أسد البحار أحمد بن ماجد من خلال أراجيزه ومنظوماته
الاحد / 24 / رمضان / 1444 هـ - 19:54 - الاحد 16 أبريل 2023 19:54
يرد اسم أحمد بن ماجد ونسبه بعدة صيغ في كتبه، فمرة يأتي اسمه مجردا ومرة مع أبيه ومرة مع أبيه وجده ويتعدى الجد أحيانا، أما الصيغة الكاملة لاسمه حتى الجد التاسع، فهي أحمد بن ماجد بن محمد بن عمر بن فضل بن دويك بن يوسف بن حسن بن حسين بن أبي معلق بن أبي الركايب.
لا يعرف على وجه التحقيق تاریخ میلاد هذا الربان الماهر، ولا سنة وفاته، إلا أن من يقرأ مؤلفاته يمكن أن يستدل على ذلك. فقد كان نشاطه منحصرا في أواخر القرن التاسع، وأوائل القرن العاشر الهجريين، النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي.
إذا عدنا إلى تصانيفه، وجدنا البيت 79 في حاوية الاختصار في أصول علم البحار
قد راح عمري في المطالعات
وكثرة التسآل في الجهات
وهذا يعني أنه أمضى سني عمره قبل تاريخ الحاوية، أي قبل 866 هـ/1461 م، في كثرة التسآل في الجهات» والاستخبار المتواصل عن أصول الملاحة في تلك الأسفار إلى شتى البلدان. فإذا علمنا أن أسفاره البحرية قادته إلى إفريقيا الشرقية وفارس والهند وبلدان أخرى ولكنه لم يتكلم عن الصين بالدقة ذاتها ولم يذكر الحملات الصينية السبع التي جاءت إلى المحيط الغربي في الهندي بين عام 808 هـ/ 1405 م وعام 837 هـ/ 1433م، لاسيما وأن الحملات الثلاث الأخيرة منها وصلت إلى ظفار وعدن وجدة، ولا يعقل أنه لم يسمع عنها، لكن الراجح أنه لم يولد بعد. أو ما زال حدثا لا يدرك. وهكذا لابد لنا أن نسلم بأن أحمد بن ماجد عاش من الثلث الأول من القرن التاسع الهجري إلى آخره. وبوسعنا الآن أن نحاول تحديد تاريخ ولادته وتاريخ وفاته.
وصل أحمد ماجد منذ عام 845 هـ إلى مستوى المعلم الماهر، الآمر الناهي في مركبه. ويستخلص هذا الوضع من قصيدته الذهبية التي نظمها سنة 895 هـ/ 1489 م، وجاء في بيتها التاسع ما يلي:
ومن بات برعاهنّ خمسين حجة
على طلب عاف الكرى في الغياهب
ويفيد هذا البيت أنه شرع يراقب النجوم ويقيسها منذ خمسين سنة أي منذ 845هـ (895-50 سنة= 845هـ) لكنه لا يسعه أن يقيسها إلا إذا ميز بعضها عن بعض، ويكرر خبرة الخمسين سنة مرتين أخريين فيقول في البيت 151 من القصيدة المكية أنه ضمّنها 'تجريب خمسين سنة' ويقول في مختصر الفوائد أيضا: «ما صنفت هذا الكتاب إلا بعد أن مضت لي خمسون سنة وما تركت صاحب السُكان وحده، إلا أن أكون على رأسه أو من يقوم مقامي). فهو الآمر الناهي في جميع الأمور البحرية، إذن تحمل ابن ماجد منذ عام 845 هـ أعباء جساما، لا تلقى عادة على عاتق حديثي السن، ولا يتولاها إلا الرجال، وهذا يتبع أن يكون ابن ماجد قد أصبح رجلا وولد حتما قبل انتهاء الحملة الصينية السابعة أي قبل عام 835هـ/ 1431م لأن عشرة أعوام (845 - 10 =835) لا تجعل منه رجلا..
