أعمدة

هوامش ومتون :جمهور الدراما وهراوات النقد الثقيلة

 
في سنوات خلت، كنّا حين نتابع عملا دراميّا تلفزيونيّا نجلس باسترخاء مستمتعين بالمشاهدة، ونتابع العمل للآخر، بحرص شديد مع العائلة التي تشاركنا المتعة، في وقت كانت الشاشة الرمضانية تجمعنا على المائدة، لنشاهد ما أعدّه له التلفزيون بقناته الوحيدة، في كثير من الأحيان، من برامج ومسلسلات رمضانيّة، وإذا كانت لدينا ملاحظة حول عمل ما، فإننا نعطي «الخبز لخبّازه» أي الناقد الفني المتخصّص، يومها كان لكلّ صحيفة، أو مجلة، ناقد تعطى له المساحة المتاحة لتحليل العمل الفني، ومراجعته، وإعطاء الآراء التي تقيّم مستوى ما قدّم، فيقوم بواجبه، محللا، وفاحصا، عاقدا المقارنات، مع أعمال سابقة، وكلّ ذلك يأتي بروح موضوعيّة، خالية من التحيّز، أو التحامل؛ لأن الهدف هو تحسين المحتوى، وتجاوز الهِنات التي يقع بها المشتغلون في الدراما، إلى جانب رفع مستوى الوعي المجتمعي، وهكذا كانت تسير الأمور، فننتظر نهاية المسلسل، لنقرأ ما تجود به أفكار هؤلاء النقّاد المتخصصين الذين نثق بآرائهم، وتقييمهم للعمل الفني، الذي شاهدناه، وغالبا ما يتم تعميق تلك الأعمال فكريا، والبحث في مرجعياتها وخلفياتها، لنخرج بصورة متكاملة، دون أن نسمح لأنفسنا الدخول في تفاصيل تلك الأعمال، لأننا كنا نحترم صنّاعها، وهكذا تابعنا مسلسلات ظلت راسخة إلى اليوم في ذاكرتنا مثل (القاهرة والناس)، (أبنائي الأعزاء شكرا) (الشهد والدموع) (رأفت الهجان)،(بوابة الحلواني)، (ليالي الحلمية)، (آرابيسك)، (أبو العلاء البشري)، (لن أعيش في جلباب أبي)، (عائلة الحاج متولي) إلى جانب المسلسلات السورية التاريخية كـ(الزير سالم) و(صلاح الدين الأيوبي) و(صقر قريش)، وأعمالا أخرى عديدة، تناولها النقّاد بالتحليل، وقرأنا ما كتبوا، فزادت متعتنا، مع احتفاظنا بوجهات النظر المختلفة، فالأعمال الفنية لا تُحصر في زوايا معيّنة، ولا توجد قوانين ثابتة تخضع لها كونها تحتكم للذائقة، ولكلّ فرد ذائقته، مع وجود المعايير الفنية العامّة التي يعرفها المتخصّصون، وكنا نحرص على المشاهدة، ونقبل عليها بلذة، فكانت المتعة أكبر، وكان الطرفان يحترم أحدهما الآخر، فصنّاع الدراما كانوا حريصين على إرضاء الجمهور، وتقديم وجبة درامية تعوّضه عن ساعات الامتناع عن الطعام والشراب، وبالمقابل يقدّر الجمهور جهود العاملين الذين أمضوا شهورا عديدة في إنتاج هذه المسلسلات حتى وصلت إلى الجمهور عبر الشاشة الصغيرة، فمن أصاب، فله أجران، ومن أخطأ فله أجر.

لكن اليوم تراجع دور الناقد الفني، واستغنت الصحف والمجلّات عنه، إلّا قليلا، وصارت الساحة مفتوحة لكلّ شخص يدلي بدلوه، وصرنا في «حيص بيص» من أمرنا، ففي كلّ يوم يمرّ تكاد لا تخلو منصّة، أو موقع من مواقع التواصل الاجتماعي من حديث حول الدراما الرمضانية يدوّن كتّابها وجهات النظر المختلفة في تقييم الأعمال الدرامية، والأداء، وهي تبقى انطباعات شخصيّة، لكن الكثير منها تطغى عليها السخرية المريرة لجمهور انتقل بسرعة من موقع التلقي إلى موقع التحليل والتقييم، وساعدت على ذلك كثرة القنوات الفضائية، وتعدّد الإنتاج الدرامي وتشعّبه، ونؤكّد هنا أننا لا نريد تكميم أفواه الجمهور، والحجر على آرائه، بل نتمنى عليه عدم التسّرع، في إصدار الأحكام التي من الصعب أن ندرجها في خانة (النقد الفني)، بل هي لا تتجاوز الانطباعات التي يغلب عليها الحماس.

وبالوقت نفسه ندعو صنّاع الدراما إلى احترام عقل الجمهور الذي لم يعد يمارس دور المتعبّد الذي يجلس في محراب العمل الفني، فالجمهور اليوم يختلف عن جمهور الأمس، لقد هدّم جدران المعبد، وخلع لبوس الكهّان، وجلس أمام الشاشة يترصّد كلّ صغيرة وكبيرة، وقد كشفت مواقع التواصل الاجتماعي عن حقيقة العلاقة التي تربط صنّاع الدراما بجمهور عريض يظلّ يحمل هراوات النقد حتى تنتهي الدورة التلفزيونية الرمضانية على خير، وينشغل بأمور أخرى.