رمضان .. «الكريم كراميل» وسورة النور
كانت لنا أيام
الثلاثاء / 26 / رمضان / 1444 هـ - 21:16 - الثلاثاء 18 أبريل 2023 21:16
صمتُ أول مرة وأنا في الثامنة من عمري لأنني لم أعد راغبة في أن أبقى ضمن المجموعة التي يطلق عليها «كلاب رمضان» في البيت. كنا أربعة. وُلدنا في غضون سنتين من أُمّين. عندما قررت الصوم كان أخواي التوأمان لا يزالان في السابعة، ولكنهما قررا أن يصوما أيضا. شعرت بالحنق تجاههما؛ لأنني لم أصم وأنا في السابعة كما قررا، وحاولت أن أثنيهما عن قرارهما، فأبيا أن يعدلا عنه. توقفت عن محاولتي إفساد صيامهما عندما أخبرتني أمي أن فارق العمر بيني وبينهما أقل من خمسة أشهر وأنه لا بأس إن صاما معي.
في عامنا ذاك كانت فترة الصيام قصيرة، وأذان المغرب يرفع قبل الخامسة والنصف. ومع ذلك كنت أشعر أن النهار طويل ولن ينتهي. لا أذكر متى كنا نعود من المدرسة، فقد كان ثلاثتنا يدرس في مدارس مسائية، وكنا نقضي الظهيرة في صفوفنا الدراسية.
لا أنكر أن المعلمة - مربية الصف - شجعت التلميذات الصائمات ذلك اليوم بأن طلبت منهن الوقوف أمام السبورة، ثم طلبت من الأخريات - اللاتي لقبتهن أيضا بـ«كلاب رمضان»- تصفيقا حارا تكريما لصبرنا وتحملنا. وكنت أعتقد أنها من فرط احتفائها بنا ستلغي الواجبات المدرسية عن الصغيرات الصائمات ولكنها لم تفعل، ثم شعرت أنها نسفت احتفاءها عندما دخلت علينا وقت الفسحة حاملة «خبزا وجبنا وبطاطس عمان وسنتوب» للتلميذات من «كلاب رمضان» اللائي لم يتوانين عن تناول طعامهن أمامنا. فكرت لحظتها أنه ما المانع من تحمل لقب كلب رمضان مقابل رشفة واحدة من «سنتوب مانجو الأخضر» ذاك؟!
كان الوقت يطول أكثر بعد العودة من المدرسة، وكنت أريد أن أقضي الوقت في مشاهدة المرابطات في المطبخ وهن يحضرن أطباق الإفطار، ولكن ذلك لم يكن سهلا؛ لأن دخول جميع البنات إلى المطبخ والمساعدة في إعداد الإفطار كان قسرا في بيتنا، وأنا لدي خمس أخوات كبيرات إلى جوار أمي وزوجة أبي، سبعٌ ينحشرن في المطبخ المستطيل فيحجبن عنا الرؤية نحن الصغار، ولكن لحسن حظنا فقد كان لمطبخ بيتنا المستطيل نافذة تطل على ممر يوصل بين باب المطبخ وصالون البيت، وكنا نحن الصغار نتجمع لنرى من خلف النافذة، لكن أمي تقول لنا دائما: «ستجوعون أكثر بهذه الطريقة، العبوا في «الحوش» وتوصد النافذة أمامنا. كان حوش بيتنا كبيرا جدا، ونعرف جيدا كيف نخترع الألعاب فيه، وهي ألعاب تعتمد على الركض والقفز والاختباء، ولكنها تصبح في رمضان صعبة وشاقة.
كنت أحب «الكريم الكراميل» حبا جما، ولا أعرف لماذا لا نفطر بالكريم كراميل فقط؟!
