هل يتشابه الطغاة؟
الثلاثاء / 21 / شعبان / 1444 هـ - 19:59 - الثلاثاء 14 مارس 2023 19:59
قرأت في الأيام الماضية -متأخرة كعادتي- رواية «حفلة التيس» للكاتب ماريو فارجاس يوسا، وترجمة الراحل الباقي «صالح علماني». وكنتُ قد تعرفتُ إلى هذا الكاتب اللاتيني من خلال نوفيلا ساحرة قرأتها قبل سنوات بعنوان «امتداح الخالة» التي ترجمها «علماني» أيضا.
تتحدث رواية «حفلة التيس» عن عهد الديكتاتور تروخيو في جمهورية الدومنيكان ونهايتها مطلع ستينيات القرن الماضي. وبأسلوب مليء بالترقب نتعرف على شكل السلطة في تروخيو العاصمة الدومنيكانية والهندسة الاجتماعية التي فرضها الاستبداد على الحياة العامة وأجساد المواطنين وعلاقاتهم. كلما تقدمت في القراءة لاحظتُ أنني أتتبع نمطا كما لو أن الطغاة يهرفون من البئر نفسه. هل يعقل ذلك؟ لذا صممتُ على جمع العلامات التي أميزها في هذا العمل الروائي عن طبيعة الطاغية:
أولا: يبدو أن كل الديكتاتوريات في ظن المحكومين غير قابلة للمراجعة النقدية بالضرورة، رغم كل ما اقترفته، ذلك أن ما كتبه يوسا على لسان إحدى الشخصيات ص108 «حسن، حسن. قد يكون دكتاتورا وكل ما يقولونه عنه، ولكن يبدو أن الحياة كانت أفضل آنذاك. الجميع كان لديهم عمل، ولم تكن تقترف هذه الجرائم أليس كذلك؟». ويعلق في ص109 -... لقد نسوا التعسف، والاغتيالات، والفساد، والتجسس، والعزلة، والخوف، فقد تحول الرعب إلى أسطورة (الجميع كان لديهم عمل، ولم تكن تقترف كل هذه الجرائم)».
ثانيا: يفقد المحاطون بالزعيم حساسيتهم كما يفقدون الشك والوساوس، ما يفقدهم أدنى قدر من الاستقامة، وذلك بعد خدمته لمدة طويلة، الأمر الذي يُسَوغ تلك السهولة التي يتعامل بها جمع غفير في السلطة بالرعونة نفسها، إنها جنايات الحداثة بلا شك، وشكل الدولة الذي أفرزته والذي دفع أخمان لحرق اليهود في الهولوكوست لأنه لم يكن ينفذ إلا الأوامر! على حد تعبير الفيلسوفة الأمريكية حنة أرندت «الشر عادي، ومن يرتكبه أناس عاديون» هذا بالضبط ما يحدث على أن الأنظمة السلطوية قادرة على تحويل العاديين إلى ترس في مشروعها الاستبدادي.
ثالثا: تشكل الطبقة المتوسطة ركيزة النظام التقليدي للدكتاتور، ذكرني هذا بوصف الكاتب المصري شريف يونس للطبقة المتوسطة في أنها «طبقة الكبت» ولنتأمل إحدى التقنيات التي يجابه بها أفراد هذه الطبقة لابتزازهم من قبل الديكتاتورية إذ إنها تستخدم التقنيات نفسها في ردع كل من تسول له نفسه مواجهة هذا النظام من قبيل «أن تحرمها في انتقام مدروس من مزاولة المهنة، أي الحكم عليها بعدم العمل، وحرمانها من كسب قوتها، وإشعارها بالإحباط وهي في ذروة الشباب» ص156.
رابعا: إيمان الجميع بأن الديكتاتور «التيس» هو مخلّص الوطن من أزماته «الجميع كانوا يؤمنون بأن التيس هو منقذ الوطن، الذي أنهى حروب الزعماء المحليين، وخطر وقوع غزو هاييتي جديد، ووضع حدا للتبعية المذلة للولايات المتحدة - التي كانت تتحكم بالجمارك، وتمنع وجود عملة دومنيكانية، وتؤشر على صحة الميزانية - وحمل بالحسنى أو الإكراه رؤوس البلاد إلى الحكومة...» ص157.