ومن بحث طويل استنتج الباحثون أن أحمد بن ماجد مولود سنة 825 هـ/ 1421م، ولو اعتبرنا أن تدريبه وبلوغ خبرته مستوى خبرة المعلم الماهر استغرقا خمسة أعوام أو ما يقرب منها فقط لأنه متعلم، لحصلنا على عمره في سنة 845 هـ: 845-20 = 825هـ/1421م (ويستخرج تاریخ ولادته بطرح الرقم) ونرى أن هذه النتيجة قريبة جدا من الواقع، وتتوافق مع ما جاء في قصيدتيه 'ضريبة الضرائب وقسمة الجمة على أنجم بنات نعش'، اللتين نظمها عام 900هـ. فقد ورد فيها أنه أصبح أشيب، لا سواد في رأسه، وأنه أشرف على آخر عمره، وأنه يخشى أن يتوفاه الله قبل إنهائها. ويقضي هذا الوصف أن يكون آنذاك، في حال صحة حسابنا ۷۰ سنة (900 - 825= 75). وفي هذه السن يكون قد تجاوز الستين كثيرة، وفقا لما تضمنه بيتا مطلع قصيدته ضريبة الضرائب.
إذن ولد ونشأ ابن ماجد في جلفار، وتلقّى العلم البحري والمهارات العلمية من والده وجده اللذين كانا يجيدان الكتابة بل كان والده مؤلفا ماهرا ويقول عن جده... هو من شجعه على التأليف...
لا ترد كثير إشارة عن حياته، التي قضى أكثرها في البحر، لكن يرد فيها بعض المزج بالذاتية، فمثلا يشير إلى زواجه وبيته في مكة. في مطلع القصيدة المكية من البيت الأول حتى البيت الثاني والعشرين.
فيخبرنا البيت العاشر من هذا الاستهلال أنه متزوج:
تزوجتها وأنا قليل إقامتي
وذا يقتضي حال المحب المسافر
ويحدد الشطر الثاني من البيت الرابع عشر نسبها بدقة، حيث جاء فيه: سقى الله أهليها ثقيفا وعامر، فهي تقيم في مكة على حد قوله في البيت السابع عشر:
وسرتُ بقلب كاد يقضي تأسفا
وزوّدتُ من سكّان مكة ناظري
ويتردد ابن ماجد عليها في أوقات متباعدة جدا، ويبقى عندها وقتا قصيرا لأنه دائم الأسفار في البحر. فإذا أراد زیارتها، جاء إلى جدة، وأبقى مركبه في بندرها، وانتقل منها إلى مكة في إحدى القوافل. ولم يفته أن يتكلم عن فرحة اللقاء ومرارة الفراق، فينشد:
فلا حضرة إلا وفيها تودع
ولا نظرة إلا وفيها مواطر
مخافة وشل البين يوم رحيلينا
بغير وداع وانکسار الخواطر
من الثابت أن ابن ماجد قد تجاوز الستين من عمره، وشهد أوائل القرن العاشر الهجري، فقد ورد في أرجوزته المسماة ضريبة الضرائب، ما يعزز ذلك، وهو قوله:
شباب برأسي أعجب الناس من أمري
أتاني عقيب الشيب في آخر العمر
وأي شباب بعد ستین حجة
سما في السما فوق السماكين والنسر
ومن هذه الأرجوزة قوله:
أيا فرحتي في ليلة قد ترتبت
كأنيَ أعطيت المنى ليلة القدر
مهذبة من تسعمائة قد أتت
إذا هي ما تمت وفيت لها نذري
ودل البيت الأخير بوضوح على أنه قد دخل في عام (900) هجرية ويتمنى أن يوفي نذره بتمامه، وربما كان هذا النذر هو (الحج) كما تعود أن يفعل، ويوافق هذا التاريخ عام 1494-1495م.
