سورة القلم .. والتحول الديني أخلاقيا
الاثنين / 25 / رمضان / 1444 هـ - 21:49 - الاثنين 17 أبريل 2023 21:49
الدين.. كغيره من الأنظمة التي تفاعلت مع البشر، عملت على صياغة حياتهم، ولزمت تحولاتهم في مسيرهم الوجودي. ولذا؛ تأتي قراءتي للدين من واقع تحولات الناس؛ سواء أكانت دينية أم اجتماعية أم سياسية أم اقتصادية. والقرآن.. وهو نظام إلهي محكم، كان له أثر عظيم في التحولات التي جرت للبشر منذ نزوله حتى الآن، وهذا لا يلغي العوامل الأخرى؛ التي هي كذلك مؤثرة بقوة. فالبشرية.. لا يصنعها عامل واحد، بل هي عوامل تتفاعل كيميائيا في دورق الاجتماع البشري، وهذا ما أحاول قراءته هنا من خلال «سورة القلم».
يقول الله: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) «الأحقاف:9».. بهذا البيان القرآني؛ يتقرر بأن رسالة النبي الخاتم ليست بدعا في حركة الرسالات، بل هي حركة إصلاحية لما وقع للناس من حيود عن أصل التوحيد، والذي جاء جميع الرسل عليه، يقول الله على لسان النبي شعيب: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) «هود:88»، فشعيب.. جاء لأجل الإصلاح؛ وهو تعديل في اتجاه البوصلة، وليس شقا للطريق. وهكذا هو أمر الدين؛ يأتي لتفكيك منظومات آفلة، ويقيم على إثرها منظومة مقبلة، على مختلف المستويات؛ المفاهيم والمعتقدات والشعائر والأحكام.
إن مِن أوائل مَن درس «التحول المفهومي» في القرآن هو الياباني توشيهيكو إيزوتسو (ت:1993م) في كتابه «الله والإنسان في القرآن»، وفي مقدمته لخّص هذا التحول بقوله: (إن الكلمات أنفسها كانت مستعملة في اللغة الدارجة في القرن السابع الميلادي، إن لم يكن في الحدود الضيقة لمجتمع مكة التجاري، فعلى الأقل؛ عند بعض الجماعات الدينية في الجزيرة العربية، إلا أنها كانت تنتمي إلى نظام مفهومي مختلف، فجاء الإسلام وجمعها معا وضمها كلها في شبكة مفهومية جديدة كليا، غير معروفة من قبل، وهي كذلك حتى اليوم. وقد أدى هذا التحول في المفاهيم والتبدل الجوهري في القيم إلى إحداث تغيير أساسي كامل، في تصور العرب للعالم وللوجود الإنساني).
لقد درس إيزوتسو «النظام المفهومي» للقرآن ببُعده العقدي، بتتبع الآيات الدالة عليه. والمقال.. يحاول أن يقرأه ببُعده الأخلاقي في «سورة القلم»، بكون السورة وحدة موضوعية بذاتها. فالقرآن.. لم يطرح تحولا عقديا في أفهام البشر بقدر إحداثه تحولا أخلاقيا في سلوكهم.
«سورة القلم».. مكية، جاءت لتفكك منظومة عقدية مهيمنة على المجتمع قبل الإسلام، عمدتها الشرك بالله، وتستبدل بها منظومة توحيد الله، هذا الاستبدال لم يأتِ بأسلوب جاف خلوٍ من نداوة الخطاب، ولا بطريقة خشنة تقهر الناس على الإيمان، وإنما كانت الأخلاق هي الرائد لهذا التحول فيهم، وذلك بتعرية المنظومة القائمة أخلاقيا، وإرساء منظومة إيمانية توحيدية أساسها الأخلاق. في السورة.. نحن أمام منظومتين: مسلمة، ومشركة؛ لم يرد في السورة نسبتها للشرك، والذي هو مفهوم عقدي، وإنما يأتي وصف المنتسبين إليها بالمكذبين والمجرمين والظالمين والضالين؛ وهو هنا ضلال أخلاقي. وهذه المواجهة الأخلاقية لم تكن ضربا من التحول المحض، بل كانت عن وعي من خلال العلم، حيث نرى السورة تفتتح بالقسم بـ(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)، ثم تحتكم إلى العلم: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ) «القلم:36-38». في المقابل؛ فإن القوم يواجهون النبي بالتعصب، والتعصب مصدره الجهل، حتى تبلغ بهم الحالة النفسية؛ بأن يكادوا «ليزلقونه بأبصارهم»، وهذه فورة الحنق الكاشف عن الرغبة بإزالة النبي من أمامهم، لكيلا يُسمِعهم الذكر. ولذلك؛ يصفونه بالجنون، وهو غياب العقل: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) «القلم:51»، ويصفون القرآن بأنه أساطير: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) «القلم: 15».
