المعلومات المضللة وتأثير الشخص الثالث
الثلاثاء / 21 / شعبان / 1444 هـ - 22:05 - الثلاثاء 14 مارس 2023 22:05
هل جربت أن تسأل نفسك عن تأثير التعرض لمنصات الإعلام المختلفة التقليدية منها أو الرقمية، عليك وعلى اتجاهاتك وسلوكياتك الشخصية نحو الأحداث والقضايا الوطنية والإقليمية والعالمية؟ إذا كنت فعلت ذلك فإن من المؤكد أنك تعتقد أن وسائل الإعلام لا تؤثر فيك بشكل كبير أو لا تؤثر فيك على الإطلاق، ولكنك تخشى من أنها تترك آثارا قد تكون سلبية على الآخرين من حولك، مثل أفراد عائلتك وأصدقائك وزملاء العمل والآخرين البعيدين عنك والذين لا تعرفهم.
هذا بالضبط ما يعرف علميا بتأثير الشخص الثالث، حيث يعتقد غالبية البشر أن الإعلام لا يؤثر فيهم، ولكنه يؤثر في الآخرين. تماما مثلما يعتقد البعض أنهم لن يتعرضوا للحوادث المرورية أو المرض المفاجئ أو الإفلاس أو الفشل الدراسي أو الاجتماعي، ولكن الآخرين فقط هم من يتعرضون لكل ذلك، إلى أن تحين اللحظة القدرية ويجدون أنفسهم وقد تعرضوا لما تصوروا سابقا أنهم لن يتعرضوا له.
إذا سألتك عن تأثير استخدام شبكات التواصل الاجتماعي المكثف عليك وعلى علاقاتك الاجتماعية الحقيقية، سوف تنفي بالتأكيد وجود هذا التأثير. ولكن إن سألتك عن تأثير تلك الشبكات على العلاقات الاجتماعية على غيرك من الناس فربما تبالغ في تقدير هذا التأثير، بل من الممكن أن تدعوهم إلى تقنين هذا الاستخدام، وتطالب بفرض قيود على الوصول إلى بعض هذه الشبكات. الفكرة هنا أن الناس يتعاملون في بعض الأوقات مع الرسائل الإعلامية كما لو أنها لا يمكن أن تؤثر عليهم، ولكنها ربما تؤثر على الناس الآخرين، وهذا ما وصفه باحث الاتصال الأمريكي «فيليبس دافيسون» منذ ثمانينيات القرن الماضي بتأثير الشخص الثالث، وطور من خلال أبحاثه حوله إحدى نظريات الإعلام المهمة التي تحمل نفس الاسم، ويمكن أن تفسر بعض المتناقضات البشرية وبعض القرارات الإعلامية.
وتقوم الفكرة الرئيسية لنظرية تأثير الشخص الثالث على أساس نفسي، إذ يتجه الناس إلى المبالغة في تقدير تأثير الإعلام على اتجاهات وسلوك الآخرين، وفي نفس الوقت يقللون من هذا التأثير على أنفسهم. ويتضمن تأثير الشخص الثالث فرضيتين رئيسيتين، الأولى إدراكية والثانية سلوكية. وتشير الفرضية الإدراكية إلى أن الرسالة الإعلامية سوف يكون لها تأثيرات على الآخرين أكبر من تأثيرها على النفس. أما الفرضية السلوكية فتؤكد أنه بسبب هذا الإدراك فإن الناس قد يطالبون أو يدعمون اتخاذ إجراءات محددة مضادة لحرية الإعلام، مثل فرض قيود على المحتوى الإعلامي ومحتوى بعض وسائل الإعلام، أو إصدار تشريعات تجرم نشر بعض القصص أو التعرض لبعض القضايا والأحداث.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم فلسفة بعض المجتمعات في فرض الرقابة على الإعلام أو محاولات تكميم الأفواه والتحكم في المعلومات أو الحد منها. فالناس الذين يريدون الحد من أنواع معينة من المعلومات التي سوف يتعرض لها الآخرون، يبدون في بعض الأحيان في موقف من يقول «هذه المعلومات لن يكون لها أي تأثير علينا، ولكننا قلقون بشأن تأثيرها على الآخرين». وعلى سبيل المثال فإن مؤيدي فرض الرقابة على المواد الإباحية على الإنترنت يبدون أحيانا أكثر قلقا بشأن تأثيرها على الآخرين أكثر من تأثيرها على أنفسهم. وقد سأل أحد الباحثين قبل مطلع الألفية الحالية عينة من المبحوثين عن إدراكهم لتأثيرات المواد الإباحية على أنفسهم وعلى الآخرين، وعن رأيهم في فرض قيود على هذه المواد. ووجد الباحث دليلا على صحة فرضية تأثير الشخص الثالث. إذ اتضح أن الناس يتجهون إلى إدراك تأثيرات للمواد الإباحية على الآخرين أكبر من تأثيراتها على أنفسهم. وأكثر من ذلك فقد وجد أن غالبية الذين أظهروا تأثير الشخص الثالث أيدوا فرض قيود على المواد الإباحية. وإجمالا فإن الناس ربما يتأثرون أكثر بوسائل الإعلام بشكل أكبر مما يعتقدون، ولكنهم في المقابل يرون أن الآخرين أكثر تأثرا بوسائل الإعلام بشكل أكبر من أنفسهم. ومع ذلك فإنهم في بعض الحالات قد يسيئون الإدراك (ويقللون) من حجم تأثير الرسائل الإعلامية عليهم.
