ما الكتاب الذي ....
الثلاثاء / 21 / شعبان / 1444 هـ - 19:57 - الثلاثاء 14 مارس 2023 19:57
توطئة..
كتب نيتشه: «وحدها الأفكار التي تخطر على بالنا ونحن نمشي، هي التي لها قيمة»
عنوان المقالة هو بضع أسئلة تحفيزية طرحها الزميل هاشم الجحدلي على حسابه في تويتر. وهي أسئلة عامة لكنها تصبّ في اشتغالات الإنسان القارئ على نحو من الأنحاء. فضلتُ الردّ بمقالة لأنّ إعداد قائمة بالكتب التي قرأتها وغيَّرتني، أو كتب حلمْت باقتنائها أو كتب أخرى ندمتُ على فقدانها ليست كثيرة جدا، ويتدخّل في هذا الحكم وتوجيهه عامل السِّن والخبرة والاختصاص والزمن؛ فالمرء الذي يعتاد شهريا أو سنويا القيام بتصنيف كتبه في مكتبته الخاصة، ويعلم لمَن أعار رواية (عالم بلا خرائط) مثلا، ومَن لم يُعِره مخطوط (كتاب العربية نظام البنية الصَّرفيَّة تأليف الدكتور محمود السمرة والدكتور نهاد الموسى-1985م رحمهما الله تعالى) لا شك أنه قد تعلّم أحد دروس الثلاثمائة سنة الأخيرة كيّ لا يبقى في العتمة التاريخية. إنّنا نتعلّم مع التعوّد، ونعتاد على ما تدرّبنا عليه. كان أستاذي الدكتور جاسر أبو صفية في الجامعة الأردنية، يمتلك دفترا أزرق اللون طويلا، وكنت إذا دخلت مكتبه في الساعة المكتبية أراه يتناول الدفتر فيسجّل فيه اسما لطالبة أو طالب أو صديق، وكنتُ إذا أبديت استغرابي كان يبتسم معلّقًا: «كتبي التي أسستني غالية عليَّ، وعلينا أن ننظم مكتبتنا، وكلّ من أعيره كتابا عليه أن يُعيده فلا يحتكر أحد الكتاب لنفسه»، وكانت علاقة أستاذي مع كتبه تقليدًا قلّدته فيه بعدما فقدتُ الكثير من الكتب التي أعرتها لآخرين! لم أفكّر حينها بسؤاله عما هو الكتاب الذي وددت تأليفه؛ لأن العيش في مغامرة القراءة قبل التأسيس لها عذوبتها وجمالياتها. إن إحدى إيجابيات القراءة ومعايشة الكتب والتحدث معها والإنصات إليها مع مرور الزّمن يكمن في التدرّب على اليقظة والحرص وإغلاق باب المجاملة.
ما هو الكتاب الذي تمنيت أن تكون مؤلفه؟
إن مقولات أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ حول الكلام والحروف والكتاب بصفة عامة معروفة؛ وربّما تصلح لتكون أحد مداخل إجابة هذا السؤال: ما هو الكتاب الذي تمنّيت أن أكون مؤلفته. لأن فكرة التأليف تمر بمراحل أولها الموهبة وآخرها التسويق. يقول الجاحظ حول اللفظ والمعنى مقولته الشهيرة: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميّ والعربيّ والبدويّ والقرويّ، وإنّما الشَّأن في إقامة الوزن وتمييز اللفظ وسهولته، وسهولة المخَرج وفي صَحة الطبع وجوّدة السَّبك». فإذا كان هكذا حال المعاني؛ ملقاة ومرمية يمكن أن يلتقطها أيّ صياد، فإنّ مفهوم الكتاب الذي يتمنّى المرء أن يؤلفه، عليه الإتيان فيه بشيء جديد، والتفكّر والتدبّر للخروج بصيغ ومعانٍ مبتكرة غير تقليدية وغير مستقرة. هذا ما يجعل على سبيل المثال إحساسنا أن رواية تدور حول ألم الحبّ والفراق أكثر مقروئية من رواية أخرى تتكلم في الموضوع ذاته، وذلك ينطبق على كثير من المعاني الملقاة على الطريق، ولتقريب الشاهد مثلا يمكن التمثيل بعلاقة الأدب مع السينما. كمٌّ هائل من الروايات جرى تقديمها في السينما أحدثَ بعضها شرخا في عاطفة التلقي؛ لأنّ ما تقوله الرواية كعالم سردي قوامه الكلمات والفراغات والتأويل، على عكس ما يقدمه عالم السينما من صور وابتكار في التقنيّات، والمثال الذي يحضرني الآن رواية العطّر-1985م لمؤلفها الألماني باتريك زوسكيند، التي لم تكن بمستوى عالم الرواية والتخييل السردي المُذهل.