وفي العام ذاته، نظم قصيدته قسمة الجمة على أنجم بنات نعش، وقال فيها في البيت 203:
لأني قد كنت أيام الصبا
هممتُ فيها فأتتني أشيبا
والأشيب الأبيض الرأس. إذن لم يعد في رأسه شعرة واحدة سوداء في عام900هـ. وهذه إشارة واضحة إلى طعنه في السن. ويعود في الشطر الثاني من البيت 214 من القصيدة ذاتها، فيكرر إحساسه بقرب منيته، فيقول: 'خوفي أموت قبل أن تحررا'. ويوصي بإصلاحها بعد مماته. وتعني هذه الوصية انتهاء عهد الاعتداد بالنفس عنده، وبداية شكه في قدرته لأنه لم يعد يسافر، بل لعله لا يستطيع السفر، ليختبر ويجرب ويدون كما كان يفعل طيلة حياته. وقد عبر عن هذه الفكرة ذاتها في قصيدته ضريبة الضرائب، فقال في بيتها إلى 43:
وزدهن بالتجريب ما استطعته
مخافتنا ألا يساعدنا عمري
في عام 895 هـ، كان ابن ماجد قد أمضى خمسين سنة في البحر مسؤولا عن المراكب، يطبق فيها مبادئ علم الملاحة الفلكية، ويستدل من جميع هذه الأقوال، الواردة على لسان ابن ماجد عن أوضاعه، أنه امتنع عن ممارسة مهنته منذ عام 895 هـ، وأقام في بيته. وكان ما يزال حيا ومعتزلا العمل في عام 900 هـ.
وتثبت هذه السن أي الخامسة والسبعون دنو أجل أحمد بن ماجد، مثلما ورد على لسانه. وتفيد أقواله في سنة 895 هـ أنه لم يعد يركب البحر لضعف بنيته الجسدية وقدرته على التمييز. فلا شك إذن أنه اعتكف بعدها في بيته ينتظر لقاء وجه ربه.
مع ذلك، كتب في عام 906 هـ، قصيدته القصيرة المخمسة التي ألح فيها على ضرورة التصرف بحكمة في البحر، ولم يأت فيها بشيء جديد لم يسبق له أن تحدث عنه مرارا وجملة وتفصيلا. وكان قد بلغ الحادية والثمانين في تاريخها. ثم انقطعت أخباره تماما. ونحن نعتقد أنه توفي في هذه السنة ذاتها
أو لعله عاش لسنوات بعد هذا التاريخ، وليس ذلك بمستبعد من الأحوال الطبيعية على شخص قضى أغلب حياته في البحر يعيش في بساطة وهدوء، يتنفس الهواء النقي، متفرغا لعمله، لا يشغل باله بعرض الدنيا وزينتها. ثم أنه كان عفيف النفس، ورعا تقيا مخلصا لربه ولمهنته زاهدا في المال.
كان للبيئة أثرها وللأسرة.. فينحدر ابن ماجد نفسه من أسرة ربابنة، فقد كان أبوه ربانا يلقب بربان البرين: أي بر العرب وبر العجم. وقد دوّن تجاربه الملاحية في مصنف ضخم سماه: (الأرجوزة الحجارية) تحوي أكثر من ألف بيت في وصف الملاحة في البحر الأحمر. كما كان جده هو الآخر ملاحا مشهورا.
فأحمد نشأ في بيت احترف البحر، فكان لأبيه وجده الأثر البارز في قوة شخصيته وتوجهه البحري، فقد كان جده ربانا وكان والده عالما، واستمر ابن ماجد يثبت الكثير من نظرياتهما.
وكان لهما الأثر الكبير في ثقته بنفسه، وقد شجعه جده على التصنيف في علم البحر.
