبارك نفسه بقصيدة أخرى:
مالي أرى وجه الزمان عبوسا
كدرا وليس به الشموس شموسا
إذن ولد الطبيب راشد في عائلة طبية معروفة، عمادها الوالد والجد، وكأن مهنة الطب أقرب إلى أن تكون متوارثة، حيث يجد الناشئ الطريق ممهدا أمامه، والمناخ ملائما، وليس عليه سوى أن يتعلم، ويكتسب مزيدا من الخبرة على يد آبائه، ومكتباتهم، وهكذا فعل راشد بن عميرة، فمن المؤكد أنه أخذ عن عائلته الكثير، وأفاد من تلك الخبرة المتراكمة عبر مراحل متعاقبة، ونجده يشير في مواضع من كتبه إلى أن صنعة الطب يجب أن تؤخذ عن الشيوخ، وألا يُكتفى فيها بالكتب وحدها، وقد فعل هو بنفسه هذا الأمر.
يوصف الطبيب راشد بن عميرة بأوصاف كثيرة مثل الشاعر، والفقيه، والمؤلف، والفيلسوف، وجالينوس يقول: إن الطبيب الفاضل فيلسوف كامل ونرى مثلا الرازي وابن سينا طبيبين فيلسوفين امتزج الطب عندهما بالفلسفة.
ومن مؤلفاته:
فاكهة ابن السبيل: وهو مجلد يتضمن وصفا للأمراض وأنواعها وطرق علاجها. مختصر فاكهة ابن السبيل: ويضم عشرة أبواب. ومنهاج المتعلمين: شرح للأمراض التي تصيب جسم الإنسان من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وطرق علاجها، مع رسومات توضيحية. ومنظومة وشرحها في سن الإنسان من الطفولة إلى الهرم. والمنظومة الدالية (وشرحها) في تشريح البدن من الرأس إلى القدم، وهي قصيدة مفصلة في تشريح البدن ووظائف الأعضاء وصفة خلقها، وتقع في مائة وواحد وثلاثين بيتا. وأهم الموضوعات التي تناولها فيها أغشية الجنين وأجزاء الرأس والقوة النفسية في الدماغ والأعصاب الآتية من الدماغ وطبقات العين وعضلاتها، والأجفان، والأذن والأنف والثغر واللسان والشفتين والأسنان وعظام الرقبة والصدر، والتراقي والكتف ومكونات الذراع والساعد واليد، والصلب والكبد والمعدة والقلب والمرارة والطحال والأمعاء والأعضاء الجنسية والرحم والرجل والقدم وعظام الجسد والعضل والعصب والختام بالحمد لله ووجوب شكره. ومطلع المنظومة:
يا طالبا تشريح خلق
إلهنا الفرد الصمدْ
مما حواه صنعه
في جلّ أقطار الجسدْ
المنظومة الرائية (وشرحها) في ذكر الأعضاء الرئيسة في جسد الإنسان وتقع في اثنين وعشرين بيتا. وأهم الموضوعات التي تناولها القلب والعقل والدماغ والفؤاد والحواس الخمس واللسان والختام بالدعاء وتذكير بنعم المولى..يقول في مطلعها
نظمتُ مقالا يبهجُ العين منظرا
لأجسامنا وهو المدبّر صنعها
بما قد حوى درا ولفظا مسطّرا
على ما يشا مما أراد وقدّرا
القصيدة الميمية (وشرحها) في العين وتشريحها والأمراض التي تصيبها وطرق علاجها، وتقع في سبعة وأربعين بيتا. يقول في مطلعها:
الحمد لله رب اللوح والقلمِ
ومنشئ الخلق من ماءٍ ومن عدمِ
محلات المتطببين ومهبع السالكين، وهي أرجوزة تتحدث عن مواضيع طبية مختلفة أهمها الشروط الطبية التي يجب على الطبيب معرفتها، ومعرفة الطبائع بالذوق والنبض والبول، والعروق (الأوعية الدموية) وعددها وطرق فصدها، ومواضع الحجامة ومنافعها، وتحضير واستعمال أدوية العين، فيقول مثلا في الشروط الطبية:
يا عالما يبغي نجاح المطلبِ
في أبحر الطب وظهر السبسب
لا تطلب العلم بغير الفهمِ
ولا تكن مجانبا لنظمي
يرشدك الله به الطريقا
ويظهر القول به التحقيقا
مقاصد الدليل وبرهان السبيل: ذكر فيه تجاربه الطبية في علاج الأمراض.
