أفكار وآراء

التسامح كما يجب أن تتقاسمه الثقافات الإنسانية

في مقالي الأسبوع المنصرم، تحدثت عن العلاقة الملتبسة بين العرب والغرب بصفة خاصة وبين الغرب والمسلمين بصفة عامة، وذكرت الأسباب الكامنة التي هي من مخلفّات الصراعات الماضية، التي تحدث عادة لأسباب سياسية، أو دينية، أو اقتصادية، أو غيرها منه الأسباب، وهذه حدثت مع ثقافات وحضارات كثيرة أخرى مرت عبر التاريخ، ولم تكن خاصة بالعرب والمسلمين والغرب، بل كل الحضارات حصل معها تماس أو نزال أو صراع، والتاريخ مليء بهذه الحروب والتوترات، التي ليس هنا مجال سردها ومناقشتها، ولكن اللافت في عصرنا الراهن، ومع خفوت تلك الحدة في الخلافات كما في القرون الأخيرة، في عصر ما سمي بالأنوار والديمقراطية والحريات العامة، والتعددية السياسية والانفتاح على الآخر المختلف، ذلك أن الثقافة الغالبة أو المتفوقة من حيث القدرة المادية والعسكرية والاقتصادية، تريد فرض نموذجها الفكري والثقافي وحتى السياسي على الثقافات والحضارات الأخرى المغايرة لها في نموذجها الخاص، والكثير مما يراد فرضه جاء من خلال رؤى متغيرة لم تكن متوارثة في العصور الماضية، بل برزت حديثا، وجاءت مع التحولات الفكرية والسياسية التي حدثت في حياتها الخاصة في الغرب، ولم تعد المشتركات الإنسانية التي يتفق عليها الجميع شائعة فيما مضى، بل دخلت على هذه النماذج تصورات جديدة غريبة في تعاطيها مع القيم والأخلاق، وأصبحت ترفض الالتزام بها، ولم تعد لها تلك النظرة السلبية عند بعض النخب السياسية والفكرية، إذ كانت مرفوضة حتى في نظمهم الفكرية والثقافية قبل قرنين فقط، كما كانت هي مغايرة للفطرة السليمة المتفق عليها مع أغلب الثقافات البارزة في عالم اليوم.

ومن القضايا التي يلح عليها بعض الساسة والمثقفين في الغرب على وجه الخصوص، قضية التسامح، وهي من القضايا التي لا شك في أهميتها وأثرها الطيب في التعايش المبني على التعددية الثقافية والتفاهم الإنساني، من حيث القبول بالآخر وثقافته والتسامح مع ما يراه جديرا باحترامه وتقديره، وهذا هو مبدأ التسامح كما يجب أن يتفق عليه، وأن يكون سائدا عند الجميع، وهو أن تتسامح أنت مع ما أعتنقه، وأنا أتسامح مع ما تعتنقه في حدود النظم والقوانين والشرائع عند كل طرف من الأطراف، وهذا هو الذي يكرس مبدأ التسامح بين الثقافات الإنسانية، بحيث لا يتم فرض أفكار أو فلسفات أو ثقافات خارج ما هو مقبول في كل ثقافة بخصوصيتها وما تراه من قيمها التي لا تحيد عنه من حيث السلوك الخاص، أو نظرات أخرى ليس لها الحاضن الفكري عند الآخر الذي له فكره وثقافته ونموذجه، من هنا يترسخ ويتحقق التسامح بين الحضارات والثقافات، عندما نحترم بعض ما نرفضه مما نراه سلبيا، ونقبل ما نراه إيجابيا.. والعكس كذلك هو الصحيح، وهذه هي التي تحقق التفاهم والتقارب والتواصل، بل والتفاعل مع الثقافات الأخرى، دون أن يلغي أو يقصي أحدنا الآخر، والإسلام لم يرفض بعض ما عند الحضارات الأخرى من إيجابيات، علمية وفكرية محايدة، بل تفاعل معها وأضاف إليها ما يراه مقبولا في القيم العربية الإسلامية، وبعد فتح فارس في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، تم أخذ بعض النماذج الإدارية التي كانت مطبقة في العهد الفارسي ورفض بعض ما يجانب التشريع الخاص بها، والحضارة العربية/ الإسلامية استفادت من حضارات ما قبلها، وتجاوزتها من حيث الإبداع الجديد في نموذجها الفكري والعلمي والفلسفي في العصر الأموي والعباسي، وهذه سمة معروفة بين كل الأمم في التاريخ الإنساني.