ما مناسبة طرح هذه القضية هنا؟ يبدو الأمر بالنسبة لي على درجة كبيرة من الأهمية في هذا العالم الرقمي المترامي الأطراف والمتخم بالمعلومات المضللة والكاذبة، يقود النقاش العام فيه مواطنون رقميون لم يؤهلوا ليكونوا إعلاميين، يرفعون الشعارات الرنانة وينفون تأثرهم الشخصي بما ينشر على المنصات الإعلامية، خاصة شبكات التواصل الاجتماعي، ولكنهم في نفس الوقت يظهرون في ثياب المدافعين عن الفضيلة، ويحذرون من خطورة بعض التأثيرات على الآخرين، ويطالبون باتخاذ إجراءات عقابية تتصل باستخدام وسائل وشبكات الاتصال، متأثرين في ذلك بفكرة تأثير الشخص الثالث.
في العدد الأخير الصادر هذا الأسبوع من الدورية البحثية الإعلامية الشهيرة «الإعلام الجديد والمجتمع» عاد الباحثان «ساشا التاي والبرتو اكيربي» من جامعة أكسفورد إلى زيارة نظرية تأثير الشخص الثالث لبحث قضية المعلومات المضللة، ليؤكدوا في النهاية أن تدفق تلك المعلومات خاصة على المنصات الرقمية لا جدال فيه، ومع ذلك فإن المخاوف المحيطة بتأثيراتها السلبية مبالغ فيها بشكل كبير. وطرح الباحثان سؤالا مهما هو: لماذا يخشى الناس من المعلومات المضللة؟، وأجريا دراسة ميدانية على عينة من المملكة المتحدة، وعينة مماثلة من الولايات المتحدة الأمريكية. وخلص الباحثان إلى أن السبب الأقوى للخطر المتصور للمعلومات المضللة هو تأثير الشخص الثالث (أي تصور أن الآخرين أكثر عرضة للتضليل من الذات)، والاعتقاد بأن الآخرين «البعيدين» أكثر عرضة للمعلومات المضللة، كما خلصا إلى أن الأشخاص الأكثر قلقا كانوا هم الأكثر استعدادًا لتبادل الروايات المزعجة حول المعلومات المضللة، وقالا إن النتائج التي توصلا إليها تؤكد أن المخاوف بشأن المعلومات الخاطئة تستفيد من ميلنا الفطري إلى النظر إلى الآخرين على أنهم ساذجون.
يشير البحث إلى أن 77 بالمائة من الناس يعتقدون بشكل عام أن الآخرين أكثر عرضة للتضليل الإعلامي من أنفسهم مقابل 18 بالمائة فقط يعتقدون أنهم أكثر عرضة لهذه المعلومات من الآخرين. ورغم أن هذه النتيجة تمثل دليلا على أننا نميل إلى الإفراط في الثقة في أنفسنا، فإنها ترتبط في الوقت نفسه بتصوراتنا المتشائمة حول قدرة الآخرين على اكتشاف المعلومات المضللة.
الخطورة في مثل هذه التصورات أنها قد تدفعنا إلى الموافقة على فرض الرقابة على وسائل الإعلام، والمطالبة بإصدار تشريعات وقوانين تحد من حرية الرأي والتعبير والصحافة وإسكات المعارضين السياسيين، بدعوى حماية الآخرين الضعفاء من التأثيرات الضارة للمعلومات المضللة، وهو ما يصب في النهاية في صالح الأنظمة والحكومات الاستبدادية في العالم، التي تتخذ من المبالغة في تقدير التأثيرات السلبية للمعلومات المضللة على الناس ذريعة لتجريم نشر أي معلومات لا ترضى عن نشرها حتى وإن كانت صحيحة وغير مضللة، بل أنها في بعض الأحيان قد تفرض -من خلال السيطرة على النظام القضائي- على من ينشر معلومة صحيحة عقوبات تفوق تلك التي تفرضها على ناشر المعلومات المضللة.
