العصيان والستر«1»
عتبات النقد
الثلاثاء / 19 / رمضان / 1444 هـ - 21:12 - الثلاثاء 11 أبريل 2023 21:12
هل يكتب الروائيّ عالما خارجا عن عالمه؟ هل له القُدرة على أن ينفصل بكليّته عمّا يصنع من تخييل العوالم؟ ألم تتشقّق قصّة نجيب محفوظ الإنسان في كلّ رواياته؟ ألم يتوزّع عبدالرحمن منيف بما يحمله من أفكار ورؤى للكون على شخصياته؟ ألم يتوزّع الكاتب الروائيّ عامّة في أعماله الروائيّة لنقرأ وعيه ولا وعيه، ليُطلعنا على صفات وسمات لأناس رآهم أو تفاعل معهم أو صاحَبهم أو عرضوا له في مسار حياته، ولأحداث لم يبتكرها تمام الابتكار وإنّما هي موجودة بشكل أو بآخر في العالم العينيّ المُدرَك؟
هل هنالك فعلا فارقٌ حقيقيّ بين الرواية والسيرة الذاتية عند العرب؟ كتب نجيب محفوظ رواية مهمّة لم تُتَلقَّ التلقّي الحسن لدى القُرّاء العرب، وأغلب الذين كتبوا عنها اعتبروها سيرة ذاتيّة، هي رواية «المرايا»، وهي عمَلٌ قائم على خمس وخمسين شخصيّة، أفرد الكاتب لكلّ شخصيّة فصلا خاصّا، وهي -وإن اتّصلت بوقائع حادثة في تاريخ مصر الحديث- لا تدخل في صريح السيرة الذاتية القائمة على «عقد ائتماني» بمقتضاه يُعلن الكاتب -صراحة أو ضمنا- أنّه يروي حكايته الخاصّة، فهي -في ظنّي- روايةٌ تجريبيّة أخرجها نجيب محفوظ قبل أن يُجمِّع شتاتها، بانت فيها الشخصيّات مستقلّة في فصول، غير أنّها متّصلة بعلاقات وصلات. والغرض من ذكر هذه الرواية أنّ أغلب الذين تعرّضوا لها آنسوا بيسر نسبتها إلى السيرة الذاتية، والحال أنّها لا تختلف عن بقيّة روايات نجيب محفوظ، وشخصيّاتها تتماثل إلى حدّ كبير مع شخصيّات «السكّرية»، و«خان الخليلي»، و«بين القصرين»، وغيرها من الروايات.
لماذا يتخفّى الروائيّ العربيّ دوما عند كتابة السيرة الذاتيّة، بل هو أحيانا ينفي أن يكون ما كتب سيرة ذاتية، مثل ما حصل مع طه حسين الذي تعسّفنا عليه قسرا ونسبنا كتابه «الأيّام» إلى السيرة الذاتية، بالرغم من مخالفة الكتاب في شكله لمبادئ السيرة الذاتية التي حدّها فيليب لوجون على أنّها «قصّة استرجاعيّة نثريّة يقوم بها شخصٌ حقيقي متحدّثا عن حياته الخاصّة»، ويُشتَرطُ فيها إجراء ضمير المتكلّم الذي به تتوحّد الشخصيّة مع الراوي ويتوحّد الراوي مع الكاتب، في حين أنّ رواية «الأيّام» وجاءت بضمير الغائب بتمامها؟
السيرة الذاتية مفهوم غربيّ له أصوله وتاريخه وأرضيّته المعرفيّة والحضاريّة، فالغرب له تاريخ يعود إلى ما قبل الإسلام في أدبيّات السير والاعترافات واليوميّات والمذكّرات، ويكفي أن نشير إلى أثرين كان لهما عميق الأثر في قيام السيرة الذاتية في شكلها الغربي الحديث، «اعترافات» القدّيس أوجستينوس (354م- 430م)، الذي تركت اعترافاته أثرا بالغا، وهو الخارج من المؤسّسة