عطفًا على الجاحظ فقد نُسب إليه قوله حول القيمة المعنويّة التي يمكن أن ينثرها الكتاب كشكل من أشكال التعزية في الحياة، هذا البيت من الشّعر التعليميّ والوعظيّ:
أوفى صديق إن خلوت كتابي
ألهو به إن خانني أصحابي
لا مفشيًا سرًا إذا أودعته
وأفوز منه بحكمة صوابِ
ويتقطَّر من الأبيات السابقة كألفاظ معانٍ تدور حول الوفاء والخيانة، واللهو وإفشاء الأسرار لا حفظها، وهي كما نرى من محفّزات تركيبة العلاقات الصّعبة بين البشر وقُطبا الحياة وتحولاتها وانتقالاتها المحصورة بين الولادة ثم الموت. فإذا تأملنا السؤال مرات ومرات، وتخيّلنا المؤلِّف نفسه قد جلس إلى مكتبه لكتابة كتاب تمنّى تأليفه، فما الكتاب الذي سيختار؟ وما المعايير التي سيبني عليها اختياره؟ ولنفترض أنّ مؤلفا آخر أراد أن يُعيد صياغة نصًّا أدبيًّا لشكسبير أو إبسن أو يوسف إدريس حول مفاهيم (الوفاء والخيانة واللهو والاتزان والكذب والصدق) فما المسرحية التي سيختارها له ويشق طريقه إلى شخصياتها المليئة بالتعقيدات؟ وأيّ خطوات سيتّبع في تكوين الصراع؟ وأيّ بنية ستروق له؟ وأيّ شخصية سينتخب؟ وبأيّها سيضحي فيرميها في الطريق؟
على نحو شخصيِّ، هناك الكثير من الكتب التي لم أتمنَّ أنّ أُؤَلفها؛ لأنّ أصحابها تجشّموا عناءها وقاموا بذلك مشكورين، لكنّ الكتب التي تمنّيت أن أعيش في زمنّها أو أنتقل بين حيوات شخصياتها، لا تُعدّ ولا تحصى؛ بداية من الأساطير (ق.م) وصولا إلى زمننا. وهذه الرغبةُ تقتربُ نسبيا من سؤال هاشم الجحدلي الأخير: «ما هو الكتاب الذي ترشحه للجميع كي يقرؤونه؟».
حتى هذا السؤال يوقعنا في فخاخ كثيرة. عدتُ إلى محرك البحث جوجل وتفسّحت بين هذه العناوين: أكثر الكتب تأثيرا وقراءة ومبيعا، فوجدت عنوانا في موقع يُدعى (مقالات منصة القارئ العربي www.mklat.com) يعدّد هذه الكتب على هذا النحو: (أكثر عشرة كتب تأثيرا في تاريخ البشرية) مع تقديم سرد تعريفي مختصر لكلِّ كتاب، والكتب هي: «الأمير لنيكولو دي مكيافيللي، المبادئ لإسحاق نيوتن، النسبية لألبرت أينشتاين، أصّل الأنواع لتشارلز داروين، كفاحي لأدولف هتلر، ثروة الأمم لآدم سميث، رأس المال لكارل ماركس، المقدّمة لعبدالرحمن بن خلدون، تفسير الأحلام لسيجموند فرويد، ودورة الأفلاك السماوية لكوبر نيكوس» وما أكثرها عناوين المواقع والمنصّات التي تسوّق للكتب من مختلف الاتجاهات ولجميع المستويات. فهل تنجح مهمة الترشيح، بدأت ألمس تعقُّد المهمة، وتحديد الكتاب الذي سأنصح بقراءته من غير القائمة السابقة.