وكان لجلفار البحرية أثرها أيضا وهو الذي يصفها بقوله:
بها من أسود البحر كل مجرّب
وفارس يمٍّ في الشدائد بارعُ
ويخاطب أهلها في مطلع قصيدته 'القافية' قائلا:
إليكم أسود البحر مني يتيمةَ
قد استخرجت من بحريَ المتدفقِ
ويقول في الفائقة:
سميتها لأسود البحر فائقة
تهدي السبيل بنجمين عجيبين
ويقول في حاوية الاختصار:
تمت بشهر الحج في جلفار
أوطان أسد البحر في الأقطار
فهو يعتز بنسبه ووطنه
رعى الله جلفارا ومن نشأ بها
وأسقى ثراها واكفٌ متتابع
وإذا عدنا إلى أخباره عن جده الأول وأبيه، أوركنا أنه كان يصحب والده في أسفاره في بحر قلزم العرب، ثم استقل عنه.
بالفعل ينبئنا أن جده محمدا أول من قام بإجراء قياسات نجوم في هذا البحر، ثم حققها ودققها مع مرور الأيام، وخلفها في النهاية لابنه ماجد. وكرر ماجد بعده هذه القياسات، وأعاد التحقيق والتدقيق فيها، ثم نقلها بدوره إلى ابنه أحمد. وأمضى أحمد بإقراره الصريح أربعين سنة، وهو يعيد أعمال والده ماجد وجده محمد، ويحررها ويحققها ويدققها ويصلح أخطاءها ويتمم نواقصها). ويتضح من هذه الأقوال الموثوقة، رغم تسمية ماجد ربان البرين أي بر العرب وبر الهند، أن آل ماجد اختصوا أصلا بالملاحة في بحر القلزم، وأن أحمد بالذات تدرب فيه عند والده، قبل أن يصير رجلا ومعلما ماهرا وينطلق إلى بحر الهند، ويصول ويجول في هذا المحيط بعد رحيل الصينيين عنه. فلا غرابة إذن في عدم اطلاعه على الحملات الصينية لأنه كان آنذاك لا يزال في بحر القلزم بعيدا عن نطاق نشاطهم.
بالتالي كان حيا في الثلث الأول من القرن التاسع الهجري، أي الثلث الأول من القرن الخامس عشر الميلادي بقي أن نحدد متى ولد بالدقة المتيسرة.
ولا ينسى طلب الدعاء لأهله وأقاربه (وفاء) لهم:
واغفر إلى ابن أبي الركائب
والأب والأهل مع الأقارب
لا يعرف على وجه التحقيق تاریخ میلاد هذا الربان الماهر، ولا سنة وفاته، إلا أن من يقرأ مؤلفاته يمكن أن يستدل على ذلك. فقد كان نشاطه منحصرا في أواخر القرن التاسع، وأوائل القرن العاشر الهجريين، النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي.
إذا عدنا إلى تصانيفه، وجدنا البيت 79 في حاوية الاختصار في أصول علم البحار
قد راح عمري في المطالعات
وكثرة التسآل في الجهات
وهذا يعني أنه أمضى سني عمره قبل تاريخ الحاوية، أي قبل 866 هـ/1461 م، في كثرة التسآل في الجهات» والاستخبار المتواصل عن أصول الملاحة في تلك الأسفار إلى شتى البلدان. فإذا علمنا أن أسفاره البحرية قادته إلى إفريقيا الشرقية وفارس والهند وبلدان أخرى ولكنه لم يتكلم عن الصين بالدقة ذاتها ولم يذكر الحملات الصينية السبع التي جاءت إلى المحيط الغربي في الهندي بين عام 808 هـ/ 1405 م وعام 837 هـ/ 1433م، لاسيما وأن الحملات الثلاث الأخيرة منها وصلت إلى ظفار وعدن وجدة، ولا يعقل أنه لم يسمع عنها، لكن الراجح أنه لم يولد بعد. أو ما زال حدثا لا يدرك. وهكذا لابد لنا أن نسلم بأن أحمد بن ماجد عاش من الثلث الأول من القرن التاسع الهجري إلى آخره. وبوسعنا الآن أن نحاول تحديد تاريخ ولادته وتاريخ وفاته.