خامسا: إيجاد نظام معقد يجعل الجميع يشاركون فيه «فكر بالنظام الشيطاني الذي تمكن تروخيو من إيجاده، والذي يضطر جميع الدومينيكانيين جميعهم عاجلا أو آجلا للمشاركة فيه بصفتهم متواطئين. وهو نظام لا يمكن أن ينجو منه إلا المنفيون (وهم لا ينجون دائما) والموتى. فالجميع في البلاد كانوا أو سيكونون بطريقة أو بأخرى جزءا من النظام» ص160.
سادسا: تبرير الفظاعات التي يرتكبها الديكتاتور، وذلك أنها في سبيل ما هو أشرف وأهم هنا يعني الوطن فلا بد من التضحية بما يمكن أن يحول دون تحقيق هذا الشرف حتى ولو كان بإبادة الناس فلنتأمل هذه الفقرة على لسان تروخيو المستبد «ولكن للحكم وجهه القذر ومن دونه سيكون مستحيلا عمل ما تفعله حضرتك. ماذا عن حفظ النظام؟ والهدوء والأمن؟... لا تقل لي إنك لا تعرف كيف يتم التوصل إلى الأمن بكم من التضحيات وكم من الدماء. عليك أن تشكرني لأني أسمح لك للنظر إلى الجانب الآخر والانهماك في الأمور الطيبة بينما أنا وآخرون نحافظ على الهدوء في البلاد لكي تتمكن أنت من كتابة قصائدك وخطاباتك...» ص258.
سابعا: على الرغم من أنه ينحدر بطريقة غير شرعية عن أب وأم هايتيين، إلا أن تروخيو وفي مهماته الأولى أباد العديد من الهايتيين المقيمين في الدومنيكان وعلى أطرافها، لكنه في المقابل كان يحتقر معاونيه الذين يجلونه على الرغم من أنه ينحدر من أصول عبيد! هذه المفارقة علامة ينبغي الاهتمام بها في شخصيات هؤلاء الطغاة بلا شك!
ثامنا: الاهتمام بالطقوس والتقاليد من تطبيقاتها في أصغر أمور الحياة اليومية، وصولا للمراسم العامة مثل الاحتفال بالمناسبات الوطنية التي يكون مركزها الديكتاتور نفسه، والصرف عليها حتى في ظل الأزمات ويتضح ذلك في كل الرواية تقريبا منذ فصولها الأولى، في الطريقة التي يهندم بها الديكتاتور نفسه ويمليها على معاونيه وصولا للبيروقراطية في التعامل مع التحديات التي تواجهها مؤسسات الدولة.
وبالحديث عن الطقوس والمراسم والتقاليد التي تهتم بها الأنظمة السياسية بصورة كبيرة وعلى قدر عالٍ من الصرامة، لا بد من العودة إلى كتاب «اختراع التقاليد» دراسة في نشأة التقاليد ودوافعها وتطوراتها والذي حرره كل من ايريك هوبزباوم، وتيرينس رينجر، ويذهب في فصوله الأولى للتمييز بين العادة والتقاليد فالتقليد هو «مجموعة من الممارسات تحكمها قواعد ذات طابع طقسي أو رمزي وتكون هذه القواعد مقبولة علنيا أو ضمنيا، وتسعى إلى غرس قيم معايير سلوكية معينة من خلال التكرار». ولعل التشبيه الأهم للتقليد والفرق بينه وبين العادة في أن الثانية هي ما يفعله القضاة، في حين أن التقليد هو الشعر المستعار والرداء الذي يرتدونه ومعداتهم وممارساتهم الشعائرية.