إن فخّ السؤال سيمنح لكل قارئ فرصة للتدليل على فعل القيام بمهمة «ترشيح كتاب» وعلى صعوبتها معًا لكن لا ضير من ذلك. لأنّ ما سيتحكم في توجيه الأمر عناصر متعددة كالصداقة العميقة بين شخصين مثلا ينتميان إلى تيارين مختلفين أحدهما يساريّ والآخر يمينيّ، أو لا عقيدة له، أو يتحكم فيها وجود التخصص، فطالب في المسرح يسهل أن تُرشح له مسرحية إغريقية من جيل المؤسسين إن كان يتناول ثيمة القهر والانتقام في نماذج من المسرح الإغريقي، وهكذا... إلخ. من بين المواقف الطريفة حول قيمة الكتاب المُرشح للقراءة، وهذه مسألة نسبية أيضًا وشخصيّة جدا، ما حدث معي عندما وضعت على my states بالهاتف غلاف كتاب (السماح بالرحيل الطريق نحو التسليم) فجاءت أغلب التعليقات حول سؤال واحد: هل تنصحين بقراءة هذا الكتاب؟ وما رأيك فيه؟
في مكتبة (الطليعة العلمية) بعمّان لصاحبها أحمد حسن -رحمه الله- أقدم بائع صحف وكتب 1949- حيث أفضِّل التسكّع والاستمتاع بحوارات الناس في الشارع في وسط البلد يُعلّق سامي أحمد حسن لائحة بأكثر الكتب مبيعًا عنده في مكتبته، ويضع تصنيفًا للكتب يبدأ بمؤلفات محمد شحرور، أبو محمد بن قرناس، جورج طرابيشي، محمد عابد الجابري، محمد أركون، الصادق النيهوم، خزعل الماجدي، فاضل الربيعي، سيد القمنّي، وهشام جعيّط، وتلاهم في التصنيف سيرة المكان لإدوارد سعيد، فالروايات الخلافية العربية والمترجمة، ثم الروايات العربية الفائزة بجائزة البوكر تصاعديا.
الفكرة سخيّة وكريمة مما يجعلها موجهةً بشكل ما لترشيح نموذج ما. لن تعود مسألة ترشيح كتاب يَنصح قارئ ما قارئا آخر بقراءته خاضعة للحالة النفسية وحدها، أو المزاج الشخصيّ وحده أو الكتب الأكثر مبيعًا، بل ستتدخل فيها أفكار عكسية لأفكار وأعمال وسياسيات الحرب الباردة الثقافيّة -هناك كتاب بهذا العنوان- فعالمنا اليوم يسير في طريق منفتح على الحداثة والعولمة، آخذة فيه وسائط التواصل الافتراضي القيام بتدعيم مراكز القراءة عبر شبكة النت، وتطوير الأفكار حول الحرية المُطلقة في كّل شيء، وحول الديمقراطية، وحول الثقافات المحليّة، ليكتسب القارئ أنماطا جديدة حول القراءة أو التأليف متحررة من القواعد المتعارف عليها. فهل ما زلت أفكّر في هذا السؤال: ما هو الكتاب الذي أردت تأليفه؟
كتب نيتشه: «وحدها الأفكار التي تخطر على بالنا ونحن نمشي، هي التي لها قيمة»
عنوان المقالة هو بضع أسئلة تحفيزية طرحها الزميل هاشم الجحدلي على حسابه في تويتر. وهي أسئلة عامة لكنها تصبّ في اشتغالات الإنسان القارئ على نحو من الأنحاء. فضلتُ الردّ بمقالة لأنّ إعداد قائمة بالكتب التي قرأتها وغيَّرتني، أو كتب حلمْت باقتنائها أو كتب أخرى ندمتُ على فقدانها ليست كثيرة جدا، ويتدخّل في هذا الحكم وتوجيهه عامل السِّن والخبرة والاختصاص والزمن؛ فالمرء الذي يعتاد شهريا أو سنويا القيام بتصنيف كتبه في مكتبته الخاصة، ويعلم لمَن أعار رواية (عالم بلا خرائط) مثلا، ومَن لم يُعِره مخطوط (كتاب العربية نظام البنية الصَّرفيَّة تأليف الدكتور محمود السمرة والدكتور نهاد الموسى-1985م رحمهما الله تعالى) لا شك أنه قد تعلّم أحد دروس الثلاثمائة سنة الأخيرة كيّ لا يبقى في العتمة التاريخية. إنّنا نتعلّم مع التعوّد، ونعتاد على ما تدرّبنا عليه. كان أستاذي الدكتور جاسر أبو صفية في الجامعة الأردنية، يمتلك دفترا أزرق اللون طويلا، وكنت إذا دخلت مكتبه في الساعة المكتبية أراه يتناول الدفتر فيسجّل فيه اسما لطالبة أو طالب أو صديق، وكنتُ إذا أبديت استغرابي كان يبتسم معلّقًا: «كتبي التي أسستني غالية عليَّ، وعلينا أن ننظم مكتبتنا، وكلّ من أعيره كتابا عليه أن يُعيده فلا يحتكر أحد الكتاب لنفسه»، وكانت علاقة أستاذي مع كتبه تقليدًا قلّدته فيه بعدما فقدتُ الكثير من الكتب التي أعرتها لآخرين! لم أفكّر حينها بسؤاله عما هو الكتاب الذي وددت تأليفه؛ لأن العيش في مغامرة القراءة قبل التأسيس لها عذوبتها وجمالياتها. إن إحدى إيجابيات القراءة ومعايشة الكتب والتحدث معها والإنصات إليها مع مرور الزّمن يكمن في التدرّب على اليقظة والحرص وإغلاق باب المجاملة.