وصل أحمد ماجد منذ عام 845 هـ إلى مستوى المعلم الماهر، الآمر الناهي في مركبه. ويستخلص هذا الوضع من قصيدته الذهبية التي نظمها سنة 895 هـ/ 1489 م، وجاء في بيتها التاسع ما يلي:
ومن بات برعاهنّ خمسين حجة
على طلب عاف الكرى في الغياهب
ويفيد هذا البيت أنه شرع يراقب النجوم ويقيسها منذ خمسين سنة أي منذ 845هـ (895-50 سنة= 845هـ) لكنه لا يسعه أن يقيسها إلا إذا ميز بعضها عن بعض، ويكرر خبرة الخمسين سنة مرتين أخريين فيقول في البيت 151 من القصيدة المكية أنه ضمّنها 'تجريب خمسين سنة' ويقول في مختصر الفوائد أيضا: «ما صنفت هذا الكتاب إلا بعد أن مضت لي خمسون سنة وما تركت صاحب السُكان وحده، إلا أن أكون على رأسه أو من يقوم مقامي). فهو الآمر الناهي في جميع الأمور البحرية، إذن تحمل ابن ماجد منذ عام 845 هـ أعباء جساما، لا تلقى عادة على عاتق حديثي السن، ولا يتولاها إلا الرجال، وهذا يتبع أن يكون ابن ماجد قد أصبح رجلا وولد حتما قبل انتهاء الحملة الصينية السابعة أي قبل عام 835هـ/ 1431م لأن عشرة أعوام (845 - 10 =835) لا تجعل منه رجلا..
ومن بحث طويل استنتج الباحثون أن أحمد بن ماجد مولود سنة 825 هـ/ 1421م، ولو اعتبرنا أن تدريبه وبلوغ خبرته مستوى خبرة المعلم الماهر استغرقا خمسة أعوام أو ما يقرب منها فقط لأنه متعلم، لحصلنا على عمره في سنة 845 هـ: 845-20 = 825هـ/1421م (ويستخرج تاریخ ولادته بطرح الرقم) ونرى أن هذه النتيجة قريبة جدا من الواقع، وتتوافق مع ما جاء في قصيدتيه 'ضريبة الضرائب وقسمة الجمة على أنجم بنات نعش'، اللتين نظمها عام 900هـ. فقد ورد فيها أنه أصبح أشيب، لا سواد في رأسه، وأنه أشرف على آخر عمره، وأنه يخشى أن يتوفاه الله قبل إنهائها. ويقضي هذا الوصف أن يكون آنذاك، في حال صحة حسابنا ۷۰ سنة (900 - 825= 75). وفي هذه السن يكون قد تجاوز الستين كثيرة، وفقا لما تضمنه بيتا مطلع قصيدته ضريبة الضرائب.
إذن ولد ونشأ ابن ماجد في جلفار، وتلقّى العلم البحري والمهارات العلمية من والده وجده اللذين كانا يجيدان الكتابة بل كان والده مؤلفا ماهرا ويقول عن جده... هو من شجعه على التأليف...
لا ترد كثير إشارة عن حياته، التي قضى أكثرها في البحر، لكن يرد فيها بعض المزج بالذاتية، فمثلا يشير إلى زواجه وبيته في مكة. في مطلع القصيدة المكية من البيت الأول حتى البيت الثاني والعشرين.
