أفكار وآراء

أخلاقيات الكتابة

الأصل في الكتابة أنها صانعة للأثر، ثم يأتي الاختلاف بعد الأثر إن كان ذلك مؤقتا أو أبديا، سلبيا أو إيجابيا، أخلاقيا سلوكيا أو فنيا جماليا، فكريا اجتماعيا أو وطنيا، ولا يمكن بأي حال لما قد تتضمنه الكتابة من مسؤولية تجاه المكتوب أن تخفى أو تغيب؛ إذ أن الكتابة توثيق لأفكار وآراء كاتبها المُعرّف ومنشئها الأول. ومما نرى جميعا من استسهال الكتابة والاستهانة بها مبنى ومعنى تنشأ أسئلة تتعلق بمبررات فقدان الكتابة هيبتها، والأثر ديمومته وإيجابيته، والكتّاب أدوارهم الحقة في الحياة وبين الناس، خصوصا حين يعتنقون هذه الحرفة «الكتابة» أو يدّعونها دون عناية كبيرة بمسؤولياتها وتبعات توثيقها.

ليس الأمر مجرد صفة استهلاكية فخريّة تحمل صاحبَها إلى قمة مجدٍ فني موضوعي أو وجاهة مجتمعية، ويصدف في هذا المعرض من الحديث أن تحمل لي ذاكرتي كاتب إنجليزي التقيته يوما وكان لديه ما يزيد عن سبعة دواوين شعرية غير منشورة، كان يرفض نشرها بشدة رغم مهارته وصقل حرفته وسنوات عمره، وكان يعرف بين أصحابه من الشعراء بأنه يكتب الشعر ويجيده، لكنه كان شديد القلق من أن يوثق كتابته بإصدار يحمِّله مسؤولية وتبعات أن يحمل لقب كاتب «شاعر» وكان يفضّل عليها أن يكتفي بالكتابة لنفسه والمشاركة مع من حوله وحسب.

لا أقصد بالضرورة أن يكون موقف هذا الكاتب القلق صحيحا، ولا ينبغي أن يكون نموذجا ولكن القصد من تداعي هذه الشخصية في ذاكرتي تعظيم شأن الكتابة وإجلالها، والخوف من مسؤولياتها الكبرى وتبعاتها الكثيرة.

ولعلّ من كثيرها ما ذكره عبد الحميد الكاتب في رسالته التي كتبها قبل قرون للكتّاب وهو الذي عُرفت الكتابة الفنية به في القول الشهير «افتتحت الكتابة بعبد الحميد واختتمت بابن العميد» يقول عبد الحميد في رسالته للكتّاب:«فإن الله ــ عز وجل ــ جَعَل الناس...أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصَرَفَهم في صُنُوف الصِّنَاعات، وضُروبِ المحاولات إلى أسباب معاشهم، وأبواب أرزاقهم فجعلكم - معشر الكتاب - في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة، بِكُم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يُصلح الله للخلق سلطانهم ويعمر بلدانهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يُوجد كاف إلا منكم، فموقعكُم من الملوك مَوقِعُ أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصَارِهِمُ التي بها يبصرون، وألسنتُهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خَصَّكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم»

كل ما ذكر عبد الحميد الكاتب في رسالته للكتاب من نِعم الكتّاب التي قد يُحسدون أو يغبطون عليها توجب بالضرورة مسؤوليات عظمى، وتكليفات ليست هيّنة، وتضحيات تليق بمكانتهم؛ لعلّها تصل في بعض أحيان إلى خسارة الحياة تماما كما حدث مع عبد الحميد نفسه الذي تشير أقوى الروايات إلى مقتله مع الخليفة الأموي مروان بن محمد التزاما أخلاقيا ووفاء إنسانيا.

سجّل عبدالحميد الكاتب مبكرا في العصر الأموي الكثير من أخلاقيات الكتابة والكتّاب في هذه الرسالة التاريخية، سواء من حيث معتقد الكاتب وثوابته، أو سلوكياته مع غيره من الكتاب ومع الناس، فأين من رسالة عبدالحميد ما نرى ونسمع من غثاء يومي، وضوضاء افتراضية معاصرة أخطأت طريق الضوء الذي توهمته مع الصخب فهوت في العتمة؟! ومعها يهوي الكثير من الجهل والتراجع الفكري والاستهلاك المادي للقيم والإنسان.

إن كانت الكتابة متصلة بالتوثيق فلا بد من اتصالها بصناعة الوعي، وعي معرفي جمالي، أو وعي فكري عالٍ ينعكس على سلوك الناس وسعيهم اليومي للإنجاز والإبداع والتعمير والمحبة، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يقع كاتب حقيقي في شرك العالم المادي الذي يحوّل الإنسان إلى مجرد آلة لجمع المال أو لاستهلاكه، وما زال صوت عبدالحميد الكاتب وأثره وصداه باقيا بيننا وهو يردد:

«ارغبوا بأنفسكم عن المطامع سَنَيِّها، ودَنِيِّها وسفساف الأمور ومحاقرها؛ فإنها مُذِلَّة للرقاب مُفْسِدةٌ للكُتَّاب، ونَزِّهُوا صناعتكم عن الدناءة، واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أصل الجهالات، وإياكم والكبر والسَّخَفَ والعَظَمَة؛ فإنها عَدَاوَةٌ مُجتلبة من غير إِحْنَة وتحابوا في الله - عز وجل - في صناعتكم، وتواصلوا عليها بالذي هو أليقُ لأهلِ الفَضْل والعَدْل والنُّبل من سلفكم»

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية