أفكار وآراء

انحطاط الفن العربي

قد يجد القارئ أن كلمة «الانحطاط» هي كلمة جائرة فيما يخص وصف حالة الفن العربي الراهنة، ولكن من شاء أن يترفق بنا ويتمهل في حكمه، فلينظر في حالة انحطاط الفن في مصر الذي كان يمثل يومًا ما راية الفن العربي ومركزه المشع، ليتفهم ما الذي جرى على حال الفن العربي عمومًا. نعم هناك حالات من الإبداع الفني العظيم في عالمنا العربي في كل مكان، ولكنها تظل في النهاية حالات فردية، لا تشكل ظاهرة فنية عامة، ولا يدعمها السياق الفني والثقافي السائد.

تأمَّل -على سبيل المثال- حالة تراجع فن السينما: لن تجد فيلمًا الآن له قيمة فيلم «زقاق المدق». ولقد سبق أن أهداني المخرج الكبير الراحل توفيق صالح نسخة من هذا الفيلم، وغيره من روايات نجيب محفوظ التي أُعيد إنتاجها وإخراجها سينمائيًّا في أمريكا اللاتينية. ولن تجد فيلمًا من بعد ذلك يقترب من قيمة فيلم «البوسطجي» أو فيلم «الأرض» أو «الشحاذ» أو «المومياء» أو «شيء من الخوف»، أو ما شابه ذلك من الأفلام العظيمة التي لا يُحصى عددها والتي كانت تشكّل ظاهرة فنية سينمائية، بما في ذلك الأفلام الكوميدية التي قام بالتمثيل فيها أساتذة الكوميديا العظام من أمثال: نجيب الريحاني وزينات صدقي وماري منيب وعبدالفتاح القصري وإسماعيل ياسين وعبدالسلام النابلسي وتوفيق الدقن، وغيرهم كثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم في هذه العجالة.

ما جرى على فن السينما هو نفسه ما جرى على فن الغناء وغيره. لا يدرِك الفرق الهائل بين حالة الفن فيما مضى وحالته عبر العقود الأخيرة التي تمتد لقرابة نصف قرن، إلا من يتمتعون بذائقة جمالية وموسيقية بوجه خاص. فلا يمكن بأية حال مقارنة المطربين العظام فيما مضى بالمطربين الحاليين ممن يتصدرون المشهد الغنائي العربي، بمن فيهم الفنان الذي يطلقون عليه «أمير الغناء العربي» (هاني شاكر)، و«الملك» (محمد منير)، و«الهضبة» (عمر دياب)، مهما كانت شهرتهم ومهما كان جمهورهم العريض؛ لأن الجمهور لا يصنع الفن والذائقة الجمالية، إنما الفن العظيم هو الذي يصنع ذلك. نعم لدى هؤلاء بعض الأغنيات الجيدة التي تتقبلها الذائقة الموسيقية، ولكن مثل هذه الأغنيات تبدو عندي معدودات على أصابع اليد الواحدة منها، وهي مجتمعة لا يمكن مقارنتها بقيمة أغنية واحدة من أغاني العظماء في مصر ولبنان وغيرهما من البلدان العربية، سواء من حيث الشعر المُغنّى، بما في ذلك الشعر العامي (لأن العامي منه كان يتحقق بوصفه شعرًا بليغًا)، أو من حيث اللحن، أو من حيث صوت المطرب أو المطربة، الذي كانت لكل منه بصمة مخصوصة وقدّرة فائقة على الأداء. بل لن أكون مبالغًا إن قلت هنا إن أصوات مطربي الكورس المصاحبة للمطرب الرئيس في الغناء، كانت أجمل من معظم الأصوات الغنائية الشهيرة في عالمنا الآن لمطربين ملء السمع والبصر، وذلك باستثناءات قليلة بطبيعة الحال، ومن هذه الاستثناءات صوت ماجدة الرومي وقلة نادرة للغاية من المطربين يكادوا يتوارون في عالمنا الراهن. ينطبق هذا بصورة أكثر وضوحًا على حال الملحنين مقارنةً بالمستوى الفني لسابقيهم، فلن تجد واحدًا من الملحنين الآن في قامة أي واحد من الملحنين العظام فيما مضى (وأنا أستثني من ذلك مؤلفي الموسيقى الخالصة من أمثال راجح داود).

وربما يتساءل المرء عن السر في ذلك؛ وسأقول له ببساطة: أولئك هم نتاج عصر مضى كان ثريًّا بتنويريته على المستوى السياسي والثقافي العام، بما في ذلك مستوى التعليم فيه الذي يفوق بشكل هائل مستوى التعليم السائد الآن؛ فالفنانون في ذلك العصر هم المجايلون للمفكرين والأدباء العظام في العصر نفسه، من أمثال: أحمد لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، والمازني، ويحيى حقي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس... وغيرهم كثير. سيقول المدافعون عن فن عصرنا من دون علم أو حتى إحساس جمالي إن موقفنا هذا فيه افتئات على فن عصرنا الراهن الذي حفل بمطربين عظام، رحل منهم من رحل وبقي من بقي، من أمثال: ناظم الغزالي، ووديع الصافي، وفيروز (أبقاها لنا الله أيقونة على الزمن الجميل)، وماجدة الرومي. ولا بد أن نعترف بأن هناك أصواتًا غنائية وفرادى من الأعمال السينمائية والتشكيلية العظيمة في عصرنا الراهن التالي على عصر التنوير الذي كانت مصر مركزه فيما مضى؛ ولكننا يجب أن نعترف أيضًا بأن هذه الحالات الفردية التي تكاد تتلاشى، ليست نتاجًا لعصرها، وإنما كانت نتاجًا للعصر التنويري أو تربت وتعلمت من جيل سابق قد تشكل في هذا العصر ذاته. ولهذا فإن من يتحدثون عن نهضة الفن في مرحلة الستينيات وامتدادها في فترة السبعينيات في مصر خاصة، هم الناصريون الذين لم يتحرروا من هذا الوهم؛ ومن ثم فإنهم لا يدركون أن الجيل الذي أبدع في هذا العقد وما يليه هو جيل قد تشكل من قبل في حقبة التنوير. بل أكاد أجزم بأن من تربوا ضمن جيل حقبة التنوير قد لفظوا أنفاسهم الإبداعية تدريجيا، ليس فقط بسبب فقدان الروح التي يُشعل توهجها السياق المحفز على الإبداع، بل أيضًا بسبب التقدم في العمر الذي يجعل قدرة الفنان وذروة اشتعاله تتلاشى أو تضعف بالتدريج (وهو ما يتبدى بوضوح في حالة المطرب العظيم؛ إذ إن عظمة صوته وإمكانياته تتراجع بتقدم العمر من الناحية الفيزيقية). هذا ما جرى على صوت أم كلثوم نفسها، ولم يجر على صوت عبد الحليم بالقدر نفسه؛ بالضبط لأنه مات مبكرًا.