فيخبرنا البيت العاشر من هذا الاستهلال أنه متزوج:
تزوجتها وأنا قليل إقامتي
وذا يقتضي حال المحب المسافر
ويحدد الشطر الثاني من البيت الرابع عشر نسبها بدقة، حيث جاء فيه: سقى الله أهليها ثقيفا وعامر، فهي تقيم في مكة على حد قوله في البيت السابع عشر:
وسرتُ بقلب كاد يقضي تأسفا
وزوّدتُ من سكّان مكة ناظري
ويتردد ابن ماجد عليها في أوقات متباعدة جدا، ويبقى عندها وقتا قصيرا لأنه دائم الأسفار في البحر. فإذا أراد زیارتها، جاء إلى جدة، وأبقى مركبه في بندرها، وانتقل منها إلى مكة في إحدى القوافل. ولم يفته أن يتكلم عن فرحة اللقاء ومرارة الفراق، فينشد:
فلا حضرة إلا وفيها تودع
ولا نظرة إلا وفيها مواطر
مخافة وشل البين يوم رحيلينا
بغير وداع وانکسار الخواطر
من الثابت أن ابن ماجد قد تجاوز الستين من عمره، وشهد أوائل القرن العاشر الهجري، فقد ورد في أرجوزته المسماة ضريبة الضرائب، ما يعزز ذلك، وهو قوله:
شباب برأسي أعجب الناس من أمري
أتاني عقيب الشيب في آخر العمر
وأي شباب بعد ستین حجة
سما في السما فوق السماكين والنسر
ومن هذه الأرجوزة قوله:
أيا فرحتي في ليلة قد ترتبت
كأنيَ أعطيت المنى ليلة القدر
مهذبة من تسعمائة قد أتت
إذا هي ما تمت وفيت لها نذري
ودل البيت الأخير بوضوح على أنه قد دخل في عام (900) هجرية ويتمنى أن يوفي نذره بتمامه، وربما كان هذا النذر هو (الحج) كما تعود أن يفعل، ويوافق هذا التاريخ عام 1494-1495م.
وفي العام ذاته، نظم قصيدته قسمة الجمة على أنجم بنات نعش، وقال فيها في البيت 203:
لأني قد كنت أيام الصبا
هممتُ فيها فأتتني أشيبا
والأشيب الأبيض الرأس. إذن لم يعد في رأسه شعرة واحدة سوداء في عام900هـ. وهذه إشارة واضحة إلى طعنه في السن. ويعود في الشطر الثاني من البيت 214 من القصيدة ذاتها، فيكرر إحساسه بقرب منيته، فيقول: 'خوفي أموت قبل أن تحررا'. ويوصي بإصلاحها بعد مماته. وتعني هذه الوصية انتهاء عهد الاعتداد بالنفس عنده، وبداية شكه في قدرته لأنه لم يعد يسافر، بل لعله لا يستطيع السفر، ليختبر ويجرب ويدون كما كان يفعل طيلة حياته. وقد عبر عن هذه الفكرة ذاتها في قصيدته ضريبة الضرائب، فقال في بيتها إلى 43:
وزدهن بالتجريب ما استطعته
مخافتنا ألا يساعدنا عمري
في عام 895 هـ، كان ابن ماجد قد أمضى خمسين سنة في البحر مسؤولا عن المراكب، يطبق فيها مبادئ علم الملاحة الفلكية، ويستدل من جميع هذه الأقوال، الواردة على لسان ابن ماجد عن أوضاعه، أنه امتنع عن ممارسة مهنته منذ عام 895 هـ، وأقام في بيته. وكان ما يزال حيا ومعتزلا العمل في عام 900 هـ.
وتثبت هذه السن أي الخامسة والسبعون دنو أجل أحمد بن ماجد، مثلما ورد على لسانه. وتفيد أقواله في سنة 895 هـ أنه لم يعد يركب البحر لضعف بنيته الجسدية وقدرته على التمييز. فلا شك إذن أنه اعتكف بعدها في بيته ينتظر لقاء وجه ربه.