ما هو الكتاب الذي تمنيت أن تكون مؤلفه؟
إن مقولات أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ حول الكلام والحروف والكتاب بصفة عامة معروفة؛ وربّما تصلح لتكون أحد مداخل إجابة هذا السؤال: ما هو الكتاب الذي تمنّيت أن أكون مؤلفته. لأن فكرة التأليف تمر بمراحل أولها الموهبة وآخرها التسويق. يقول الجاحظ حول اللفظ والمعنى مقولته الشهيرة: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميّ والعربيّ والبدويّ والقرويّ، وإنّما الشَّأن في إقامة الوزن وتمييز اللفظ وسهولته، وسهولة المخَرج وفي صَحة الطبع وجوّدة السَّبك». فإذا كان هكذا حال المعاني؛ ملقاة ومرمية يمكن أن يلتقطها أيّ صياد، فإنّ مفهوم الكتاب الذي يتمنّى المرء أن يؤلفه، عليه الإتيان فيه بشيء جديد، والتفكّر والتدبّر للخروج بصيغ ومعانٍ مبتكرة غير تقليدية وغير مستقرة. هذا ما يجعل على سبيل المثال إحساسنا أن رواية تدور حول ألم الحبّ والفراق أكثر مقروئية من رواية أخرى تتكلم في الموضوع ذاته، وذلك ينطبق على كثير من المعاني الملقاة على الطريق، ولتقريب الشاهد مثلا يمكن التمثيل بعلاقة الأدب مع السينما. كمٌّ هائل من الروايات جرى تقديمها في السينما أحدثَ بعضها شرخا في عاطفة التلقي؛ لأنّ ما تقوله الرواية كعالم سردي قوامه الكلمات والفراغات والتأويل، على عكس ما يقدمه عالم السينما من صور وابتكار في التقنيّات، والمثال الذي يحضرني الآن رواية العطّر-1985م لمؤلفها الألماني باتريك زوسكيند، التي لم تكن بمستوى عالم الرواية والتخييل السردي المُذهل.
عطفًا على الجاحظ فقد نُسب إليه قوله حول القيمة المعنويّة التي يمكن أن ينثرها الكتاب كشكل من أشكال التعزية في الحياة، هذا البيت من الشّعر التعليميّ والوعظيّ:
أوفى صديق إن خلوت كتابي
ألهو به إن خانني أصحابي
لا مفشيًا سرًا إذا أودعته
وأفوز منه بحكمة صوابِ
ويتقطَّر من الأبيات السابقة كألفاظ معانٍ تدور حول الوفاء والخيانة، واللهو وإفشاء الأسرار لا حفظها، وهي كما نرى من محفّزات تركيبة العلاقات الصّعبة بين البشر وقُطبا الحياة وتحولاتها وانتقالاتها المحصورة بين الولادة ثم الموت. فإذا تأملنا السؤال مرات ومرات، وتخيّلنا المؤلِّف نفسه قد جلس إلى مكتبه لكتابة كتاب تمنّى تأليفه، فما الكتاب الذي سيختار؟ وما المعايير التي سيبني عليها اختياره؟ ولنفترض أنّ مؤلفا آخر أراد أن يُعيد صياغة نصًّا أدبيًّا لشكسبير أو إبسن أو يوسف إدريس حول مفاهيم (الوفاء والخيانة واللهو والاتزان والكذب والصدق) فما المسرحية التي سيختارها له ويشق طريقه إلى شخصياتها المليئة بالتعقيدات؟ وأيّ خطوات سيتّبع في تكوين الصراع؟ وأيّ بنية ستروق له؟ وأيّ شخصية سينتخب؟ وبأيّها سيضحي فيرميها في الطريق؟
على نحو شخصيِّ، هناك الكثير من الكتب التي لم أتمنَّ أنّ أُؤَلفها؛ لأنّ أصحابها تجشّموا عناءها وقاموا بذلك مشكورين، لكنّ الكتب التي تمنّيت أن أعيش في زمنّها أو أنتقل بين حيوات شخصياتها، لا تُعدّ ولا تحصى؛ بداية من الأساطير (ق.م) وصولا إلى زمننا. وهذه الرغبةُ تقتربُ نسبيا من سؤال هاشم الجحدلي الأخير: «ما هو الكتاب الذي ترشحه للجميع كي يقرؤونه؟».
