الممكنات الوطنية التنافسية لبناء القوة الناعمة
السبت / 9 / رمضان / 1444 هـ - 20:38 - السبت 1 أبريل 2023 20:38
في مارس المنصرم، صدر مؤشر (القوة الناعمة) Global Soft Power Index 2023الذي تستصدره بشكل سنوي مؤسسة Brand Finance، وتقوم نتائجه على أساس (التصورات perceptions)، إذ تتنوع منهجية جمع بياناته بين الاستطلاعات الموجهة لعينة من عموم الناس، تصل حسب تقرير المؤشر إلى أكثر من 110000 شخص في أكثر من 100 دولة حول العالم، وبين منهجية تجمع بين تصورات العموم وتصورات فئات نخبوية مختارة يمثلها قادة الأعمال، المحللين السياسيين والأكاديميين ومراكز البحث والمنظمات غير الحكومية والصحفيين. وتتباين وجهات النظر بشكل سنوي حول (منهجية) هذه المسوحات والاستطلاعات ومدى تمثيلها الموضوعي، إلا أننا نتصور أنها تشكل ثلاث منافع أساسية: الأول هو في بناء قاعدة أساسية لمدى تموضع (الدولة) في نطاق تأثيرها العالمي، ويمكن وفقًا لهذه القاعدة الانطلاق في بحوث معمقة بشكل أكبر، لمعرفة أوجه التأثير، وقوة وفعالية السياسات، ونشاط المؤسسات القادرة على تسويق تلك السياسات. أما المنفعة الثانية؛ فهي معرفة تأثير الأحداث العالمية على تصورات ومدركات الأفراد حول العالم حول مساراتها، فعلى سبيل المثال تؤكد خلاصات النسخة الأكثر من تقرير المؤشر 2023 أن تأثير السمعة العالمية لروسيا في المؤشرات الفرعية بفعل عامل (الحرب الروسية الأوكرانية) في مقابل تحسن السمعة الأوكرانية؛ هذا الأمر في ذاته لا يعكس الأحداث المتوالية في الواقع وحسب؛ وإنما يتعداها ليعكس مدى تأثير صراع (سرديات الحرب)، وكيف تأخذ هذه السرديات وتحوز موقعها في إطار التصورات العالمية. في المقابل تشير الخلاصات كذلك إلى النتائج المستقرة على المؤشر للقوى التقليدية العظمى في العالم وهي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا، في مقابل عدم وجود أي دولة من أمريكا اللاتينية أو أفريقيا داخل قائمة الـ (30) الأوائل على المؤشر. وعلى مستوى المنطقة فإن التنافس على بناء (السمة الوطنية Nation branding) واستراتيجياتها بدأ يدفع دول منطقة الخليج العربي تحديدًا إلى مراكز متقدمة على مستوى المؤشر؛ كدولة الإمارات التي دخلت قائمة الـ (10) الأوائل على مستوى تصنيف المؤشر. أما ثالث المنافع؛ فهو في كونه يمثل منصة للممارسات الفضلى لتعزيز وتسويق التجارب الدولية في القوة الناعمة.