السورة.. بآياتها الاثنتين والخمسين؛ تنقسم إلى أربع مراحل؛ تتسلسل نحو إثبات الإيمان بالله وتوحيده:
الأولى.. من مطلع السورة حتى الآية 16: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)، وفيها مواجهة أخلاقية، حيث يتهمون النبي بالجنون، ويطالبونه بالمداهنة، ويصفون الآيات التي أتى بها بأساطير الأولين، فيقابل ذلك الفريق بكشف سوء أخلاقه من الكذب والدعوة للمداهنة وكثرة الحلف والهمز والنميمة ومنع الخير والاعتداء، وأنه (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) «القلم:13»، ولكن كيف يردّ القرآن بالشتيمة في هذه المواجهة الأخلاقية بوصم معارضه بأنه «زنيم»، مع أن القرآن يستعمل ألفاظا نزيهة في مواجهة خصومه، فما باله هنا يخالف نهجه؟ وهذا ما يثيره المتشككون في المصدر الإلهي للقرآن. إن «الزنيم» هنا لا يعني الدعيّ لغير نسبه، وإنما هو مَن يستقسم بالأزلام؛ وهي أقلام تُقدح للعب بها في المَيسِر بنظامهم الوثني، و(يُقال: زلّمت القدح وزنّمته). وقد وافق هذا أن تُفتتح السورة بالقسم بـ«القلم» لتحويله من أداة قَسَم جاهلية إلى أداة طلب علم. الآية.. تصفه بأنه عُتل؛ أي شديد، ثم يتصدر موقعاً دينياً، يفترض فيه أنه (متأله عدل). إن ما جعل الناس تتصور المعنى السيئ للكلمة هو تناقله عبر أجيال من المفسرين دون مراجعة، ودون الاحتكام إلى القيمة الأخلاقية بوصفها معياراً محكَّماً لفهم القرآن.
الثانية: الآيات (17-33)، تحكي قصة أصحاب الجنة، وتحولهم من «الطغيان» إلى الإيمان: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) «القلم:32». إننا نجد في هذا المقطع وضوح التحول من النظام المنحل إلى النظام الناشئ على الإيمان بالله والالتجاء إليه وحده، وهو وإن كان الحديث في الآيات عن «الجنة وأصحابها»، لكن الدلالة والمقصد أمر ديني. ويؤكد هذا قول الله: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) «القلم:25»، فالحرد.. تعني مكان العبادة، بخلاف ما هو شائع في كتب التفسير بمعنى التجرد لعملهم، فهم كانوا يشعرون بأنهم في غدوهم قادرون على ما يفعلون بلجوئهم إلى ما يقدسونه ويعتبرونه مؤيدهم. ونلحظ في الآيات بالإضافة إلى البُعد الأخلاقي من الإشارة إلى حق المساكين في الجنة؛ سرعة التحول، فهم رجعوا مباشرة بعدما شاهدوا احتراق جنتهم.
الثالثة: الآيات (34-47)، فيها يظهر مقصد السورة وهو البُعد الإيماني، وكأي تحول في المعتقد؛ لا بد من المعارضة، وحلول نظام محل نظام؛ لا يعني أن التحول يحصل دفعة واحدة لدى الجميع، فهذا بخلاف منطق الاجتماع البشري، ولذلك؛ نرى الآيات تتكلم عن تشبث القوم بشركهم، وإعراضهم عن السجود لله، ورغم أنها مواجهة، وتعلو فيها نبرة التحذير القرآني؛ إلا أن السورة لم تلجأ إلى التهديد الدنيوي، وإنما ذكّرت القوم بالمآل الأخروي، وفي هذا قيمة أخلاقية تجعل لدى المعارض فرصة إجالة النظر في معتقده القديم وفيما يطالبه به القرآن من معتقد قائم على توحيد الله.
الرابعة.. الآيات (48-52)، تدعو النبي إلى الصبر -والصبر خُلُق عظيم، يتحلى به أصحاب الدعوات؛ خاصةً.. الأنبياء والمصلحين- من خلال قصة «صاحب الحوت»، الذي انصرف عن قومه مغاضبا، (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) «الصافات:140-142». فختام «سورة القلم» تثبّت فؤاد النبي بضرب المثل له بقصة النبي يونس، وأن التحول حاصل، فلا ييأس من رَوْح الله. إن يونس تذكّر الله وسبّحه، فنجّاه وأرسله إلى قوم كثير عديدهم فآمنوا، يقول الله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) «الصافات:143-148».