هذا بالضبط ما يعرف علميا بتأثير الشخص الثالث، حيث يعتقد غالبية البشر أن الإعلام لا يؤثر فيهم، ولكنه يؤثر في الآخرين. تماما مثلما يعتقد البعض أنهم لن يتعرضوا للحوادث المرورية أو المرض المفاجئ أو الإفلاس أو الفشل الدراسي أو الاجتماعي، ولكن الآخرين فقط هم من يتعرضون لكل ذلك، إلى أن تحين اللحظة القدرية ويجدون أنفسهم وقد تعرضوا لما تصوروا سابقا أنهم لن يتعرضوا له.
إذا سألتك عن تأثير استخدام شبكات التواصل الاجتماعي المكثف عليك وعلى علاقاتك الاجتماعية الحقيقية، سوف تنفي بالتأكيد وجود هذا التأثير. ولكن إن سألتك عن تأثير تلك الشبكات على العلاقات الاجتماعية على غيرك من الناس فربما تبالغ في تقدير هذا التأثير، بل من الممكن أن تدعوهم إلى تقنين هذا الاستخدام، وتطالب بفرض قيود على الوصول إلى بعض هذه الشبكات. الفكرة هنا أن الناس يتعاملون في بعض الأوقات مع الرسائل الإعلامية كما لو أنها لا يمكن أن تؤثر عليهم، ولكنها ربما تؤثر على الناس الآخرين، وهذا ما وصفه باحث الاتصال الأمريكي «فيليبس دافيسون» منذ ثمانينيات القرن الماضي بتأثير الشخص الثالث، وطور من خلال أبحاثه حوله إحدى نظريات الإعلام المهمة التي تحمل نفس الاسم، ويمكن أن تفسر بعض المتناقضات البشرية وبعض القرارات الإعلامية.
وتقوم الفكرة الرئيسية لنظرية تأثير الشخص الثالث على أساس نفسي، إذ يتجه الناس إلى المبالغة في تقدير تأثير الإعلام على اتجاهات وسلوك الآخرين، وفي نفس الوقت يقللون من هذا التأثير على أنفسهم. ويتضمن تأثير الشخص الثالث فرضيتين رئيسيتين، الأولى إدراكية والثانية سلوكية. وتشير الفرضية الإدراكية إلى أن الرسالة الإعلامية سوف يكون لها تأثيرات على الآخرين أكبر من تأثيرها على النفس. أما الفرضية السلوكية فتؤكد أنه بسبب هذا الإدراك فإن الناس قد يطالبون أو يدعمون اتخاذ إجراءات محددة مضادة لحرية الإعلام، مثل فرض قيود على المحتوى الإعلامي ومحتوى بعض وسائل الإعلام، أو إصدار تشريعات تجرم نشر بعض القصص أو التعرض لبعض القضايا والأحداث.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم فلسفة بعض المجتمعات في فرض الرقابة على الإعلام أو محاولات تكميم الأفواه والتحكم في المعلومات أو الحد منها. فالناس الذين يريدون الحد من أنواع معينة من المعلومات التي سوف يتعرض لها الآخرون، يبدون في بعض الأحيان في موقف من يقول «هذه المعلومات لن يكون لها أي تأثير علينا، ولكننا قلقون بشأن تأثيرها على الآخرين». وعلى سبيل المثال فإن مؤيدي فرض الرقابة على المواد الإباحية على الإنترنت يبدون أحيانا أكثر قلقا بشأن تأثيرها على الآخرين أكثر من تأثيرها على أنفسهم. وقد سأل أحد الباحثين قبل مطلع الألفية الحالية عينة من المبحوثين عن إدراكهم لتأثيرات المواد الإباحية على أنفسهم وعلى الآخرين، وعن رأيهم في فرض قيود على هذه المواد. ووجد الباحث دليلا على صحة فرضية تأثير الشخص الثالث. إذ اتضح أن الناس يتجهون إلى إدراك تأثيرات للمواد الإباحية على الآخرين أكبر من تأثيراتها على أنفسهم. وأكثر من ذلك فقد وجد أن غالبية الذين أظهروا تأثير الشخص الثالث أيدوا فرض قيود على المواد الإباحية. وإجمالا فإن الناس ربما يتأثرون أكثر بوسائل الإعلام بشكل أكبر مما يعتقدون، ولكنهم في المقابل يرون أن الآخرين أكثر تأثرا بوسائل الإعلام بشكل أكبر من أنفسهم. ومع ذلك فإنهم في بعض الحالات قد يسيئون الإدراك (ويقللون) من حجم تأثير الرسائل الإعلامية عليهم.