وبطبيعة الحال فإن هذه التقاليد تسعى لإضفاء الطابع الرسمي والشرعي للمؤسسة ومن أنواعها التي تطرق إليها الكتاب تلك التقاليد التي تنشئ أوضاعا أو علاقات معينة مع السلطة. ويشير الكتاب إلى أهمية هذه التقاليد وما يتقاطع منها مع مقالتي هذه هي التوكيد على قدرة هذه الطقوس على تطوير روح العمل الجماعي والثقة بالنفس لدى النخب وعادة ما يتم ذلك بين أوساط المسؤولين الكبار وهو ما انتهج بالفعل بين البيض في المستعمرات مثلا. من المهم بمكان أن يدرس المؤرخون التقاليد الوضعية ذلك أنها تعد بمثابة دليل على المشاكل والتحديات التي عاشتها المجتمعات، خصوصا أن دراستها سيتطلب دمجها مع دراسات أوسع نطاقا وتخصصات إنسانية مختلفة مما يعني أنها دراسة عن المجتمع كافة. ولعل الفصل الرابع في الكتاب «سياق الطقوس وأداؤها ومغزاها - النظام الملكي البريطاني واختراع التقاليد بين عامي 1820- 1977 لديفيد كاناداين مهم للإضاءة أكثر حول هذا الموضوع. فقد حاول الباحث وضع الطقوس الملكية في سياقات تاريخية لاكتشاف معناها لأنها وعلى حد تعبيره تشبه الأعمال الفنية أو النظرية السياسية لا يمكن تفسيرها في ضوء بنائها الداخلي فحسب. وبهذا فهو يحلل حضور المراسم الطقسية لدى بريطانيا في فترات زمنية تباين فيها تناول هذه التقاليد أو الاهتمام بها وحتى دوافعها. ويستفيض في الإشارة لمناخ التنافس الدولي فيما يتعلق بإظهار العظمة والكبرياء، من خلال محاولة بريطانيا ودول أوروبا الأخرى الاستعراض العام للعظمة الملكية في مراسمها الرسمية. وصولا إلى التاريخ الحديث الذي اعتبرت فيه هذه المراسم نجاحا في محاولة تحديث المؤسسات القديمة مع تجنب التخلص التام من عبير الماضي، وهذا ما يختلف معه الباحث أصلا، إذ إن الادعاء بأن هذه التقاليد العتيقة سمة تكرسها الأنظمة السياسية على الرغم من أن الدلائل التاريخية تقول شيئا آخر. وهنالك بالتأكيد أسباب كثيرة لإقبال تزايد الناس على هذه الطقوس لأنها تجسد السحر الرومانسي في وقت يصعد فيه الإنسان للقمر، كما أنها فرصة ممكنة للهروب من رتابة الواقع. لكن الأهم من ذلك أن في ظل التغييرات الهائلة التي يمر بها عالمنا اليوم إلا أن الدولة ما زالت قادرة على الحفاظ على دورها الرسمي، ضمانا للأمن والاستقرار والتواصل والحفاظ على القيم التقليدية أي «يعني وجودها السلامة والاستقرار، واستمرار الكرامة الوطنية».
تنبهتُ للوثائقي على نتفلكس والمعنون بـ«كيف تصبح طاغية» والذي يقع في ست حلقات وهأنذا أشرع في مشاهدته بعد إنهاء هذه الكتابة.
تتحدث رواية «حفلة التيس» عن عهد الديكتاتور تروخيو في جمهورية الدومنيكان ونهايتها مطلع ستينيات القرن الماضي. وبأسلوب مليء بالترقب نتعرف على شكل السلطة في تروخيو العاصمة الدومنيكانية والهندسة الاجتماعية التي فرضها الاستبداد على الحياة العامة وأجساد المواطنين وعلاقاتهم. كلما تقدمت في القراءة لاحظتُ أنني أتتبع نمطا كما لو أن الطغاة يهرفون من البئر نفسه. هل يعقل ذلك؟ لذا صممتُ على جمع العلامات التي أميزها في هذا العمل الروائي عن طبيعة الطاغية:
أولا: يبدو أن كل الديكتاتوريات في ظن المحكومين غير قابلة للمراجعة النقدية بالضرورة، رغم كل ما اقترفته، ذلك أن ما كتبه يوسا على لسان إحدى الشخصيات ص108 «حسن، حسن. قد يكون دكتاتورا وكل ما يقولونه عنه، ولكن يبدو أن الحياة كانت أفضل آنذاك. الجميع كان لديهم عمل، ولم تكن تقترف هذه الجرائم أليس كذلك؟». ويعلق في ص109 -... لقد نسوا التعسف، والاغتيالات، والفساد، والتجسس، والعزلة، والخوف، فقد تحول الرعب إلى أسطورة (الجميع كان لديهم عمل، ولم تكن تقترف كل هذه الجرائم)».
