أفكار وآراء

علم المواطن.. رؤية من علم الاجتماع

تمثل جدلية الطلب على العلوم الاجتماعية جدلية قديمة (متجددة) في سياق الواقع الأكاديمي وواقع أسواق العمل، وقناعتنا أن مستقبل الطلب على العلوم الاجتماعية ليس مرتهنًا بالدرجة الأساس بما يحدث من تغيرات في أسواق الشغل وحاجيات الاقتصاد ومتطلبات التنمية المستديمة، بقدر ما هو مرتبط بقدرة هذه العلوم على تجديد نسيجها الداخلي، وقدرتها على تطوير أدواتها وتضمين أدوات وعناصر تجدد ذلك النسيج، بما في ذلك قدرتها على (عبور الاختصاصات interdisciplinarity) ، والاستفادة من الرؤى والمناهج المتقاطعة مع العلوم الطبيعية، وقدرتها على استيعاب أدوات البحث والتحليل المستجدة، بما في ذلك تطبيقات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتقنيات تصور الشبكات Network visualization وتقنيات تحليل الكتل الاجتماعية Clustering and community detection، يبقى كل ذلك مرهونًا اليوم بمرونة الأقسام الأكاديمية لهذه التخصصات في التحديث الدائم والمستمر لخططها الدراسية، وانفتاحها الجاد على المجتمع، وعلى متطلبات المؤسسات، وفي استقطابها الجاد للمشروعات البحثية الاستراتيجية التي يمكن أن تسهم في إدماج الأكاديميين والطلبة على حد سواء فيما يحدث من متغيرات في الوسط العام (دولة ومجتمع). إن صح الحديث اليوم في جدلية مستقبل الطلب على العلوم عمومًا، فإننا نعتقد أن المتغير ليس هو الطلب على (التخصصات) ؛ وإنما تغير الطلب على (المهارات) ؛ فمن المحتم أن التغيرات الراهنة ستفرض على (الباحث في علم الاجتماع مثالًا) أن يفهم طرائق وأدوات وتقنيات التعامل مع البيانات الضخمة، فالإحاطة بهذه المهارة تشكل مُدخلًا مهمًا لاستبدال أدوات ومناهج تقليدية في فهم الحركة والسلوك الاجتماعي، ودربًا مختصرًا للانتقال إلى مراحل متقدمة في تفسير الأنماط الاجتماعية، وتحليل الانتظام والافتراق في حالة السلوك والتفاعلات الاجتماعية العمومية.

أحد أهم المجالات التي يمكن أن تشتغل فيها العلوم الاجتماعية هو ما يُعرف بـ (عِلم المواطن Citizen science) ويُقصد به مشاركة الأفراد (العموم) في عمليات البحث العملي من خلال مساهمتهم جنبًا إلى جنب مع العلماء والباحثين في رصد ظاهرة معينة، أو التتبع التاريخي للأحداث في سياق جغرافي ما، أو فهم قضية لها ارتباط بالحيز الاجتماعي والجغرافي الذي يتجذرون فيه. من أمثلة ذلك مشاركة الأفراد مع العلماء في المشروعات البحثية المرتبطة بمصائد الأسماك، أو بمراقبة حيوانات معينة، أو في تتبع أنواع معينة من الطيور، أو تلك المشروعات البحثية المرتبطة بالتاريخ البشري والإنساني على حد سواء. يلعب الأفراد عدة أدوار في (عِلم المواطن) منها: المراقبة لحيز جمع البيانات، والإرشاد إلى الجذور، والمساهمة في التوجيه نحو مناطق التركيز الأساسية بناء على معايشتهم للمنطقة أو الظاهرة، وكذلك تطوير بعض الأفكار المجتمعية (المعرفة الاجتماعية) التي يمكن أن تساهم في تفسير حيز البحث وإشكاله جنبًا إلى جنب مع الباحثين والعلماء. بحسب «ناشيونال جيوغرافيك» فإن عالم الأحياء (Wells Cooke) من أوائل من استخدموا (عِلم المواطن) في مشروعاتهم البحثية، حيث شاركت شبكة من المتطوعين المحليين في جمع المعلومات في مشروع بحثي قام به حول العلاقة بين أنماط الطيور المهاجرة وأعداد السكان، وقاموا بتسجيل هذه المعلومات على مجموعة من البطاقات تم مسح هذه البطاقات ضوئيًا وتسجيلها في قاعدة بيانات عامة لتحليلها التاريخي. وبلاشك، تطورت أنماط هذه المشاركة في (عِلم المواطن) عبر العقود الفائتة، وخاصة مع تطور الوسائط الرقمية والتقانة، حيث تزود بعض المشروعات البحثية اليوم المواطنين بتطبيقات معينة في أجهزة الهواتف الخاصة بهم، لتتبع المعلومات الدقيقة والحساسة حول بعض القضايا الطبيعية، بما في ذلك البحث حول الحشرات، وأحوال الطقس، ومستويات جودة المياه والهواء، وسواها من القضايا التي كانت تستند إلى بحوث تاريخية عبر مجموعات مركزية من العلماء والباحثين.