«سورة القلم».. نموذج للتحول الديني أخلاقياً، وفي القرآن نماذج أخرى يمكن دراستها، للكشف عن آليات التحول، وما صحبه من ظروف ومواجهة بين النظامين؛ الآفل والبازغ. وختاماً.. المقال رجع إلى كتاب «من المَيسِر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية» لمحمد الحاج سالم، ونقل منه.
يقول الله: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) «الأحقاف:9».. بهذا البيان القرآني؛ يتقرر بأن رسالة النبي الخاتم ليست بدعا في حركة الرسالات، بل هي حركة إصلاحية لما وقع للناس من حيود عن أصل التوحيد، والذي جاء جميع الرسل عليه، يقول الله على لسان النبي شعيب: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) «هود:88»، فشعيب.. جاء لأجل الإصلاح؛ وهو تعديل في اتجاه البوصلة، وليس شقا للطريق. وهكذا هو أمر الدين؛ يأتي لتفكيك منظومات آفلة، ويقيم على إثرها منظومة مقبلة، على مختلف المستويات؛ المفاهيم والمعتقدات والشعائر والأحكام.
إن مِن أوائل مَن درس «التحول المفهومي» في القرآن هو الياباني توشيهيكو إيزوتسو (ت:1993م) في كتابه «الله والإنسان في القرآن»، وفي مقدمته لخّص هذا التحول بقوله: (إن الكلمات أنفسها كانت مستعملة في اللغة الدارجة في القرن السابع الميلادي، إن لم يكن في الحدود الضيقة لمجتمع مكة التجاري، فعلى الأقل؛ عند بعض الجماعات الدينية في الجزيرة العربية، إلا أنها كانت تنتمي إلى نظام مفهومي مختلف، فجاء الإسلام وجمعها معا وضمها كلها في شبكة مفهومية جديدة كليا، غير معروفة من قبل، وهي كذلك حتى اليوم. وقد أدى هذا التحول في المفاهيم والتبدل الجوهري في القيم إلى إحداث تغيير أساسي كامل، في تصور العرب للعالم وللوجود الإنساني).
لقد درس إيزوتسو «النظام المفهومي» للقرآن ببُعده العقدي، بتتبع الآيات الدالة عليه. والمقال.. يحاول أن يقرأه ببُعده الأخلاقي في «سورة القلم»، بكون السورة وحدة موضوعية بذاتها. فالقرآن.. لم يطرح تحولا عقديا في أفهام البشر بقدر إحداثه تحولا أخلاقيا في سلوكهم.
«سورة القلم».. مكية، جاءت لتفكك منظومة عقدية مهيمنة على المجتمع قبل الإسلام، عمدتها الشرك بالله، وتستبدل بها منظومة توحيد الله، هذا الاستبدال لم يأتِ بأسلوب جاف خلوٍ من نداوة الخطاب، ولا بطريقة خشنة تقهر الناس على الإيمان، وإنما كانت الأخلاق هي الرائد لهذا التحول فيهم، وذلك بتعرية المنظومة القائمة أخلاقيا، وإرساء منظومة إيمانية توحيدية أساسها الأخلاق. في السورة.. نحن أمام منظومتين: مسلمة، ومشركة؛ لم يرد في السورة نسبتها للشرك، والذي هو مفهوم عقدي، وإنما يأتي وصف المنتسبين إليها بالمكذبين والمجرمين والظالمين والضالين؛ وهو هنا ضلال أخلاقي. وهذه المواجهة الأخلاقية لم تكن ضربا من التحول المحض، بل كانت عن وعي من خلال العلم، حيث نرى السورة تفتتح بالقسم بـ(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)، ثم تحتكم إلى العلم: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ) «القلم:36-38». في المقابل؛ فإن القوم يواجهون النبي بالتعصب، والتعصب مصدره الجهل، حتى تبلغ بهم الحالة النفسية؛ بأن يكادوا «ليزلقونه بأبصارهم»، وهذه فورة الحنق الكاشف عن الرغبة بإزالة النبي من أمامهم، لكيلا يُسمِعهم الذكر. ولذلك؛ يصفونه بالجنون، وهو غياب العقل: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) «القلم:51»، ويصفون القرآن بأنه أساطير: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) «القلم: 15».