الدينيّة، الكاشف عن فعاله وأعماله، الباسط مختلف من يدور في سريرته، يقول: «اسمح لي، إذن بأن أعترف إليك، باقتضاب أكبر، في خصوصها، وبأن أختار سبيلا واحدا تكون أنت قد ألهمتنيه سبيلا حقيقيّا، ثابتا حسنا، وإن اعترضتني الكثير من السبل، حيث كان لها أن تعترضني وبهذه العقيدة، سأعترف اعترافا، أقول فيه ما رآه خادمك، بصفة مستقيمة مثلي -فهذا ما عليّ أن أحاوله- بحيث أنّي لو كنت لم أنجح فيه، لقلت على الأقلّ، ما أراد حقّك أن يقوله لي، بواسطة ذلك الكلام، بما أنّه قال له أيضا ما أراد». والأثر الثاني، هو لفيلسوف الحداثة الغربيّة، جان جاك روسو الذي كتب أيضا كتابَ «اعترافات»، قدّمه بقوله: «إنّني مُقدم على مشروع لم يسبقه مثيل، ولن يكون له نظير، إذ إنّني أبغي أن أعرض على أقراني إنسانا في أصدق صُور طبيعته، وهذا الإنسان هو: أنا! أنا وحدي! فإنّي أعرف مشاعر قلبي، كذلك أعرف البشر، ولستُ أراني قد خُلقت على شاكلة غيري ممّن رأيتُ، بل إنّي لأجرؤ على أن أعتقد بأنّني لم أخلق على غرار أحد ممّن في الوجود، وإذا لم أكن أفضل منهم فإنّني -على الأقل- أختلف عنهم، ولن يتسنّى البتّ فيما إذا كانت الطبيعة قد أصابت أو أخطأت إذ أتلفت الغالب الذي صاغتني فيه إلّا بعد قراءة هذه الاعترافات». وهو فعلٌ متناسقٌ مع البنية المعرفيّة والحضاريّة والأخلاقيّة والعَقَديّة للأرضيّة الغربيّة التي يُشكِّلُ الاعتراف فيها تطهيرا للنفس من الذنوب، وفعلا يُجدّد حياة الروح، ويهدِّأ من الإحساس بالذنب، الاعتراف مقرونٌ بالغفران والتطهّر، سواءً اتّخذ بعدا دينيّا أو اتّخذ بُعدا أخلاقيّا اجتماعيّا، وعلى ذلك، فإنّ تكوّن نوع سرديّ ينحو منحى حكاية الذات يُمكن أن ينجح وأن يتّخذ أشكالا من الكشف والبوح. أمّا في الثقافة العربيّة التي تقوم أرضيّتها المعرفيّة والأخلاقيّة والعقديّة على الكتمان، والتستّر على خاطئ الأفعال والخلال، والاقتصار على ذكر ما ينفع الناس، أو على تمجيد الذات وإخراجها على هيئة من الطهريّة والنصاعة، فإنّ مشروع كتابة «سيرة ذاتيّة» يُعتَبَر فعلا فاشلا، تعمّد فيه بعضُ من أرادوا كتابة سِيَرهم أن يقتصروا على تمجيد الذات وإخفاء ما يُمكن أن يُضْعِفها، أو هم توجّهوا إلى التخفّي خلف شخصيّات وهميّة. ذلك أنّ الأرضيّة المعرفيّة العربيّة الإسلاميّة تحديدا قائمة على تصوّر ذهنيّ ومعطى ثقافيّ وعقدي قوامه «إذا عصيتم فاستتروا»، و«استعينوا على قضاء حوائجكم بالسر والكتمان»، ويُروى عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم قوله: «كلّ أمّتي معافى إلاّ المُجاهرين، وإنّ من المُجاهرة أن يفعل العبد معصية في الليل، ثمّ يُصبح وقد ستره اللّه، فيفضح نفسه، ويقول: فعلتُ كذا وفعلتُ كذا، وقد بات يستره ربّه ويصبح يكشف ستر الله عنه». وقسْ على ذلك في مختلف المعاملات التي يأمر فيها المُجتمع صاحب المعصية بالصمت، وما يُمكن أن يؤدي إليه التشهير والإشهار والإفصاح، ويُمكن أن نُذكِّر فحسب، أنّه في حكايات العُشّاق العرب لم تُهدَر دماء العُشّاق لعشقهم، بل لتصريحهم بالعشق، فعن أيّ سيرةٍ ذاتيّة يُمكن أن نتحدّث في هذا الفضاء؟