ومن هنا، فإن الإسلام سبق الحضارات الإنسانية في إرساء التسامح مع الشعوب الأخرى التي دخلت في الإسلام، مع بقاء دياناتها وأعرافها في ديار المسلمين، دون فرض أو إقصاء لها، وهذه السماحة- كما أطُلقت كمصطلح للتسامح ـ تحققت مكانتها في ذلك التاريخ مما دعا المؤرخ والفيلسوف الأمريكي «درابر» إلى أن يقول: «إن شعوب الأرض لم تر قط دينا بلغ في لطفه وسماحته على أهله وأهل ذمّته كدين الإسلام». وهناك الكثير من أقوال عن هذا الموقف من الغربيين المنصفين تجاه العرب والمسلمين، وتحدثوا بصورة محايدة وعادلة، وكان لديهم استقلالية فكرية وروح علمية بحثية رزينة متجردة من الأحكام المسبقة، بعكس ما قاله بعض المستشرقين، الذين سبقوا الحملة الاستعمارية، ومهدوا لها بالمعلومات والوثائق وحياة هذه الشعوب قبل الاحتلال، وقد شرحت ذلك باستفاضة في كتاب: (الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف)، وإذا رجعنا للتاريخ الغابر، نجد كيف أن المسلمين لم يفعلوا كما فعل النصارى في أسبانيا، عندما استولوا عليها من المسلمين وهي أرضهم فيما سبق، وكيف فعلوا بسكانها من المسلمين ومن غيرهم، كما عُرف فيما جرى بـ(محاكم التفتيش)، إما القتل أو التنصير، أو هروب من استطاع منهم الفرار بدينه.. وتعالوا نرى في الجانب الآخر، عندما حكم المسلمون بلاد الشام والعراق وبلاد المغرب العربي والأناضول، فلم يجبروا أصحاب الديانات الأخرى على غير دينهم، ولم تهدم كنائسهم ومعابدهم، وبقيت حتى الآن في مصر والعراق والشام وإيران وتركيا وغيرها، وأصبحوا في الديار الإسلامية: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهذه هي حقيقة التسامح مع الآخر مع اختلاف الدين، وأيضا دستور المدينة الذي أبرمه الرسول- صلى الله عليه وسلم- مع القبائل غير المسلمة في يثرب.. المدينة بعد ذلك، وهذا الدستور أو الصحيفة كما تسمى عند البعض، تعتبر كما تحدث عنها الكثير من الباحثين العرب والأجانب، أول وثيقة لحقوق الإنسان، مع المواطنة الكاملة بمقاييس عصرنا، حيث حددت الصحيفة الحقوق والواجبات لهذا المجتمع المدني الإسلامي الوليد في ذلك العصر، وهي شبيهة بما ورد في المادة الأولى من وثيقة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: «يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعالج بعضهم بعضا بروح الإخاء».

ومن هنا نرى كيف تعامل النبي- صلى الله عليه وسلم- مع الآخرين المختلفين عقائديا مع المسلمين حيث نهج ـ عليه الصلاة والسلام ـ نهج التسامح معهم، والقبول باختلافهم مع هؤلاء الأقوام بالمدينة، واحترم خصوصياتهم الفكرية وحقوقهم الدينية، دون إكراه أو إجحاف أو إقصاء فلم يعمد عليه الصلاة والسلام حين تعامل مع سكان يثرب إلى تغيير قناعات مجتمعه قسرا وإجبارا، كما لم يفرض أنماطا معينة لبخس حقوقهم بحسب هويتهم وثقافتهم، علما بأنه قد كان فيهم، وهذه أهم مضامين التسامح الذي يجب أن يسود ويتأسس بهذا الإخاء الإنساني، ويذكر الكاتب والمفكر الأستاذ فهمي هويدي في كتابه: (موقع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)، ونقلها من الكاتب الباحث الشهير الأمير شكيب أرسلان، قصة معبرة تبرز المنهج الإسلامي في التسامح مع غير المسلمين، فيقول: «إن أحد الوزراء العثمانيين كان مرة في أحد المجالس، في جدال مع بعض رجال دولة أوروبية فيما يتعلق بهذا الموضوع، فقال لهم الوزير العثماني: إننا نحن المسلمين من ترك وعرب وغيرهم، مهما بلغ بنا التعصب في الدين فلا يصل بنا لدرجة استئصال شأفة أعدائنا ولو كنا قادرين على استئصالهم. ولقد مرت بنا قرون وأدوار كنا قادرين فيها على أن لا نبقي بين ظهرنا إلا من أقر بالشهادتين وأن نجعل بلداننا كلها صافية للإسلام. فما هجس في ضمائرنا خاطر كهذا الخاطر أصلا وكان إذا خطر هذا ببال أحد من ملوكنا، كما وقع للسلطان سليم الأول العثماني، تقوم في وجهه الملة ويواجه مثل زنبيلي علي أفندي شيخ الإسلام، ويقول له بلا محاباة: ليس لك على النصارى واليهود إلا الجزية وليس لك أن تزعجهم عن أوطانهم. فيرجع السلطان عن عزمه امتثالا للشرع الشريف. فبقي بين أظهرنا حتى أبعد القرى وأصغرها نصارى ويهود وصابئة وسامرة ومجوس. وكلهم وافرون لهم ما لنا وعليهم ما على المسلمين، أما أنتم معاشر الأوروبيين فلم تطيقوا أن بين أظهركم مسلما واحدا واشترطتم عليه إذا أراد البقاء أن يتنصر». وإذا عرجنا إلى تاريخنا العماني، نجد تاريخا ناصعا منذ قرون، من التسامح والتواصل والتعاون داخل وخارج عمان، وهذا معروف في الأوساط السياسية والفكرية في العالم، ومن خلال هذا كتب بعض الباحثين من العرب والأجانب عن التسامح العماني، في حقب مختلفة وأشادوا به، وهذا ما يجعلنا نفاخر بهذا التسامح الذي هو قيمة فكرية في الإنسانية جمعاء.