ما مناسبة طرح هذه القضية هنا؟ يبدو الأمر بالنسبة لي على درجة كبيرة من الأهمية في هذا العالم الرقمي المترامي الأطراف والمتخم بالمعلومات المضللة والكاذبة، يقود النقاش العام فيه مواطنون رقميون لم يؤهلوا ليكونوا إعلاميين، يرفعون الشعارات الرنانة وينفون تأثرهم الشخصي بما ينشر على المنصات الإعلامية، خاصة شبكات التواصل الاجتماعي، ولكنهم في نفس الوقت يظهرون في ثياب المدافعين عن الفضيلة، ويحذرون من خطورة بعض التأثيرات على الآخرين، ويطالبون باتخاذ إجراءات عقابية تتصل باستخدام وسائل وشبكات الاتصال، متأثرين في ذلك بفكرة تأثير الشخص الثالث.
في العدد الأخير الصادر هذا الأسبوع من الدورية البحثية الإعلامية الشهيرة «الإعلام الجديد والمجتمع» عاد الباحثان «ساشا التاي والبرتو اكيربي» من جامعة أكسفورد إلى زيارة نظرية تأثير الشخص الثالث لبحث قضية المعلومات المضللة، ليؤكدوا في النهاية أن تدفق تلك المعلومات خاصة على المنصات الرقمية لا جدال فيه، ومع ذلك فإن المخاوف المحيطة بتأثيراتها السلبية مبالغ فيها بشكل كبير. وطرح الباحثان سؤالا مهما هو: لماذا يخشى الناس من المعلومات المضللة؟، وأجريا دراسة ميدانية على عينة من المملكة المتحدة، وعينة مماثلة من الولايات المتحدة الأمريكية. وخلص الباحثان إلى أن السبب الأقوى للخطر المتصور للمعلومات المضللة هو تأثير الشخص الثالث (أي تصور أن الآخرين أكثر عرضة للتضليل من الذات)، والاعتقاد بأن الآخرين «البعيدين» أكثر عرضة للمعلومات المضللة، كما خلصا إلى أن الأشخاص الأكثر قلقا كانوا هم الأكثر استعدادًا لتبادل الروايات المزعجة حول المعلومات المضللة، وقالا إن النتائج التي توصلا إليها تؤكد أن المخاوف بشأن المعلومات الخاطئة تستفيد من ميلنا الفطري إلى النظر إلى الآخرين على أنهم ساذجون.
يشير البحث إلى أن 77 بالمائة من الناس يعتقدون بشكل عام أن الآخرين أكثر عرضة للتضليل الإعلامي من أنفسهم مقابل 18 بالمائة فقط يعتقدون أنهم أكثر عرضة لهذه المعلومات من الآخرين. ورغم أن هذه النتيجة تمثل دليلا على أننا نميل إلى الإفراط في الثقة في أنفسنا، فإنها ترتبط في الوقت نفسه بتصوراتنا المتشائمة حول قدرة الآخرين على اكتشاف المعلومات المضللة.
الخطورة في مثل هذه التصورات أنها قد تدفعنا إلى الموافقة على فرض الرقابة على وسائل الإعلام، والمطالبة بإصدار تشريعات وقوانين تحد من حرية الرأي والتعبير والصحافة وإسكات المعارضين السياسيين، بدعوى حماية الآخرين الضعفاء من التأثيرات الضارة للمعلومات المضللة، وهو ما يصب في النهاية في صالح الأنظمة والحكومات الاستبدادية في العالم، التي تتخذ من المبالغة في تقدير التأثيرات السلبية للمعلومات المضللة على الناس ذريعة لتجريم نشر أي معلومات لا ترضى عن نشرها حتى وإن كانت صحيحة وغير مضللة، بل أنها في بعض الأحيان قد تفرض -من خلال السيطرة على النظام القضائي- على من ينشر معلومة صحيحة عقوبات تفوق تلك التي تفرضها على ناشر المعلومات المضللة.