ثقافة

جزيرة الصبا: هل تجرحنا الطفولة إلى الأبد؟

رحلة بين دفتين

 
'الحياة يسهل فهمها، والعوامل التي تحدد هذا الفهم قليلة، هما عاملان بالنسبة إليّ: والدي، وحقيقة أني لم أشعر بالانتماء في أي مكان'. خلاصة بمثابة عنوان جانبي يضعه كارل أوفه كناوسغارد لتجربة 'كفاحي' بأجزائها الستة. لم يكن يخطط لكتابة سرد واقعي إلى حد يعرّي فيه خدوشه العاطفية كلها منذ قبعة السباحة ذات الورود التي أثارت سخرية زملاء المدرسة، وصولاً إلى شعوره المتجذر بقلة الكفاية والثقة بالنفس، حتى اليوم وهو يشهد على وصول 'كفاحي' لقوائم الكتب الأكثر مبيعا حول العالم. كان يحلم بكتابة عمل تخييلي مثل موبي ديك، لكنه لم ينجح لحسن الحظ.

يعرفُ لماذا لا يؤثر كل هذا الضوء الملقى عليه اليوم في إذكاء شعوره بالاعتزاز على أقل تقدير، عندما يقول: 'لقد تعرضتُ للإذلال في طفولتي مرة بعد مرة. شعرتُ بالعار من كل شيء. وهذا أساسي للغاية.

بغض النظر عما أفعله، وكم عدد الكتب التي أبيعها، فهذا لا يساعد. ثمة ذلك الشعور بأنك أحمق، لكن الطاقة في كتبي تأتي إلى حد كبير من تلك الفجوة، على ما أعتقد'. قد لا تكون هذه الحالة اختيارية في غالب الأحيان، فبعد أشواط يقطعها المرء في العودة إلى الماضي، يأمل أن يكون قادرا على التوقف عند سن البلوغ، لكن المسار يُمعن في الرجوع إلى سنوات الطفولة الأولى(١).

مع ذلك ينتبه كناوسغارد للفجوة القاتمة التي تنبثق منها كل المشاهد التي عند سردها تُشكل ذاكرة جديدة، ليست نسخة كربونية عن الأحداث، بقدر ما هي مزيجٌ من المرئي والمتخيل، ذاكرة معادٌ ابتكارها، حتى لو غابت قصدية التحريف عن ذهن الكاتب. هذا ما تشير إليه دراسات الذاكرة في الوقت الحاضر، أنها معرضةٌ بدرجة كبيرة لإعادة الابتكار (٢)، و لإعادة الابتكار هذه ثمار علاجية تستخدم بشكل قصدي في إطار منهجي يطلق عليه العلاج السردي (٣) فيه تُبنى روابط جديدة بين التجربة المُعاشة والمعنى المستخلص منها، لبناء سردية جديدة تتواءم مع رؤية صاحب التجربة وأمله حيال المستقبل.

في 'جزيرة الصبا' الجزء الثالث من كفاح كناوسغارد، تضاف قطع محورية للأحجية التي تتضح صورتها الكاملة بتدرج بطيء في الجزئين الأولين، هنا تتضح بذور الشعور بالعار في علاقته بالأب الذي لا يوفر أي مناسبة للعقاب، من إضاعة فردة جورب، إلى تعطل التلفزيون، لا يتوقف العنف عند هذا الحد، فهنالك التوقعات العالية من طفل يطلب منه القيام بعمل ما للمرة الأولى، كأن يكوم قطعا من الأخشاب على صخرة، وعندما يفشل في ذلك يوصم بالغباء فورا، ولا يُسمح له بالبكاء لأنه فعل أنثوي، ولا باحتجاج بسيط كالامتناع عن أكل السكاكر أثناء المباراة، ينبغي التظاهر دائما بأن كل شيء على ما يرام ولو لم يكن كذلك.

ولأن نظرة واحدة كانت تكفي ليكتشف الأب بأن أمراً ليس على ما يُرام، كان القلق واليقظة المفرطة (٤) ينموان بلا توقف في نفس الطفل، كأن ترقب الكارثة المحتملة هو الطبيعي في كل الأوقات، رغم أنه نقيض الطبيعة التي تُفصح عن مؤشرات ملحوظة كلما تغير الطقس.

'وأما العامل الوحيد في هذه الحياة الذي كان توقعه صعباً بالفعل، من الخريف إلى الشتاء، ومن الربيع إلى الصيف، ومن سنة دراسية إلى سنة دراسية أخرى، فهو أبي. كنت أخافه خوفاً شديداً لا أستطيع الآن إعادة تجسيده كله مهما بذلتُ من جهد، فقد كانت لدي تجاهه مشاعر لم أعرفها أبداً بعد ذلك الوقت، بل لم أعرف أي شيء قريب منها'.

