ثقافة

ابن النضر شهيد المعرفة

الدعائم
 
الدعائم
يقول سيف الرحبي 'من أعلام عُمان، التي يزخر تاريخها بكل ما هو قيّم ونبيل في المجال المعرفي بشتى تجلياته الشعرية والفقهيّة والصوفيّة، من هؤلاء (أحمد بن النضر)، وقد كنتُ مشدودا أكثر إلى هذا العالم الجليل والشاعر المختلف في لغته وآفاقه الإبداعيّة، منذ الطفولة حين كنا نقرأ الأسلاف في المجالس بين الأشجار والنخيل، وعلى يد شيوخ وعلماء دين ولغة. وما زادني انجذابا نحو (ابن النضر) بجانب أدبه الذي لم يصلنا منه إلا النزر القليل، سيرة حياته الملفّعة بشيء من الغموض والاستشهاد المبكر في سبيل المعرفة والعلم، على يد أحد البغاة الجهلة،....

أحمد بن سليمان بن النضر الناعبي السمائلي من علماء القرن السادس، كان حافظا واعيا مضطلعا بفنون العلم والتاريخ والسير، بحرا زاخرا في اللغة، ومن كتبه الدعائم، وكان عالما بأشعار العرب وسيرهم وتواريخهم ومحاوراتـهم، ناهيك بعلم اللغة فإنـه أخذها بحذافيرها. والسبب في ذهاب أكثر مؤلفاتـه ما حصل له حيث قُتل فنـهب بـيتـه وخزانة كتبـه وأحرقت بالنار وذلك بـيد السلطان الجائر خردلة بن سماعة بن محسن وكان حاكما باغيا يأخذ أموال رعيته غصبا، يأخذ نصف مهر المرأة من العاجل إذا تزوجت، وتصادف أن تزوجت ابنة أخت الشيخ ابن النضر على مهر قدره 50 محمدية ـ عملة ـ فضة فأرسل خردلة جنديا لأخذ نصفها من الشيخ أحمد فمنعها الشيخ فأشار إلى بعض الجند أن ألقوه من هذه الكوة ـ النافذة ـ فكتفوه وألقوه وكانت كوة قصره شديدة العلو فوقع إلى الأرض ميتا وهو شاب قيل عمره خمسة وثلاثون عاما ثم أمر خردلة أن تدخل داره ويؤخذ ما فيها فأخذت كتبـه ومصنفاتـه فأحرقت، وكان له جملة مصنفات منـها كتاب 'سلك الجمان' في سير أهل عمان، مجلدان لم يجدوا منـهما شيئا إلا تسعة كراريس محروقة. وكتاب 'الوصيد في ذم التقليد' مجلدان وكتاب 'مرآة البصر في مجمع المختلف من الأثر' أربعة مجلدات وجدت قطعة منـه بـ'قيقا'. تُرى لو وصلتنا كل أعماله ومؤلفاته، وامتد به العمر والعطاء، فأي أصقاع عبقريّة سيصلها، ويضيفها إلى المكتبة العُمانية والعربيّة؟

نشأ وترعرع في مدينة 'سمائل'، يقول السالمي في 'تحفة الأعيان': '.. وكان يتعلم عند الشيخ مبارك بن سليمان بن ذهل ومنـه تعلم الشعر وله في الحفظ ما فاق بـه أهل زمانـه وكان عالما بأشعار العرب وسيرهم وتواريخهم ومحاوراتـهم، ناهيك بعلم اللغة فإنـه أخذها بحذافيرها، وغاية ما حفظ من أشعار العرب أربعون ألف بـيت؛ ما كان من الثلاثة إلى الواحد، وأما القصائد الكبار فلا تحصى، وكان ينظم القصيدة في ليلة وله ديوان أكثره تغزل فلما تبقر في العلم مزقه ثم صرف قريضه في نظم الشريعة، وتفرقت قصائده في البلدان وذهب أكثرها،...وقيل إنـه تبقر في العلم وشاعت تصانيفه في الآفاق وهو ابن أربع عشرة سنة والدعائم من آخر ما نظم، وقال ابن زكريا في حقه: إنـه أشعر العلماء وأعلم الشعراء.

رغم أن بعض الباحثين -كسلطان الشيباني- يرى أن 'الترجمة المتداولة لابن النضر فيها اضطراب كبير وتفرّد وغرابة، يجعلنا نتوقف عن قبول ما جاء فيها، إلى أن نجد ما يسندها أو نستكشف حقيقة مصادرها على الأقل... ويظل ما كتبه ابن وصّاف [شارع كتاب الدعائم]- على الرغم من قلته- المصدر الأوثق في هذا الشأن، وأهم ما أفادنا به أن ابن النضر لم يشهد عصر ملوك بني نبهان....وأنه عاش في حدود سنة 400 أو قبلها أو بعدها بقليل، وأنه أحمد بن النضر السمائلي، ولا زيادة في نسبه، مع خلاف في نسبته إلى أي قبيلة'.