حتى هذا السؤال يوقعنا في فخاخ كثيرة. عدتُ إلى محرك البحث جوجل وتفسّحت بين هذه العناوين: أكثر الكتب تأثيرا وقراءة ومبيعا، فوجدت عنوانا في موقع يُدعى (مقالات منصة القارئ العربي www.mklat.com) يعدّد هذه الكتب على هذا النحو: (أكثر عشرة كتب تأثيرا في تاريخ البشرية) مع تقديم سرد تعريفي مختصر لكلِّ كتاب، والكتب هي: «الأمير لنيكولو دي مكيافيللي، المبادئ لإسحاق نيوتن، النسبية لألبرت أينشتاين، أصّل الأنواع لتشارلز داروين، كفاحي لأدولف هتلر، ثروة الأمم لآدم سميث، رأس المال لكارل ماركس، المقدّمة لعبدالرحمن بن خلدون، تفسير الأحلام لسيجموند فرويد، ودورة الأفلاك السماوية لكوبر نيكوس» وما أكثرها عناوين المواقع والمنصّات التي تسوّق للكتب من مختلف الاتجاهات ولجميع المستويات. فهل تنجح مهمة الترشيح، بدأت ألمس تعقُّد المهمة، وتحديد الكتاب الذي سأنصح بقراءته من غير القائمة السابقة.
إن فخّ السؤال سيمنح لكل قارئ فرصة للتدليل على فعل القيام بمهمة «ترشيح كتاب» وعلى صعوبتها معًا لكن لا ضير من ذلك. لأنّ ما سيتحكم في توجيه الأمر عناصر متعددة كالصداقة العميقة بين شخصين مثلا ينتميان إلى تيارين مختلفين أحدهما يساريّ والآخر يمينيّ، أو لا عقيدة له، أو يتحكم فيها وجود التخصص، فطالب في المسرح يسهل أن تُرشح له مسرحية إغريقية من جيل المؤسسين إن كان يتناول ثيمة القهر والانتقام في نماذج من المسرح الإغريقي، وهكذا... إلخ. من بين المواقف الطريفة حول قيمة الكتاب المُرشح للقراءة، وهذه مسألة نسبية أيضًا وشخصيّة جدا، ما حدث معي عندما وضعت على my states بالهاتف غلاف كتاب (السماح بالرحيل الطريق نحو التسليم) فجاءت أغلب التعليقات حول سؤال واحد: هل تنصحين بقراءة هذا الكتاب؟ وما رأيك فيه؟
في مكتبة (الطليعة العلمية) بعمّان لصاحبها أحمد حسن -رحمه الله- أقدم بائع صحف وكتب 1949- حيث أفضِّل التسكّع والاستمتاع بحوارات الناس في الشارع في وسط البلد يُعلّق سامي أحمد حسن لائحة بأكثر الكتب مبيعًا عنده في مكتبته، ويضع تصنيفًا للكتب يبدأ بمؤلفات محمد شحرور، أبو محمد بن قرناس، جورج طرابيشي، محمد عابد الجابري، محمد أركون، الصادق النيهوم، خزعل الماجدي، فاضل الربيعي، سيد القمنّي، وهشام جعيّط، وتلاهم في التصنيف سيرة المكان لإدوارد سعيد، فالروايات الخلافية العربية والمترجمة، ثم الروايات العربية الفائزة بجائزة البوكر تصاعديا.
الفكرة سخيّة وكريمة مما يجعلها موجهةً بشكل ما لترشيح نموذج ما. لن تعود مسألة ترشيح كتاب يَنصح قارئ ما قارئا آخر بقراءته خاضعة للحالة النفسية وحدها، أو المزاج الشخصيّ وحده أو الكتب الأكثر مبيعًا، بل ستتدخل فيها أفكار عكسية لأفكار وأعمال وسياسيات الحرب الباردة الثقافيّة -هناك كتاب بهذا العنوان- فعالمنا اليوم يسير في طريق منفتح على الحداثة والعولمة، آخذة فيه وسائط التواصل الافتراضي القيام بتدعيم مراكز القراءة عبر شبكة النت، وتطوير الأفكار حول الحرية المُطلقة في كّل شيء، وحول الديمقراطية، وحول الثقافات المحليّة، ليكتسب القارئ أنماطا جديدة حول القراءة أو التأليف متحررة من القواعد المتعارف عليها. فهل ما زلت أفكّر في هذا السؤال: ما هو الكتاب الذي أردت تأليفه؟