هل هنالك فعلا فارقٌ حقيقيّ بين الرواية والسيرة الذاتية عند العرب؟ كتب نجيب محفوظ رواية مهمّة لم تُتَلقَّ التلقّي الحسن لدى القُرّاء العرب، وأغلب الذين كتبوا عنها اعتبروها سيرة ذاتيّة، هي رواية «المرايا»، وهي عمَلٌ قائم على خمس وخمسين شخصيّة، أفرد الكاتب لكلّ شخصيّة فصلا خاصّا، وهي -وإن اتّصلت بوقائع حادثة في تاريخ مصر الحديث- لا تدخل في صريح السيرة الذاتية القائمة على «عقد ائتماني» بمقتضاه يُعلن الكاتب -صراحة أو ضمنا- أنّه يروي حكايته الخاصّة، فهي -في ظنّي- روايةٌ تجريبيّة أخرجها نجيب محفوظ قبل أن يُجمِّع شتاتها، بانت فيها الشخصيّات مستقلّة في فصول، غير أنّها متّصلة بعلاقات وصلات. والغرض من ذكر هذه الرواية أنّ أغلب الذين تعرّضوا لها آنسوا بيسر نسبتها إلى السيرة الذاتية، والحال أنّها لا تختلف عن بقيّة روايات نجيب محفوظ، وشخصيّاتها تتماثل إلى حدّ كبير مع شخصيّات «السكّرية»، و«خان الخليلي»، و«بين القصرين»، وغيرها من الروايات.
لماذا يتخفّى الروائيّ العربيّ دوما عند كتابة السيرة الذاتيّة، بل هو أحيانا ينفي أن يكون ما كتب سيرة ذاتية، مثل ما حصل مع طه حسين الذي تعسّفنا عليه قسرا ونسبنا كتابه «الأيّام» إلى السيرة الذاتية، بالرغم من مخالفة الكتاب في شكله لمبادئ السيرة الذاتية التي حدّها فيليب لوجون على أنّها «قصّة استرجاعيّة نثريّة يقوم بها شخصٌ حقيقي متحدّثا عن حياته الخاصّة»، ويُشتَرطُ فيها إجراء ضمير المتكلّم الذي به تتوحّد الشخصيّة مع الراوي ويتوحّد الراوي مع الكاتب، في حين أنّ رواية «الأيّام» وجاءت بضمير الغائب بتمامها؟
السيرة الذاتية مفهوم غربيّ له أصوله وتاريخه وأرضيّته المعرفيّة والحضاريّة، فالغرب له تاريخ يعود إلى ما قبل الإسلام في أدبيّات السير والاعترافات واليوميّات والمذكّرات، ويكفي أن نشير إلى أثرين كان لهما عميق الأثر في قيام السيرة الذاتية في شكلها الغربي الحديث، «اعترافات» القدّيس أوجستينوس (354م- 430م)، الذي تركت اعترافاته أثرا بالغا، وهو الخارج من المؤسّسة الدينيّة، الكاشف عن فعاله وأعماله، الباسط مختلف من يدور في سريرته، يقول: «اسمح لي، إذن بأن أعترف إليك، باقتضاب أكبر، في خصوصها، وبأن أختار سبيلا واحدا تكون أنت قد ألهمتنيه سبيلا حقيقيّا، ثابتا حسنا، وإن اعترضتني الكثير من السبل، حيث كان لها أن تعترضني وبهذه العقيدة، سأعترف اعترافا، أقول فيه ما