ثانيا: يفقد المحاطون بالزعيم حساسيتهم كما يفقدون الشك والوساوس، ما يفقدهم أدنى قدر من الاستقامة، وذلك بعد خدمته لمدة طويلة، الأمر الذي يُسَوغ تلك السهولة التي يتعامل بها جمع غفير في السلطة بالرعونة نفسها، إنها جنايات الحداثة بلا شك، وشكل الدولة الذي أفرزته والذي دفع أخمان لحرق اليهود في الهولوكوست لأنه لم يكن ينفذ إلا الأوامر! على حد تعبير الفيلسوفة الأمريكية حنة أرندت «الشر عادي، ومن يرتكبه أناس عاديون» هذا بالضبط ما يحدث على أن الأنظمة السلطوية قادرة على تحويل العاديين إلى ترس في مشروعها الاستبدادي.
ثالثا: تشكل الطبقة المتوسطة ركيزة النظام التقليدي للدكتاتور، ذكرني هذا بوصف الكاتب المصري شريف يونس للطبقة المتوسطة في أنها «طبقة الكبت» ولنتأمل إحدى التقنيات التي يجابه بها أفراد هذه الطبقة لابتزازهم من قبل الديكتاتورية إذ إنها تستخدم التقنيات نفسها في ردع كل من تسول له نفسه مواجهة هذا النظام من قبيل «أن تحرمها في انتقام مدروس من مزاولة المهنة، أي الحكم عليها بعدم العمل، وحرمانها من كسب قوتها، وإشعارها بالإحباط وهي في ذروة الشباب» ص156.
رابعا: إيمان الجميع بأن الديكتاتور «التيس» هو مخلّص الوطن من أزماته «الجميع كانوا يؤمنون بأن التيس هو منقذ الوطن، الذي أنهى حروب الزعماء المحليين، وخطر وقوع غزو هاييتي جديد، ووضع حدا للتبعية المذلة للولايات المتحدة - التي كانت تتحكم بالجمارك، وتمنع وجود عملة دومنيكانية، وتؤشر على صحة الميزانية - وحمل بالحسنى أو الإكراه رؤوس البلاد إلى الحكومة...» ص157.
خامسا: إيجاد نظام معقد يجعل الجميع يشاركون فيه «فكر بالنظام الشيطاني الذي تمكن تروخيو من إيجاده، والذي يضطر جميع الدومينيكانيين جميعهم عاجلا أو آجلا للمشاركة فيه بصفتهم متواطئين. وهو نظام لا يمكن أن ينجو منه إلا المنفيون (وهم لا ينجون دائما) والموتى. فالجميع في البلاد كانوا أو سيكونون بطريقة أو بأخرى جزءا من النظام» ص160.
سادسا: تبرير الفظاعات التي يرتكبها الديكتاتور، وذلك أنها في سبيل ما هو أشرف وأهم هنا يعني الوطن فلا بد من التضحية بما يمكن أن يحول دون تحقيق هذا الشرف حتى ولو كان بإبادة الناس فلنتأمل هذه الفقرة على لسان تروخيو المستبد «ولكن للحكم وجهه القذر ومن دونه سيكون مستحيلا عمل ما تفعله حضرتك. ماذا عن حفظ النظام؟ والهدوء والأمن؟... لا تقل لي إنك لا تعرف كيف يتم التوصل إلى الأمن بكم من التضحيات وكم من الدماء. عليك أن تشكرني لأني أسمح لك للنظر إلى الجانب الآخر والانهماك في الأمور الطيبة بينما أنا وآخرون نحافظ على الهدوء في البلاد لكي تتمكن أنت من كتابة قصائدك وخطاباتك...» ص258.
سابعا: على الرغم من أنه ينحدر بطريقة غير شرعية عن أب وأم هايتيين، إلا أن تروخيو وفي مهماته الأولى أباد العديد من الهايتيين المقيمين في الدومنيكان وعلى أطرافها، لكنه في المقابل كان يحتقر معاونيه الذين يجلونه على الرغم من أنه ينحدر من أصول عبيد! هذه المفارقة علامة ينبغي الاهتمام بها في شخصيات هؤلاء الطغاة بلا شك!
ثامنا: الاهتمام بالطقوس والتقاليد من تطبيقاتها في أصغر أمور الحياة اليومية، وصولا للمراسم العامة مثل الاحتفال بالمناسبات الوطنية التي يكون مركزها الديكتاتور نفسه، والصرف عليها حتى في ظل الأزمات ويتضح ذلك في كل الرواية تقريبا منذ فصولها الأولى، في الطريقة التي يهندم بها الديكتاتور نفسه ويمليها على معاونيه وصولا للبيروقراطية في التعامل مع التحديات التي تواجهها مؤسسات الدولة.