مع ذلك، كتب في عام 906 هـ، قصيدته القصيرة المخمسة التي ألح فيها على ضرورة التصرف بحكمة في البحر، ولم يأت فيها بشيء جديد لم يسبق له أن تحدث عنه مرارا وجملة وتفصيلا. وكان قد بلغ الحادية والثمانين في تاريخها. ثم انقطعت أخباره تماما. ونحن نعتقد أنه توفي في هذه السنة ذاتها
أو لعله عاش لسنوات بعد هذا التاريخ، وليس ذلك بمستبعد من الأحوال الطبيعية على شخص قضى أغلب حياته في البحر يعيش في بساطة وهدوء، يتنفس الهواء النقي، متفرغا لعمله، لا يشغل باله بعرض الدنيا وزينتها. ثم أنه كان عفيف النفس، ورعا تقيا مخلصا لربه ولمهنته زاهدا في المال.
كان للبيئة أثرها وللأسرة.. فينحدر ابن ماجد نفسه من أسرة ربابنة، فقد كان أبوه ربانا يلقب بربان البرين: أي بر العرب وبر العجم. وقد دوّن تجاربه الملاحية في مصنف ضخم سماه: (الأرجوزة الحجارية) تحوي أكثر من ألف بيت في وصف الملاحة في البحر الأحمر. كما كان جده هو الآخر ملاحا مشهورا.
فأحمد نشأ في بيت احترف البحر، فكان لأبيه وجده الأثر البارز في قوة شخصيته وتوجهه البحري، فقد كان جده ربانا وكان والده عالما، واستمر ابن ماجد يثبت الكثير من نظرياتهما.
وكان لهما الأثر الكبير في ثقته بنفسه، وقد شجعه جده على التصنيف في علم البحر.
وكان لجلفار البحرية أثرها أيضا وهو الذي يصفها بقوله:
بها من أسود البحر كل مجرّب
وفارس يمٍّ في الشدائد بارعُ
ويخاطب أهلها في مطلع قصيدته 'القافية' قائلا:
إليكم أسود البحر مني يتيمةَ
قد استخرجت من بحريَ المتدفقِ
ويقول في الفائقة:
سميتها لأسود البحر فائقة
تهدي السبيل بنجمين عجيبين
ويقول في حاوية الاختصار:
تمت بشهر الحج في جلفار
أوطان أسد البحر في الأقطار
فهو يعتز بنسبه ووطنه
رعى الله جلفارا ومن نشأ بها
وأسقى ثراها واكفٌ متتابع
وإذا عدنا إلى أخباره عن جده الأول وأبيه، أوركنا أنه كان يصحب والده في أسفاره في بحر قلزم العرب، ثم استقل عنه.
بالفعل ينبئنا أن جده محمدا أول من قام بإجراء قياسات نجوم في هذا البحر، ثم حققها ودققها مع مرور الأيام، وخلفها في النهاية لابنه ماجد. وكرر ماجد بعده هذه القياسات، وأعاد التحقيق والتدقيق فيها، ثم نقلها بدوره إلى ابنه أحمد. وأمضى أحمد بإقراره الصريح أربعين سنة، وهو يعيد أعمال والده ماجد وجده محمد، ويحررها ويحققها ويدققها ويصلح أخطاءها ويتمم نواقصها). ويتضح من هذه الأقوال الموثوقة، رغم تسمية ماجد ربان البرين أي بر العرب وبر الهند، أن آل ماجد اختصوا أصلا بالملاحة في بحر القلزم، وأن أحمد بالذات تدرب فيه عند والده، قبل أن يصير رجلا ومعلما ماهرا وينطلق إلى بحر الهند، ويصول ويجول في هذا المحيط بعد رحيل الصينيين عنه. فلا غرابة إذن في عدم اطلاعه على الحملات الصينية لأنه كان آنذاك لا يزال في بحر القلزم بعيدا عن نطاق نشاطهم.
بالتالي كان حيا في الثلث الأول من القرن التاسع الهجري، أي الثلث الأول من القرن الخامس عشر الميلادي بقي أن نحدد متى ولد بالدقة المتيسرة.
ولا ينسى طلب الدعاء لأهله وأقاربه (وفاء) لهم:
واغفر إلى ابن أبي الركائب
والأب والأهل مع الأقارب