على مستوى سلطنة عُمان، تقدم تصنيفنا على المؤشر هذا العام بواقع 3 رتب وصولًا إلى الرتبة (46) عالميًّا. هذا التصنيف جاء مدفوعًا بتطور ملحوظ على مستوى المؤشرات الفرعية، حيث كان محور (الشعب والقيم) في مقدمة هذا التحسن، وفيه تقدمت سلطنة عُمان ٢٨ مركزًا. تلاهُ محور (الثقافة والتراث) بتحسن في ٢٤ مركزًا. تشير تحليلاتنا في محاولة فهم تطور مفاهيم القوة الناعمة إلى أمرين مهمين: الأول أن بناء القوة الناعمة (عبر الدولة) لا يمكن أن يكون عملًا تلقائي التشكل؛ بمعنى أنه لا بد أن تكون هناك رؤية (مركزية) لمحاولة تشخيص وتحديد وتصعيد عناصر معينة إما (ثقافية - سياسية - طبيعية - اقتصادية - جغرافية)، والدفع بها عبر مجموعة من الروافع لتصبح قاطرة أولًا للميزة التنافسية (السمة الوطنية) للدولة. ومن ثم هي وسيلة تأثيرها في سياقها الإقليمي والدولي وتأثيرها في شبكات الدبلوماسية (العامة/ الشعبية). وبالتالي فإن مراحل بناء القوة الناعمة -حسب تصورنا- إنما تأتي متسلسلة (ممارسة أنماط مختلفة من الدبلوماسية التقليدية عبر العوامل والميزات الوطنية - تشخيص الميزة التنافسية «السمة الوطنية» - تحويل تلك الميزة أو السمة إلى عناصر القوة الناعمة للتأثير وحصد المكاسب). أما الاعتبار الثاني فهو مرتبط بتضافر العناصر؛ بمعنى أنه لا يمكن حتى مع وجود استراتيجية/ سياسة مركزية لتحفيز عناصر القوة الناعمة الوطنية أن تشتغل بطرق مجزأة، وإنما يتطلب تصعيد تلك العناصر وجود (اليقين والإيمان والقناعة المجتمعية) بمحوريتها، ومن ثم العمل القطاعي والمجتمعي والسياسي على بلورتها كـ (منتجات)، فالقوة الناعمة هي في المقام الأول (صراع منتجات)، وهذه المنتجات ليست بالضرورة بمعناها المادي (التجاري)، وإنما قد تكون منتجات في هيئة قيم سياسية أو منتجات ثقافية ومعرفية، أو منتجات في هيئة شبكات للتعاون الإنمائي والدولي، أو مؤسسات لتعزيز قيم العون الإنساني أو سواها. فالمنطلق هو في الكيفية التي تتحول بها خصيصة القوة إلى منتج عابر للحدود والثقافة. تعمل الصين - على سبيل المثال- في سياق تأثيرها على العالم على توسيع انتشار معاهد كونفوشيوس، التي تعنى بتعليم اللغة الصينية حول العالم بالإضافة إلى توفير برامج وأنشطة تتمحور حول التعريف بالثقافة الصينية. «فمنذ إنشائها في سيؤول بكوريا الجنوبية في عام 2004، سجلت ما يصل إلى 9 ملايين طالب في 525 معهدًا في 146 دولة ومنطقة. في عام 2018، وتشير المصادر إلى أن الحكومة الصينية تضخ ما يصل إلى 10 مليارات دولار سنويًا في المبادرة» (بحسب مجلة outlookindia).
في سياق الحالة العُمانية، نعتقد أن هناك مجموعة من المُكتسبات شكلتها تجربة الدولة في عُمان، إضافة إلى عنصر الثقافة والجغرافيا، من الممكن أن تؤهلنا لصُنع منتجات (عناصر) قوة ناعمة وبناء استراتيجية لتسويقها وإيجاد الميزة التنافسية بها، فهناك مفهوم صاعد اليوم يُعرف بـ (الدبلوماسية الخضراء Green diplomacy) يمكن أن تؤدي فيه عُمان دورا بارزا استنادًا إلى جهودها في سياق تحديد مسار وطني واضح للحياد الصفري، وفي سياق إمكانيات الريادة التنافسية لقيادة جهود اقتصاد الهيدروجين. وإذا ما نظرنا للبُعد السياسي، فإن مدرسة الدبلوماسية العُمانية في أركانها الثلاثة (التفاوض السياسي - حل الصراعات والأزمات - إيجاد التفاهمات) تُمكن عُمان اليوم على سبيل المثال من بناء مؤسسات متخصصة في شاكلة معاهد أو أكاديميات أو منتديات عالمية لترسيخ هذه القيم، ونقل فلسفة السياسة العُمانية للعالم عبر منتج معرفي وحضاري متأسس. ومراكمة خبرات عُمان في إطار التخطيط الاستراتيجي طويل ومتوسط المدى، واختبار تجارب مختلفة من سياقات التخطيط التنموي يعد ميزة تنافسية أخرى يُمكن البناء