السورة.. بآياتها الاثنتين والخمسين؛ تنقسم إلى أربع مراحل؛ تتسلسل نحو إثبات الإيمان بالله وتوحيده:
الأولى.. من مطلع السورة حتى الآية 16: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)، وفيها مواجهة أخلاقية، حيث يتهمون النبي بالجنون، ويطالبونه بالمداهنة، ويصفون الآيات التي أتى بها بأساطير الأولين، فيقابل ذلك الفريق بكشف سوء أخلاقه من الكذب والدعوة للمداهنة وكثرة الحلف والهمز والنميمة ومنع الخير والاعتداء، وأنه (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) «القلم:13»، ولكن كيف يردّ القرآن بالشتيمة في هذه المواجهة الأخلاقية بوصم معارضه بأنه «زنيم»، مع أن القرآن يستعمل ألفاظا نزيهة في مواجهة خصومه، فما باله هنا يخالف نهجه؟ وهذا ما يثيره المتشككون في المصدر الإلهي للقرآن. إن «الزنيم» هنا لا يعني الدعيّ لغير نسبه، وإنما هو مَن يستقسم بالأزلام؛ وهي أقلام تُقدح للعب بها في المَيسِر بنظامهم الوثني، و(يُقال: زلّمت القدح وزنّمته). وقد وافق هذا أن تُفتتح السورة بالقسم بـ«القلم» لتحويله من أداة قَسَم جاهلية إلى أداة طلب علم. الآية.. تصفه بأنه عُتل؛ أي شديد، ثم يتصدر موقعاً دينياً، يفترض فيه أنه (متأله عدل). إن ما جعل الناس تتصور المعنى السيئ للكلمة هو تناقله عبر أجيال من المفسرين دون مراجعة، ودون الاحتكام إلى القيمة الأخلاقية بوصفها معياراً محكَّماً لفهم القرآن.
الثانية: الآيات (17-33)، تحكي قصة أصحاب الجنة، وتحولهم من «الطغيان» إلى الإيمان: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) «القلم:32». إننا نجد في هذا المقطع وضوح التحول من النظام المنحل إلى النظام الناشئ على الإيمان بالله والالتجاء إليه وحده، وهو وإن كان الحديث في الآيات عن «الجنة وأصحابها»، لكن الدلالة والمقصد أمر ديني. ويؤكد هذا قول الله: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) «القلم:25»، فالحرد.. تعني مكان العبادة، بخلاف ما هو شائع في كتب التفسير بمعنى التجرد لعملهم، فهم كانوا يشعرون بأنهم في غدوهم قادرون على ما يفعلون بلجوئهم إلى ما يقدسونه ويعتبرونه مؤيدهم. ونلحظ في الآيات بالإضافة إلى البُعد الأخلاقي من الإشارة إلى حق المساكين في الجنة؛ سرعة التحول، فهم رجعوا مباشرة بعدما شاهدوا احتراق جنتهم.
الثالثة: الآيات (34-47)، فيها يظهر مقصد السورة وهو البُعد الإيماني، وكأي تحول في المعتقد؛ لا بد من المعارضة، وحلول نظام محل نظام؛ لا يعني أن التحول يحصل دفعة واحدة لدى الجميع، فهذا بخلاف منطق الاجتماع البشري، ولذلك؛ نرى الآيات تتكلم عن تشبث القوم بشركهم، وإعراضهم عن السجود لله، ورغم أنها مواجهة، وتعلو فيها نبرة التحذير القرآني؛ إلا أن السورة لم تلجأ إلى التهديد الدنيوي، وإنما ذكّرت القوم بالمآل الأخروي، وفي هذا قيمة أخلاقية تجعل لدى المعارض فرصة إجالة النظر في معتقده القديم وفيما يطالبه به القرآن من معتقد قائم على توحيد الله.
الرابعة.. الآيات (48-52)، تدعو النبي إلى الصبر -والصبر خُلُق عظيم، يتحلى به أصحاب الدعوات؛ خاصةً.. الأنبياء والمصلحين- من خلال قصة «صاحب الحوت»، الذي انصرف عن قومه مغاضبا، (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) «الصافات:140-142». فختام «سورة القلم» تثبّت فؤاد النبي بضرب المثل له بقصة النبي يونس، وأن التحول حاصل، فلا ييأس من رَوْح الله. إن يونس تذكّر الله وسبّحه، فنجّاه وأرسله إلى قوم كثير عديدهم فآمنوا، يقول الله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) «الصافات:143-148».
«سورة القلم».. نموذج للتحول الديني أخلاقياً، وفي القرآن نماذج أخرى يمكن دراستها، للكشف عن آليات التحول، وما صحبه من ظروف ومواجهة بين النظامين؛ الآفل والبازغ. وختاماً.. المقال رجع إلى كتاب «من المَيسِر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية» لمحمد الحاج سالم، ونقل منه.