غير أن هناك ما كان يفسد عليَّ بهجة استمتاعي به، وهو أن أبي ما كان يحب إضافة العسل إلى قاعدة صحن الكريم الكراميل، لذلك تلغي أمهاتنا العسل من كل صحون الكراميل، حتى الصحون خاصتنا مع علمهما أنني أحب إضافة العسل في قاعدة الصحن، وبدوري لم أكن أسألهما عن ذلك. ولأن مغلف العسل الذي يصاحب كرتون الكريم الكراميل يصبح بلا فائدة، تصدّره أخواتي إلينا في الحوش، فنفتح المغلف فتحة صغيرة ونرسم به على الحجارة ونكتب أسماءنا عليها. تلك كانت المرة الوحيدة التي لعبنا فيها بالطعام من دون أن نغضب أحدا، وكانت تلك اللعبة تسرقنا حتى نسمع الأذان فنجري إلى داخل البيت. بعد الأذان، تبث «قناة عُمان» فقرة دعائية عن الشركات التي تقدم جوائز لفوازير شهر رمضان، وكانت مصانع علي الشيهاني تستحوذ على النصيب الأكبر منها، يقول أخواي وقتها جملة ظلا يكررانها حتى نهاية رمضان: «كممم عدد فلوسه؟!»، أتخيل بعدها كيف يبدو علي الشيهاني، الذي قرر أن يصنع منتجات شهية -كنت أحسبها للصغار فقط - مثل بطاطس عمان وبطاطس سلطة، ومشروبات لولو وفزي.
حفظنا ثلاثنا الآية 35 من سورة النور لأنها كانت تبث بعد الفقرة الدعائية مباشرة. يقرأُها مرتل بصوت عذب من دون أن يظهر وجهه في التلفاز. حفظناها ورتلناها كما يرتلها هو بالضبط من غير أن نفهمها، ولكننا كنا نسأل دائما عن النور والمشكاة والمصباح والزجاجة والشجرة المباركة.
اعتادت عائلتي الكبيرة أن تأكل اللقيمات بعد التمر مباشرة، ثم تعقبها بأصناف أخرى متعددة حتى تختم سفرة الفطور بطبق «دنجو مع البصل». وهكذا كان جدول فاتحة السفرة وخاتمتها ثابتا، ولكني كنت أغضب عندما تكون الأطباق بينهما عبارة عن طحين بالبيض المسلوق، طحين بالفليفلة، طحين بالباذنجان، ولا أعرف في الحقيقة كيف تصنع هذه الأشياء، ولكني كنت أفكر أن السبع قد تعبن من الطبخ يوميا بتلك الكمية فاخترن الأسهل تحضيرا، لكن أحدا لم يكن يأبه بغضبي؛ لأن الجميع في البيت كان يحب هذه الأطباق.
هكذا صُمت أول مرة أقل من ثلاثين يوما، لأني احتسبت في ضميري أياما باطلة لم آكل فيها، غير أني تسترت على أخويّ اللذين أفطرا أمامي عدة مرات من دون أن أبادر بثنيهما هذه المرة، حتى أكون أنا الصغيرة الوحيدة التي صامت الشهر كاملا في بيتنا ذلك العام.
في عامنا ذاك كانت فترة الصيام قصيرة، وأذان المغرب يرفع قبل الخامسة والنصف. ومع ذلك كنت أشعر أن النهار طويل ولن ينتهي. لا أذكر متى كنا نعود من المدرسة، فقد كان ثلاثتنا يدرس في مدارس مسائية، وكنا نقضي الظهيرة في صفوفنا الدراسية.
لا أنكر أن المعلمة - مربية الصف - شجعت التلميذات الصائمات ذلك اليوم بأن طلبت منهن الوقوف أمام السبورة، ثم طلبت من الأخريات - اللاتي لقبتهن أيضا بـ«كلاب رمضان»- تصفيقا حارا تكريما لصبرنا وتحملنا. وكنت أعتقد أنها من فرط احتفائها بنا ستلغي الواجبات المدرسية عن الصغيرات الصائمات ولكنها لم تفعل، ثم شعرت أنها نسفت احتفاءها عندما دخلت علينا وقت الفسحة حاملة «خبزا وجبنا وبطاطس عمان وسنتوب» للتلميذات من «كلاب رمضان» اللائي لم يتوانين عن تناول طعامهن أمامنا. فكرت لحظتها أنه ما المانع من تحمل لقب كلب رمضان مقابل رشفة واحدة من «سنتوب مانجو الأخضر» ذاك؟!
