أعمدة

يحلُ ويرحل خفيفًا

 
1 - لم ينتظر الرجل أن تستهدفه نظرات الاستنكار والاستغراب من المُصلين بعد انتهاء صلاة التراويح ولا أن يُوجَه إليه العتب أو النقد من أي أحد فما إن سلّم الإمام حتى حمل طفليه وهرب من المسجد . نعم لم يدعُ بعد الصلاة ولو قصير الدعاء لكنه كان متأكدًا أنه لن يجد إجابات شافية لسيل الأسئلة التي تنتظره تلك التي ستنطق بها عيون الناس قبل ألسنتهم.

كيف كان سيرد على من يسأله عن دواعي إحضار هؤلاء الصغار للمسجد وهم دون سن التكليف؟ وهل كان له موقف أو رأي من هذه الفكرة أم أنه مُجبر عليها ؟ سيجد نفسه في موقف لا يُحسد عليه إذا ما سخِر منه أحدهم وذّكره بأن بيوت الله ليست برياض أطفال وأنه ليس الوحيد في العالم من أنجب أطفالًا وأن على رقبته يقع فساد صلوات من أفسدت عليهم فوضى أطفاله صلواتهم .

هرب الرجل من المسجد وهو لا يلوي على شيء لأنه سيُضطر للكذب وهو صائم إذا ما واجهه أحد بسوء تصرفه فـ (الشردة نصف المرجلة).

2 - تحولت مجموعة الواتس أب التي أنشأها الجيران في رمضان الفائت بغرض نشر «ما يهم المسلم في رمضان» ومناقشة هموم المربع السكني ومشكلاته إلى مجموعة لتصفية الحسابات والصدام ونشر إعلانات البيع والترويج بدءًا من افتتاح محل بيع «السمبوسة» حتى بيع السيارات والمعدات الثقيلة.

غالبًا لا يعرف الكثيرون بعضهم بعضًا داخل المجموعة الواحدة بسبب الأعداد الكبيرة المُنظمة لها ولأن البعض الآخر هم «خلايا نائمة» لا يُسمع لهم همس ولا يُشاركون في النقاشات التي يُفترض أن تخدم السكان بحجة أنهم مشغولون أو لا يحبون الدخول في جدالات تجلب الصداع. لهؤلاء بعض الحق في أن مثل هذه المجموعات قد تتسبب في حدوث الكثير من المشاكل إذا لم يُحسنُ الإفادة من وجودها وإدارتها . المُستغَرب أن بعض أعضاء هذه المجموعات يستأذنون بالخروج منها شهر رمضان كاملًا بنية المحافظة على صومهم وكأنهم يعترفون بذلك أن بعض المجموعات الواتس أب إنما هي بيئة مهيأة للاختلافات وللغيبة والنميمة وكثيرًا ما تتسبب في تمزيق العلاقات بين الأفراد.

3 - لم تكن وجبة إفطار الصائم أو « الفطرة » في البيوت قديمًا تتكون أكثر من اللبن والتمر والبطيخ «الجُح» و«الشوربة العمانية» كعشاء وبعد أن تطور الحال دخل إليها «المحلبية» أو «الكاسترد» وشراب «الفيمتو» الذي كانوا يعبئونه في حافظات كبيرة «ترامس» مع الثلج الذي يُجلب من الخارج كقوالب كبيرة ويباع مقطعًا في سوق البلدة عصر كل يوم من أيام رمضان .

كانت «فطرة» محدودة تحضر في بيت الغني والفقير لكن الناس كانوا سعداء وأصحاء لا يُكلفون أنفسهم فوق طاقتهم فلم يكن شهر رمضان «همّا» يقض مضجع رب الأسرة كما هو الحال الآن بل كان مناسبة ينتظرها الصغير قبل الكبير للعبادة والتقرب لله واجتماع الجيران .

في نهار شهر رمضان قديمًا كانت رائحة ما يُطبخ في البيوت « تنتشر في كل أرجاء الحارة رغم بساطة ما يتم طبخه .. مشهد مألوف أن تلمح الأطفال قبل الإفطار وهم يحملون ما جادت به بيوتهم لبيوت جيرانهم . في تلك السنوات لم يعرفوا «الموائد» الكبيرة التي تزدحم بكافة أنواع الأكل والشراب ولم يبالغوا في التحضير لحلول الشهر الفضيل فكان يحلُ خفيفًا ويرحل خفيفًا .. رمضان الذي ننتظر بلهفة سيظل هو ولن يتغير إنما نحن البشر من عصفت بنا رياح التغيير .

آخر نقطة

من الصيام نتعلم الصبر على الجوع والعطش وكبح رغبات النفس الجامحة، كما يُعلمنا الصبر على الأذى الذي قد يلحقنا من البعيد ومن أقرب الناس إلينا، نتعلم منه معنى التسامح مع الآخر والتصالح مع النفس.

عمر العبري كاتب عماني