عليها. والخبرات الموسعة في مجال إدارة الكوارث والمخاطر والأزمات، التي تشكلت عبر العقود الماضية يمكن أن يضع سلطنة عُمان فاعلًا مؤثرًا في هذا السياق عالميًّا. هذه نماذج أولية لمزايا نعتقد بإمكانها إيجاد الميزة التنافسية للسمة الوطنية العُمانية؛ إلا أن هناك عدة اعتبارات لا بد من تضافرها لتسويق هذه المزايا - أو غيرها - وأهمها مراكمة أبحاث وطنية جادة ومعمقة لتشخيص خريطة الطريق للقوة الناعمة العُمانية، عوضًا عن وجود استراتيجية (مركزية) لتسويق هذه السمات عبر آجال وأدوات وفاعلين ومؤسسات معينة، وكذلك وجود الآلة الإعلامية القادرة على مواكبة هذا التسويق، والانتقال نحو التأثير العالمي، فالقوة الناعمة هي رهن بالوصول إلى مدارك وتصورات الشعوب قبل الدول، والانتشار عبر الثقافات قبل المؤسسات والفاعلين السياسيين. أمامنا فُرص كبيرة إذن، ولا شك أن الرؤية المستقبلية 2040 بما حددته من مسارات لتموضع سلطنة عُمان في الخريطة الاقتصادية والثقافية والبيئية يمكن أن تكون أكبر روافع حفز القوة الناعمة وتسويقها والتأثير بها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
على مستوى سلطنة عُمان، تقدم تصنيفنا على المؤشر هذا العام بواقع 3 رتب وصولًا إلى الرتبة (46) عالميًّا. هذا التصنيف جاء مدفوعًا بتطور ملحوظ على مستوى المؤشرات الفرعية، حيث كان محور (الشعب والقيم) في مقدمة هذا التحسن، وفيه تقدمت سلطنة عُمان ٢٨ مركزًا. تلاهُ محور (الثقافة والتراث) بتحسن في ٢٤ مركزًا. تشير تحليلاتنا في محاولة فهم تطور مفاهيم القوة الناعمة إلى أمرين مهمين: الأول أن بناء القوة الناعمة (عبر الدولة) لا يمكن أن يكون عملًا تلقائي التشكل؛ بمعنى أنه لا بد أن تكون هناك رؤية (مركزية) لمحاولة تشخيص وتحديد وتصعيد عناصر معينة إما (ثقافية - سياسية - طبيعية - اقتصادية - جغرافية)، والدفع بها عبر مجموعة من الروافع لتصبح قاطرة أولًا للميزة التنافسية (السمة الوطنية) للدولة. ومن ثم هي وسيلة تأثيرها في سياقها الإقليمي والدولي وتأثيرها في شبكات الدبلوماسية (العامة/ الشعبية). وبالتالي فإن مراحل بناء القوة الناعمة -حسب تصورنا- إنما تأتي متسلسلة (ممارسة أنماط مختلفة من الدبلوماسية التقليدية عبر العوامل والميزات الوطنية - تشخيص الميزة التنافسية «السمة الوطنية» - تحويل تلك الميزة أو السمة إلى عناصر القوة الناعمة للتأثير وحصد المكاسب). أما الاعتبار الثاني فهو مرتبط بتضافر العناصر؛ بمعنى أنه لا يمكن حتى مع وجود استراتيجية/ سياسة مركزية لتحفيز عناصر القوة الناعمة الوطنية أن تشتغل بطرق مجزأة، وإنما يتطلب تصعيد تلك العناصر وجود (اليقين والإيمان والقناعة المجتمعية) بمحوريتها، ومن ثم العمل القطاعي والمجتمعي والسياسي على بلورتها كـ (منتجات)، فالقوة الناعمة هي في المقام الأول (صراع منتجات)، وهذه المنتجات ليست بالضرورة بمعناها المادي (التجاري)، وإنما قد تكون منتجات في هيئة قيم سياسية أو منتجات ثقافية ومعرفية، أو منتجات في هيئة شبكات للتعاون الإنمائي والدولي، أو مؤسسات لتعزيز قيم العون الإنساني أو سواها. فالمنطلق هو في الكيفية التي تتحول بها خصيصة القوة إلى منتج عابر للحدود والثقافة. تعمل الصين - على سبيل المثال- في سياق تأثيرها على العالم على توسيع انتشار معاهد كونفوشيوس، التي تعنى بتعليم اللغة الصينية حول العالم بالإضافة إلى توفير برامج وأنشطة تتمحور حول التعريف بالثقافة الصينية. «فمنذ إنشائها في سيؤول بكوريا الجنوبية في عام 2004، سجلت ما يصل إلى 9 ملايين طالب في 525 معهدًا في 146 دولة ومنطقة. في عام 2018، وتشير المصادر إلى أن الحكومة الصينية تضخ ما يصل إلى 10 مليارات دولار سنويًا في المبادرة» (بحسب مجلة outlookindia).