ومن أشعاره:

'أتأمل بعد شيب الرأس عمرا

ومن آخيته قد مات طرا

فما زخرفت للدنيا فدعه

وزخرف للبلى كفنا وقبرا

تظنك خالدا تحصي الليالي

ومر شهورها شهرا فشهرا

فسوف يسوق أشهرهن يوم

يسوق إليك مجزرة ونحرا

أخو الدنيا يبيت بها غريرا

يقلب أمرها بطنا وظهرا.

'ومن أشعاره

دعيني عنك يا دنيا دعيني

فإنك لا محالة تخدعيني

أيلسع مؤمن من جحر أفعى

ويُختدع اغترارا مرتين

أما في القارظين لنا اعتبار

وموعظة وفي ذي الحيتين

وفي رب البحيرة والسبايا

ورب الجنتين وذي رُعين

صرعتيهم على البلواء منهم

وأبقى بعدهم لا تصرعيني!

فهل تغنين عني من فتيل

إذا الجرشاء جاش لها أنيني!

إليك إليك مالك من نصيب

لدي فأيسي أو فارتجيني

يقول الإمام ابن النضر يصف الإباضية في لاميته:

إنا على قصد السبيل الأعدل

لسنا كمن إن سيم خسفا يذلل

في دينه وإن يكاثر يقلل

نأخذ عن أصل قديم عدمل

ليس بمعيوب ولا مستدخل

بابن أم عبد وحذيف نعتلي

نحن الإباضيون أسد الغيطل

أسد عرين زأرت لأشبل

ننازل الأبطال تحت الأسل

وتحت قسطال الخميس الفيصل

أبناء كل قاتل مقتّل

أجداثهم أضحت بكل منزل

حواصل الطير وبطن الفرعل

لا يفزعون من دنو الأجل

الموت أحلى عندهم من عسل

شيب لعطشان بماء سلسل

بيض مخابيت قصار الأمل

رضوا من الدنيا بقوت الأكل

وفارقوا الغيد ذوات الكلل

لم تختلبهم بالعيون النجل

ولا بفضفاض نعيم دغفل

ولا سماع من غناءٍ زجل

صم عن اللهو وقول الهزل

قد ألِفُوا كل علندي أفتل

عالي التليل أرحبي عنسلِ

يُغشونه كل نجاد جرول

وامتازت أشعار ابن الدعائم بمزجها بين الفن التعليمي والمطالع الذاتية الرائعة، فمثلا يقول في نص طويل في دماء النساء والحيض والنفاس، وآراء الفقهاء فيها:

صلي الحبل يا سلمى وإن شئت فاصرمي

فما أنا بالقالي ولا بالمتيم

أقلي على اللوم والعذل في الصبا

كفاك الليالي لوم كل ملوّمِ

أبعد اشتعال الشيب يا سلم صبوةٌ

وتحنيب أوصالي ودقةُ أعظمي

سطورُ بياضِ نمنمت في صحيفةٍ

من الرأس سوداءٍ بخط منمنم

فشبهتها لما أضاءت كواكبا

أضاءت بيحمومٍ من الليل مظلم

رمتني بنات الدهر عن قوس حادثٍ

حنتها يد الأيام منها بأسهم

وقد طال ما باتت سليمى ضجيعتي

وبات وسادي ثنى كفٍّ ومعصمِ

كأن سنا برقِ الغمامةِ كشرها

إذا ابتسمت في عارضٍ مبتسم

كأن حصى الياقوتِ بين ضروبها

تلألأ إشراقا بسلك منظمِ

كأن ركيما عجزها وجبينها

هلال تمامٍ فوقَ غصنِ مقومِ

ليالي يدعوني الهوى فأجيبه

وحدُّ حسامي صارمٌ لم يثلمِ

فلما علا رأسي القتيرُ وقوست

عصاي وجاءتني المنيةُ ترتمي

عدلت إلى التقوى عنان مطيتي

وقلت دعي دارَ الغواية واصرمي

فإن ينتمي ذو الجهل بالجهل فاخرا

فإني إلى الإسلام والدين أنتمي

حرامٌ حرامٌ ليس فيه هوادةٌ

نكاحُ ذواتِ الحيض في الحيض والدم

وليس كما قال الجهول بأنه

بتفريقِ دينارِ تحلُّ ودرهم

وغشيانها بعد الطهارة فاسدٌ

إذا هي لم تغسل من الدم فاعلم

ولو غسلت جثمانها غير رأسها

أو الرأس غير الجسم بالماءِ فافهم

وقيل أقل الحيض فيها ثلاثةٌ

وأكثره عشر لبكرٍ وأيمِ