كان الوقت يطول أكثر بعد العودة من المدرسة، وكنت أريد أن أقضي الوقت في مشاهدة المرابطات في المطبخ وهن يحضرن أطباق الإفطار، ولكن ذلك لم يكن سهلا؛ لأن دخول جميع البنات إلى المطبخ والمساعدة في إعداد الإفطار كان قسرا في بيتنا، وأنا لدي خمس أخوات كبيرات إلى جوار أمي وزوجة أبي، سبعٌ ينحشرن في المطبخ المستطيل فيحجبن عنا الرؤية نحن الصغار، ولكن لحسن حظنا فقد كان لمطبخ بيتنا المستطيل نافذة تطل على ممر يوصل بين باب المطبخ وصالون البيت، وكنا نحن الصغار نتجمع لنرى من خلف النافذة، لكن أمي تقول لنا دائما: «ستجوعون أكثر بهذه الطريقة، العبوا في «الحوش» وتوصد النافذة أمامنا. كان حوش بيتنا كبيرا جدا، ونعرف جيدا كيف نخترع الألعاب فيه، وهي ألعاب تعتمد على الركض والقفز والاختباء، ولكنها تصبح في رمضان صعبة وشاقة.
كنت أحب «الكريم الكراميل» حبا جما، ولا أعرف لماذا لا نفطر بالكريم كراميل فقط؟!
غير أن هناك ما كان يفسد عليَّ بهجة استمتاعي به، وهو أن أبي ما كان يحب إضافة العسل إلى قاعدة صحن الكريم الكراميل، لذلك تلغي أمهاتنا العسل من كل صحون الكراميل، حتى الصحون خاصتنا مع علمهما أنني أحب إضافة العسل في قاعدة الصحن، وبدوري لم أكن أسألهما عن ذلك. ولأن مغلف العسل الذي يصاحب كرتون الكريم الكراميل يصبح بلا فائدة، تصدّره أخواتي إلينا في الحوش، فنفتح المغلف فتحة صغيرة ونرسم به على الحجارة ونكتب أسماءنا عليها. تلك كانت المرة الوحيدة التي لعبنا فيها بالطعام من دون أن نغضب أحدا، وكانت تلك اللعبة تسرقنا حتى نسمع الأذان فنجري إلى داخل البيت. بعد الأذان، تبث «قناة عُمان» فقرة دعائية عن الشركات التي تقدم جوائز لفوازير شهر رمضان، وكانت مصانع علي الشيهاني تستحوذ على النصيب الأكبر منها، يقول أخواي وقتها جملة ظلا يكررانها حتى نهاية رمضان: «كممم عدد فلوسه؟!»، أتخيل بعدها كيف يبدو علي الشيهاني، الذي قرر أن يصنع منتجات شهية -كنت أحسبها للصغار فقط - مثل بطاطس عمان وبطاطس سلطة، ومشروبات لولو وفزي.
حفظنا ثلاثنا الآية 35 من سورة النور لأنها كانت تبث بعد الفقرة الدعائية مباشرة. يقرأُها مرتل بصوت عذب من دون أن يظهر وجهه في التلفاز. حفظناها ورتلناها كما يرتلها هو بالضبط من غير أن نفهمها، ولكننا كنا نسأل دائما عن النور والمشكاة والمصباح والزجاجة والشجرة المباركة.
اعتادت عائلتي الكبيرة أن تأكل اللقيمات بعد التمر مباشرة، ثم تعقبها بأصناف أخرى متعددة حتى تختم سفرة الفطور بطبق «دنجو مع البصل». وهكذا كان جدول فاتحة السفرة وخاتمتها ثابتا، ولكني كنت أغضب عندما تكون الأطباق بينهما عبارة عن طحين بالبيض المسلوق، طحين بالفليفلة، طحين بالباذنجان، ولا أعرف في الحقيقة كيف تصنع هذه الأشياء، ولكني كنت أفكر أن السبع قد تعبن من الطبخ يوميا بتلك الكمية فاخترن الأسهل تحضيرا، لكن أحدا لم يكن يأبه بغضبي؛ لأن الجميع في البيت كان يحب هذه الأطباق.
هكذا صُمت أول مرة أقل من ثلاثين يوما، لأني احتسبت في ضميري أياما باطلة لم آكل فيها، غير أني تسترت على أخويّ اللذين أفطرا أمامي عدة مرات من دون أن أبادر بثنيهما هذه المرة، حتى أكون أنا الصغيرة الوحيدة التي صامت الشهر كاملا في بيتنا ذلك العام.