رسالة في الكي بالنار: ضمّنها رسوما توضيحية لأنواع المياسم الحديدية التي تستخدم في الكي لكل مرض.
وقد ظل هذا الطبيب مواظبا على عمله وعلمه، آخذا نفسه بالعزم في إفادة الناس في حياته من خلال علاجه لهم، وبعد وفاته من خلال كتبه التي تركها، ويرجح الشيخ البطاشي أنه كان حيا حتى سنة 1019 للهجرة، وليس بين أيدينا ما يقطع بسنة وفاته.
لقد صبَّ الطبيب راشد بن عميرة مادته الطبية سواء أكانت علما أم عملا أم صيدلةً في كتبه بأسلوب عربي فصيح، يعتمد الوضوح، والدقّة، والمباشرة، ويبتعد عن التزويق اللفظي، والزخرفة اللغوية، والتصوير بأنواعه، فهو بإزاء مادة علمية صرف، وقد نجح أيّما نجاح في توصيل أفكاره عبر تلك اللغة الواضحة الخالية من التعقيد،، ولا شكَّ في أنّه كان يصدر في أسلوبه ذاك عن مخزون لغوي ثري، ومعجم لغوي وافر، ولا ننسى بهذا الصدد أنَّه كان شاعرا، وإن شئنا الدقة فقد كان (نظّاما) من نوع معين، سخّر نظمه لما هو مشغول به وهو الطبّ والصيدلة، والنظم يقتضي من ضمن ما يقتضيه معرفة جيدة بالعروض، وثروة لغوية تعينه على استجلاب القوافي ورصفها، مع نَفَس لغوي يتيح له الاستمرار في عملية النظم بالإضافة إلى علوم أخرى مساعدة هي العلوم التقليدية التي تلقّاها في مناخ أسرته العلمي من نحو، وصرف، وبلاغة، ويسند هذا كلّه معرفة أبواب من الفقه، والأصول، كما وقف عند الفلسفة وما ينضوي تحتها من حكمة.
يقول مثلا في المنظومة الدالية:
فمتى إذا وقع المني
محله واهي الزبد
في الرحم يبقى خمسة
مع يومه حتى انعقد
ثم استمر فتبتدي
فيه الخطوط وتستمد
بعد الثلاث فصار تسعا
حصرها عدا فعد
حتى إذا ما زاد ستا
فوق ما منه نفد
نفذت مجاري الدم فيه
جميعها ثم اطرد
فإذا مضت سبع له
من فوق ذاك العدد
بان انفصال دماغه
عن منكبيه وقد جمد
هذا وقد نسجت ثلاث
من غشاءات الولد
منها غشاءُ نسجت
فيه العروق هي السند
وملخص النص: تبقى البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي ستة أيام في جوف الرحم، تظهر خطوط حمراء بعد اليوم التاسع، تكوين مجار (أوعية) بعد خمسة عشر يوما، ونفاذها إلى داخل البويضة، بداية تشكل الأعضاء الأساسية ومن ضمنها انفصال الدماغ عن باقي الجسد والمنكبين، وذلك بعد اثنين وعشرين يوما، تكوين الأغشية الثلاثة التي تحيط بالجنين.
جمع الطبيب راشد بن عميرة في كتبه بين الجانب النظري والتطبيقي بل مال للجانب التطبيقي يقول: «الطبّ القياسي وهو طب اليونانيين، وطبّ التجارب وهو مذهب الهند، وكثير من العرب، وهؤلاء لا يستعملون القياس، ولا يعتبرون الأصول، وإنّما يعتمدون مجرّد الامتحان والتجربة»، واستوفى أدواته العلمية من حيث اعتماده المصادر، والتجربة، والقياس، والمشاهدة، والسماع كآليات عمل يفيء إليها في ممارسته الطب أو التأليف فيه، وصبَّ الطبيب راشد بن عميرة مادته الطبية سواء أكانت علما أم عملا أم صيدلةً في كتبه بأسلوب عربي فصيح، يعتمد الوضوح، والدقّة، والمباشرة، ويبتعد عن التزويق اللفظي، والزخرفة اللغوية، والتصوير بأنواعه، فهو بإزاء مادة علمية صرف، وقد نجح أيّما نجاح في توصيل أفكاره عبر تلك اللغة الواضحة الخالية من التعقيد. وقد أدرج اسم الطبيب ضمن الشخصيات البارزة في منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.