إن لـ (عِلم المواطن) اليوم ثلاث فوائد رئيسية: أولها؛ إدماج المعرفة/ الخبرة الاجتماعية لمحاولة فهم حساس ودقيق للظروف المحيطة بالظاهرة الطبيعية المدروسة، وثانيها: ربط الأفراد باختلاف أعمارهم ومستوياتهم الثقافية والمعرفية بالعلم في أقصى تعقيداته والمساهمة في تقريب الجهد العلمي من المجتمع، وثالثها: تقليل كُلف جمع البيانات والآجال الزمنية التي تحتاجها. إلا أن ما يعنينا هنا هو أن ازدهار وتطور (عِلم المواطن) هو يمثل في ذاته سانحة للعلوم الاجتماعية أن تثبت ذاتها، وتراهن على منظوراتها في الفهم والتفسير في عالم ينتصر للعلوم الطبيعية. ذلك أن فهم وتفكيك المعرفة/ الخبرة الاجتماعية هو اختصاص أصيل للعلوم الاجتماعية، وخاصة الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، كما أن فهم المداخل الأساسية لتهيئة المجتمعات للمشاركة في عمليات البحث يقتضي فهم الشبكات والعلاقات الاجتماعية والدوافع، وهذه مهمة أصيلة أخرى للعلوم الاجتماعية. في دراسة أجراها ك.س غامبل في عام 2013 وحلل فيها قدم العوائق التي تحول دون مشاركة المجتمعات المحلية في البحث العلمي، بما في ذلك القضايا المتعلقة بديناميات السلطة وانعدام الثقة والتواصل والاختلافات الثقافية. وجد غامبل أن عدم الثقة والمخاوف بشأن الاستغلال كانت أهم العوائق أمام مشاركة أفراد المجتمعات المحلية في البحث العلمي، حيث وجدت الدراسة أن 40 ٪ من المشاركين أبلغوا عن مخاوفهم بشأن استخدامهم «كمواضيع بحث». إن فهم وتحليل هذه المخاوف مهمة أصيلة لـ (علم الاجتماع)، وهو ما يسهم لاحقًا في معرفة الطرق المثلى لحشد وازدهار (عِلم المواطن) بناء على فهم المداخل المناسبة لإشراك الأفراد في الجماعات العلمية والبحثية. في دراسة بعنوان: «مفاجآت تخيلية: كيف يمكن للعلوم الاجتماعية أن تساعد النماذج على تمثيل «عدم اليقين العميق» في الطلب على الطاقة والمياه في المستقبل». يؤكد الباحثون أن «الأساليب التقليدية (مثل الاقتصاد القياسي) لا تدمج الجوانب المتنوعة والديناميكية لفهم مستقبل الطاقة والمياه عالميًا. وأن الرهان يجب أن يكون على الرؤى متعددة التخصصات التي يمكن أن توفر ابتكارًا منهجيًا لاستكشاف الطلب على الطاقة والمياه في المستقبل». يشير البحث إلى أن (الأحداث العشوائية، وتنوع السلوك، التدخلات السياسية و«التطور المشترك» للمتغيرات التي تؤثر على الطلب) كلها عناصر أصبحت مؤثرة على الطلب على الطاقة والمياه ولكنها خارج إطار مدركات الاقتصاد القياسي والعلوم الطبيعية. وعليه فإن الاستفادة تحديدًا من علوم (الجغرافيا البشرية وعلم الاجتماع) يمكن أن تسد فجوات عدم اليقين والغموض في مستقبل الطلب على الطاقة والمياه. عليه؛ فاليوم الأقسام الأكاديمية في «العلوم الاجتماعية» مدعوة بشكل أساس أن تحرر ذاتها من قيد الأكاديميا المدرسية الضيقية، لتنفتح على أنماط جديدة من الطلب العلمي، وأدوات جديدة من المعرفة/ الخبرة الاجتماعية الداعمة لفهم حركة العالم والمجتمعات الإنسانية على حد سواء.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان