أعمدة

الربيع بن حبيب.. والدراسة المنهجية المنشودة

 
المجتمع العماني.. كالمجتمعات المسلمة؛ يتوق للتحول إلى غدٍ أفضل دون أن يفقد بوصلته الإسلامية، التي ضبطها الرسول الأكرم بالتنزيل الإلهي والسنة النبوية، والمسافة الزمنية التي تفصلنا عن ذلك المصدر المؤسِّس تزيد على الألف وأربعمائة عام، شهدت أحداثا جساما، وتحولت خلالها البُنية الاجتماعية للمسلمين مرات عديدة. لم تكن عمان فيها غائبة عن هذا المشهد الكبير، فقد شاركت في صناعة أحداثه؛ سيفا وقلما. وحديث القلم هو الأبلغ والأبقى على صفحة الزمن، فقد ظهرت أقلام عمانية أسهمت في رسم ساحة الفكر الإسلامي على طول تاريخه. ويحسب للنادي الثقافي بسلطنة عمان عنايته بهذه الساحة، وبتوجهه هذا لا ينحصر في رؤية منغلقة، بل هو منفتح على اتساع الأفق المعرفي بمختلف أطيافه، ومنها اهتمامه بالإنتاج العلمي للشخصيات العمانية البارزة.

لقد كان لزلزال الربيع العربي؛ التي وصلت هزاته الارتدادية إلى السلطنة باكرا، أثر عميق عليها، فواجهته كذلك مؤسسات الدولة؛ السياسية والثقافية والدينية بردود فعل سريعة، لم تلبث أن تفاعلت مع الحدث، ومنها النادي الثقافي -حينها؛ كنتُ عضوا في إدارته- الذي التفت مباشرة إلى أهمية التأريخ ممثلا في قياداته الفكرية، للإسهام في تخفيف وطأة آثار الربيع العربي، فدشن مشروع دراسة الشخصيات العمانية، فأقام ندوات صدرت في كتب، منها عن: سالم بن حمود السيابي وعبدالله الطائي ومحمد بن علي باعلوي وسعد الدين بن علي الظفاري وجابر بن زيد. وهذا العام يدرس شخصية الربيع بن حبيب الفراهيدي. ففي هذه الأيام (12-14 مارس 2023م)؛ ينعقد المؤتمر الدولي «فكر الإمام الربيع بن حبيب وتجربته الإصلاحية.. رؤية حضارية».

ولضمان نجاح المؤتمر شكّل النادي لجنة علمية من أساتذة متمكنين في الدراسات الإسلامية، معظمهم قدم بحوثا منهجية، أصبحت مراجع في فكر الربيع، خاصة؛ في اشتغاله بعلم الحديث، ومنه «مسند الربيع بن حبيب». وهذا التمكن المنهجي يغري بالنقاش العلمي الحر حول البحوث المقدمة، وهو ما يسعى إليه النادي في برامجه، حيث يحرص على التعمق البحثي والبروز النوعي في دراساته. فقد جاء في برنامج المؤتمر: (تأتي رسالة المؤتمر لتسليط الضوء على فكر الإمام الربيع بن حبيب ونتاجه الفكري ودوره الإصلاحي، وبيان جوانبه العلمية والحضارية، من خلال البحوث والدراسات العلمية التي سوف تقدم في هذا المؤتمر، لتوظيف ذلك الموروث الحضاري في خدمة الإنسان والمجتمع). إذًا؛ الهدف من دراسة فكر الربيع ليس استنساخ التاريخ، ولا التغني به، وإنما «خدمة الإنسان والمجتمع»، وهو ما توصل إليه البحث المنهجي المعاصر، وهو ما ينبغي أن يسير عليه الحقل الأكاديمي.

يقف المؤتمر عند شخصية الربيع وأعماله، التي كثر الجدل حولها بين الباحثين، وهو جدل مطلوب، وينبغي أن يستمر في أفقه المعرفي، لولا أن عكّر عليه التناوش المذهبي الذي اجتاح المنطقة خلال العقود الأخيرة، وقد أدرك منظمو المؤتمر حصول تحولات في الوضع، حيث نشهد انحسارا لذلك التناوش، مما يجعل للمؤتمر تطلعا في تقديم رؤية لـ«ما بعد المذهبية»، مع الأمل بأن تسهم أعماله في رسم خريطة مستقبلية لحراك الفكر الإسلامي، ليس في عمان فحسب، وإنما في العالم الإسلامي. جاء في تحديد «إشكالية المؤتمر» ببرنامجه: (لقد كان الإمام الربيع بن حبيب شخصية جامعة لعدد من العلوم الشرعية، فقد كان حجة حافظا ومحدثا فقيها، ويعد «مسنده» من أوائل ما ألّف في الحديث الشريف، وترك آثارا وفقها منقولا واسعا تناقلته المصادر من بعده، ولا يزال فكره يمثّل معينا خصبا ومجالا واسعا للباحثين والدارسين، لتسليط مزيد من الضوء على إرثه العلمي والحضاري والإصلاحي، في دراسات علمية منهجية). إن «الدراسات العلمية المنهجية» هي روح كل عمل علمي، وهي كذلك التحدي أمامه، فبمقدار تحققها بموضوعية ينجح العمل، ويتحول إلى مرجع لما يلحقه من دراسات، وهو ما نأمله من المؤتمر.

الربيع بن حبيب الفراهيدي.. محدث وفقيه ومتكلم، وداعية سياسي، ومصلح اجتماعي، ولد في عمان، ثم انتقل إلى البصرة وعاش فيها، أشهر تلامذة أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي (ت:~145هـ)، وقد خلفه في قيادة الإباضية، ترك رسائل علمية، وأجوبة فقهية حفظتها كتب الفقه الإباضي، وأشهر كتبه «مسند الربيع بن حبيب»، وبشهرته غطى على بقية أعمال الربيع، وقد توفي حوالي عام 171هـ. لأجل ثراء شخصية الربيع؛ علميا وسياسيا واجتماعيا عمل المؤتمر على تقديم أوراقه في ستة محاور؛ هي: «حياة الإمام الربيع والأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية في عصره» و«الإمام الربيع وإسهامه في حفظ السنة النبوية» و«الإمام الربيع وفكره العقدي والفقهي والأصولي» و«آثار الإمام الربيع ومصادره المعرفية» و«المشروع الإصلاحي والدعوي عند الإمام الربيع.. مشروع أمة» و«فكر الإمام الربيع وتجربته.. رؤية مستقبلية».

الربيع بن حبيب.. لاشتهاره ثلاث مراحل، في المرحلة المتقدمة عرف بكونه سياسيا صاحب دعوة، لقيادته الإباضية وإشرافه على قيام دولهم في المشرق والمغرب. وفي المرحلة الثانية اشتهر فقيها، خاصة؛ مع انتشار «مدونة أبي غانم الخراساني» لبشر بن غانم الخراساني (حي:220هـ)، وأخيرا؛ مع ترتيب أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني (ت:570هـ) «المسند»، اشتهر محدثا، وهذا على غلبة الشهرة؛ وإلا فقد عرف بكلها عموما. وفي كتابي «السياسة بالدين» تحدثت عن العلاقة الجامعة لأعمال الربيع فقلت: (إذا كان أبو عبيدة التميمي عمل على المستوى الحركي [السياسي] بالجمع بين طريقتي المُحَكِّمة وجابر بن زيد، فإن الربيع عمل على المستوى المعرفي بالجمع بين منهجي المُحَكِّمة الأوائل الحذِر من «التنصيص السياسي»، وبين منهج جابر الذي اشتغل بالروايات والفقه، رغم أن كلا المنهجين لهما هدف واحد، وهو العودة إلى مشروع الأمة). وهذا يلخص العلاقة بين التفكير الديني والفعل السياسي في نشأة الإباضية، مما يستلزم أن تعالجه الدراسات المعاصرة، فهذه العلاقة هي مثار إشكال عميق في عالمنا الإسلامي، وقد أدارت الإباضية عبر تأريخها المجتمعات التي سادت فيها؛ سواء على مستوى الدولة؛ في عمان.. بكونها نموذجا عربيا مسلما خالصا، أو في شرق إفريقيا.. بكونها مجتمعا انصهرت فيه عدة أعراق باختلاف أديانه ومذاهبه وثقافاته. أو على مستوى المجتمع غير العربي «الأمازيغي» المستقل وعلاقته بالمجتمع العربي كما في الشمال الإفريقي.

إن دراسة هذه العلاقات، لاسيما؛ في النشأة الأولى للإباضية، ومنها دور الربيع بين حبيب فيها، ستقدم إضاءة كاشفة لجوانب مما يعاني منه عالمنا العربي من اضطراب سياسي، وارتباك في العلاقة بين الدين والسياسة. وهو ما أرجو أن ينال حظه من النقاش العلمي خلال المؤتمر.

لقد نشرتُ في جريدة «عمان» بتاريخ: 3/ 1/ 2022م مقالا بعنوان «مسند الربيع بن حبيب.. من علم الرواية إلى الفلولوجيا»، جاء فيه: (إن الدراسات التي أدعو إلى إقامتها على «مسند الربيع» ترتكز على كونه نصا دينيا ذا بُعد تأريخي واجتماعي، يحتاج إلى أدوات تحليل أوسع من الأساليب الكلاسيكية، فهو نص رصد جانبا من تفاعلات الاجتماع الإسلامي. فالنصوص الدينية ثرية، لا ينبغي حصرها في مجال بعينه، ولا التوجس خيفة من النتائج التي قد تتعارض مع مسارنا التاريخي). وبحسب اطلاعي على ملخصات أوراق المؤتمر؛ هناك ستون بحثا ستقرأ فكر الربيع بن حبيب، بعضها يصب في قضايا معاصرة، من مثل: السلوك والبُعد النفسي، والدلالات اللغوية بحسب المناهج الحديثة، والجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، لكن تظل البحوث التقليدية -وهي أيضا مهمة وتأسيسية- سائدة على الأوراق المقدمة، بيد أن في المؤتمرات العلمية لوجود علماء من تخصصات مختلفة ومشارب متنوعة، يعوّل كثيرا على الجدل العلمي، مما يضيف إلى حقل البحث الديناميكية المتجددة، ويرصد التحولات في المناهج العلمية، وهو ما نرجوه في هذا المؤتمر الدولي الكبير.