رآه خادمك، بصفة مستقيمة مثلي -فهذا ما عليّ أن أحاوله- بحيث أنّي لو كنت لم أنجح فيه، لقلت على الأقلّ، ما أراد حقّك أن يقوله لي، بواسطة ذلك الكلام، بما أنّه قال له أيضا ما أراد». والأثر الثاني، هو لفيلسوف الحداثة الغربيّة، جان جاك روسو الذي كتب أيضا كتابَ «اعترافات»، قدّمه بقوله: «إنّني مُقدم على مشروع لم يسبقه مثيل، ولن يكون له نظير، إذ إنّني أبغي أن أعرض على أقراني إنسانا في أصدق صُور طبيعته، وهذا الإنسان هو: أنا! أنا وحدي! فإنّي أعرف مشاعر قلبي، كذلك أعرف البشر، ولستُ أراني قد خُلقت على شاكلة غيري ممّن رأيتُ، بل إنّي لأجرؤ على أن أعتقد بأنّني لم أخلق على غرار أحد ممّن في الوجود، وإذا لم أكن أفضل منهم فإنّني -على الأقل- أختلف عنهم، ولن يتسنّى البتّ فيما إذا كانت الطبيعة قد أصابت أو أخطأت إذ أتلفت الغالب الذي صاغتني فيه إلّا بعد قراءة هذه الاعترافات». وهو فعلٌ متناسقٌ مع البنية المعرفيّة والحضاريّة والأخلاقيّة والعَقَديّة للأرضيّة الغربيّة التي يُشكِّلُ الاعتراف فيها تطهيرا للنفس من الذنوب، وفعلا يُجدّد حياة الروح، ويهدِّأ من الإحساس بالذنب، الاعتراف مقرونٌ بالغفران والتطهّر، سواءً اتّخذ بعدا دينيّا أو اتّخذ بُعدا أخلاقيّا اجتماعيّا، وعلى ذلك، فإنّ تكوّن نوع سرديّ ينحو منحى حكاية الذات يُمكن أن ينجح وأن يتّخذ أشكالا من الكشف والبوح. أمّا في الثقافة العربيّة التي تقوم أرضيّتها المعرفيّة والأخلاقيّة والعقديّة على الكتمان، والتستّر على خاطئ الأفعال والخلال، والاقتصار على ذكر ما ينفع الناس، أو على تمجيد الذات وإخراجها على هيئة من الطهريّة والنصاعة، فإنّ مشروع كتابة «سيرة ذاتيّة» يُعتَبَر فعلا فاشلا، تعمّد فيه بعضُ من أرادوا كتابة سِيَرهم أن يقتصروا على تمجيد الذات وإخفاء ما يُمكن أن يُضْعِفها، أو هم توجّهوا إلى التخفّي خلف شخصيّات وهميّة. ذلك أنّ الأرضيّة المعرفيّة العربيّة الإسلاميّة تحديدا قائمة على تصوّر ذهنيّ ومعطى ثقافيّ وعقدي قوامه «إذا عصيتم فاستتروا»، و«استعينوا على قضاء حوائجكم بالسر والكتمان»، ويُروى عن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم قوله: «كلّ أمّتي معافى إلاّ المُجاهرين، وإنّ من المُجاهرة أن يفعل العبد معصية في الليل، ثمّ يُصبح وقد ستره اللّه، فيفضح نفسه، ويقول: فعلتُ كذا وفعلتُ كذا، وقد بات يستره ربّه ويصبح يكشف ستر الله عنه». وقسْ على ذلك في مختلف المعاملات التي يأمر فيها المُجتمع صاحب المعصية بالصمت، وما يُمكن أن يؤدي إليه التشهير والإشهار والإفصاح، ويُمكن أن نُذكِّر فحسب، أنّه في حكايات العُشّاق العرب لم تُهدَر دماء العُشّاق لعشقهم، بل لتصريحهم بالعشق، فعن أيّ سيرةٍ ذاتيّة يُمكن أن نتحدّث في هذا الفضاء؟