قد يكون رد الفعل الأقرب للبداهة، بعد التعرض لتجارب تكرّس الشعور بالعار هو الانكفاء على الذات، وتجنب كل ما من شأنه أن يعيد ذلك الشعور إلى السطح من جديد، إلا أن كناوسغارد يقرر أن يستغرق في كتابة شديدة التفصيل حول تجاربه القاسية، أثارت حوله زوبعة من التأويلات، فهو ربما يحاول التغلب على الإحساس بانعدام القيمة، أو يمعن في إذلال الذات عبر الكشف الطويل المعمّق لكل ما شكّلها عبر الزمن، هذا التطرف في الانكشاف هو ما وصف أيضاً بأنه ينطوي على نرجسية وتعظيم شديد للذات (٥).

أياً كانت طبيعة المتعة التي يجدها كارل أوفه في نبش تربة الماضي البعيد، فهي ذات طبيعة علاجية مثيرة للاهتمام. الشعور بالعار تحديدا يتسم بطابع علني، لا نشعر به لأننا قمنا بتجاوز معين، وإنما لأننا ضُبطنا من قبل آخرين وقتئذ، وكُشف عن فشلنا الأخلاقي (وفقاً للمعيار المتفق عليه ضمنياً)، لذلك عندما نقرر الاقتراب من هذا الشعور عوضاً عن الاختباء منه، سندفع تكلفة اجتماعية باهظة على الأرجح كما حصل مع كناوسغارد، لكن المقابل ليس أقل قيمة على الإطلاق، التعرف على الذات في ضوءٍ صافٍ، والتعبير عنها بأصالة نادرة. هذا بحد ذاته مُحرر لحدودٍ تجعل الشجاعة ممكنة رغم كل ما سبقها ويرافقها من خوف وجودي.

عندما ينجب كناوسغارد أطفالاً، يحاول معهم تحقيق هدف واحد وحسب، ألا يكونوا خائفين منه، ويطمئن عندما يراهم لا ينكمشون على أنفسهم عندما يدخل البيت، أو يندفعون للخروج لأي عذر. ولا يبدو هدف كهذا قليلاً، إذا عدنا إلى رمزية الأب في كتابات يونغ، فهو يمثل السلطة والحماية معا، مما ينعكس على الشعور بالأمان حيال الآخرين والعالم ككل. قد تكون هذه الملاحظة التي دونها تعقيبا على موقف شعر فيه بالرفض من أقرانه الصغار، إحالة إلى الموقف الذي وضعه فيه أباه مرارا: 'كان هناك أمر غريب لأني أجد نفسي دائما في موقع دفاع، أجد نفسي محاصرا، وأجد أن الجميع يزدادون بعدا عني عندما أقترب منهم'.

في غرفته لا يحلم الصبي بغير أمنية وحيدة، أن يكبر ويمتلك القدرة على التحكم بحياته، هذا لأن الانتقام من الأب لم يمكن ممكنا خارج المخيلة، أما خارجها فكان الأب أكبر من كل شيء، وكأن كل ما في العالم ينحني لإرادته. هل امتلك الصبي تلك القدرة لاحقا؟ أم أن الأوان قد فات على تحصيل الدفء بعدما تغلغلت برودة الجفاء عميقا في نفسه، تحديداً عندما انتبه إلى تلك الكراهية التي يصعب إيجاد نظير لها؟

'كنت أكرهه كما لا يمكن أن يكره المرءُ أحداً غير أبيه'.

لعل هذه هي المساحة المتاحة للتأمل في علاقة كناوسغارد بالعالم، الفجوة ذاتها التي امتلأت بالأسئلة والكتابة المتدفقة على نحو لم يكن متوقعاً حتى بالنسبة إليه.

ـــــــــــ

١- سيغموند فرويد، ١٩٥٣.

٢- جون كيهلستورم، جامعة أريزونا، ١٩٩٢.

٣- نظرية طُورت لأول مرة بواسطة ديفيد إبستون ومايكل وايت.

٤- اليقظة المفرطة: حالة من الحساسية الشديدة وتيقظ الحواس، يكون فيها الجهاز العصبي متأهباً لاكتشاف المهددات من حوله، وترتبط هذه الحالة غالباً بأحداث صادمة أو أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.

٥- هاري كونزرو، صحيفة الغارديان، ٢٠١٤.