وبالحديث عن الطقوس والمراسم والتقاليد التي تهتم بها الأنظمة السياسية بصورة كبيرة وعلى قدر عالٍ من الصرامة، لا بد من العودة إلى كتاب «اختراع التقاليد» دراسة في نشأة التقاليد ودوافعها وتطوراتها والذي حرره كل من ايريك هوبزباوم، وتيرينس رينجر، ويذهب في فصوله الأولى للتمييز بين العادة والتقاليد فالتقليد هو «مجموعة من الممارسات تحكمها قواعد ذات طابع طقسي أو رمزي وتكون هذه القواعد مقبولة علنيا أو ضمنيا، وتسعى إلى غرس قيم معايير سلوكية معينة من خلال التكرار». ولعل التشبيه الأهم للتقليد والفرق بينه وبين العادة في أن الثانية هي ما يفعله القضاة، في حين أن التقليد هو الشعر المستعار والرداء الذي يرتدونه ومعداتهم وممارساتهم الشعائرية.
وبطبيعة الحال فإن هذه التقاليد تسعى لإضفاء الطابع الرسمي والشرعي للمؤسسة ومن أنواعها التي تطرق إليها الكتاب تلك التقاليد التي تنشئ أوضاعا أو علاقات معينة مع السلطة. ويشير الكتاب إلى أهمية هذه التقاليد وما يتقاطع منها مع مقالتي هذه هي التوكيد على قدرة هذه الطقوس على تطوير روح العمل الجماعي والثقة بالنفس لدى النخب وعادة ما يتم ذلك بين أوساط المسؤولين الكبار وهو ما انتهج بالفعل بين البيض في المستعمرات مثلا. من المهم بمكان أن يدرس المؤرخون التقاليد الوضعية ذلك أنها تعد بمثابة دليل على المشاكل والتحديات التي عاشتها المجتمعات، خصوصا أن دراستها سيتطلب دمجها مع دراسات أوسع نطاقا وتخصصات إنسانية مختلفة مما يعني أنها دراسة عن المجتمع كافة. ولعل الفصل الرابع في الكتاب «سياق الطقوس وأداؤها ومغزاها - النظام الملكي البريطاني واختراع التقاليد بين عامي 1820- 1977 لديفيد كاناداين مهم للإضاءة أكثر حول هذا الموضوع. فقد حاول الباحث وضع الطقوس الملكية في سياقات تاريخية لاكتشاف معناها لأنها وعلى حد تعبيره تشبه الأعمال الفنية أو النظرية السياسية لا يمكن تفسيرها في ضوء بنائها الداخلي فحسب. وبهذا فهو يحلل حضور المراسم الطقسية لدى بريطانيا في فترات زمنية تباين فيها تناول هذه التقاليد أو الاهتمام بها وحتى دوافعها. ويستفيض في الإشارة لمناخ التنافس الدولي فيما يتعلق بإظهار العظمة والكبرياء، من خلال محاولة بريطانيا ودول أوروبا الأخرى الاستعراض العام للعظمة الملكية في مراسمها الرسمية. وصولا إلى التاريخ الحديث الذي اعتبرت فيه هذه المراسم نجاحا في محاولة تحديث المؤسسات القديمة مع تجنب التخلص التام من عبير الماضي، وهذا ما يختلف معه الباحث أصلا، إذ إن الادعاء بأن هذه التقاليد العتيقة سمة تكرسها الأنظمة السياسية على الرغم من أن الدلائل التاريخية تقول شيئا آخر. وهنالك بالتأكيد أسباب كثيرة لإقبال تزايد الناس على هذه الطقوس لأنها تجسد السحر الرومانسي في وقت يصعد فيه الإنسان للقمر، كما أنها فرصة ممكنة للهروب من رتابة الواقع. لكن الأهم من ذلك أن في ظل التغييرات الهائلة التي يمر بها عالمنا اليوم إلا أن الدولة ما زالت قادرة على الحفاظ على دورها الرسمي، ضمانا للأمن والاستقرار والتواصل والحفاظ على القيم التقليدية أي «يعني وجودها السلامة والاستقرار، واستمرار الكرامة الوطنية».
تنبهتُ للوثائقي على نتفلكس والمعنون بـ«كيف تصبح طاغية» والذي يقع في ست حلقات وهأنذا أشرع في مشاهدته بعد إنهاء هذه الكتابة.