في سياق الحالة العُمانية، نعتقد أن هناك مجموعة من المُكتسبات شكلتها تجربة الدولة في عُمان، إضافة إلى عنصر الثقافة والجغرافيا، من الممكن أن تؤهلنا لصُنع منتجات (عناصر) قوة ناعمة وبناء استراتيجية لتسويقها وإيجاد الميزة التنافسية بها، فهناك مفهوم صاعد اليوم يُعرف بـ (الدبلوماسية الخضراء Green diplomacy) يمكن أن تؤدي فيه عُمان دورا بارزا استنادًا إلى جهودها في سياق تحديد مسار وطني واضح للحياد الصفري، وفي سياق إمكانيات الريادة التنافسية لقيادة جهود اقتصاد الهيدروجين. وإذا ما نظرنا للبُعد السياسي، فإن مدرسة الدبلوماسية العُمانية في أركانها الثلاثة (التفاوض السياسي - حل الصراعات والأزمات - إيجاد التفاهمات) تُمكن عُمان اليوم على سبيل المثال من بناء مؤسسات متخصصة في شاكلة معاهد أو أكاديميات أو منتديات عالمية لترسيخ هذه القيم، ونقل فلسفة السياسة العُمانية للعالم عبر منتج معرفي وحضاري متأسس. ومراكمة خبرات عُمان في إطار التخطيط الاستراتيجي طويل ومتوسط المدى، واختبار تجارب مختلفة من سياقات التخطيط التنموي يعد ميزة تنافسية أخرى يُمكن البناء عليها. والخبرات الموسعة في مجال إدارة الكوارث والمخاطر والأزمات، التي تشكلت عبر العقود الماضية يمكن أن يضع سلطنة عُمان فاعلًا مؤثرًا في هذا السياق عالميًّا. هذه نماذج أولية لمزايا نعتقد بإمكانها إيجاد الميزة التنافسية للسمة الوطنية العُمانية؛ إلا أن هناك عدة اعتبارات لا بد من تضافرها لتسويق هذه المزايا - أو غيرها - وأهمها مراكمة أبحاث وطنية جادة ومعمقة لتشخيص خريطة الطريق للقوة الناعمة العُمانية، عوضًا عن وجود استراتيجية (مركزية) لتسويق هذه السمات عبر آجال وأدوات وفاعلين ومؤسسات معينة، وكذلك وجود الآلة الإعلامية القادرة على مواكبة هذا التسويق، والانتقال نحو التأثير العالمي، فالقوة الناعمة هي رهن بالوصول إلى مدارك وتصورات الشعوب قبل الدول، والانتشار عبر الثقافات قبل المؤسسات والفاعلين السياسيين. أمامنا فُرص كبيرة إذن، ولا شك أن الرؤية المستقبلية 2040 بما حددته من مسارات لتموضع سلطنة عُمان في الخريطة الاقتصادية والثقافية والبيئية يمكن أن تكون أكبر روافع حفز القوة الناعمة وتسويقها والتأثير بها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان