أفكار وآراء

مآلات التغير في بعدي التنمية «الاجتماعي والاقتصادي»

تشكل مجموعة التغيرات في الجانبين: الاجتماعي والاقتصادي؛ مؤشرات مهمة في برنامج التنمية؛ لكونهما عاملين مهمين تقوم عليهما التنمية ذاتها، كما أنهما يمثلان مؤشرين مهمين لمقياس التطور والتخلف في أي مجتمع، فلا يكفي للتنمية أن يكون لها مظاهر احتفالية متمثلة في شوارع فسيحة، وبنايات ضخمة، وسيارات فارهة؛ فهذه - وإن عبرت عن صور للتنمية - فإنها لن تخرج عن كونها مظاهر، بينما تظل التنمية الحقيقية مرتبطة ارتباطا محوريا بمدى السلوك الحقيقي للأفراد في المجتمع، ومآلاته المختلفة في مشروعي: التغير الاجتماعي، والتغير الاقتصادي، وكلاهما يعزز دور وتأثير الآخر، وقد ينظر إلى التغير الاجتماعي على أنه الأولى لأن يقود التغير الاقتصادي، وهناك من يرى العكس، فقد يقوم التغير الاجتماعي على الكفاف، ولكنه يكون قابلا للنمو والتحقق، وبدوره يدفع بالتغير الاقتصادي إلى النمو والتحقق من خلال مجموعة من البناءات المعرفية التي تحقن الأفراد فتحدث فيهم مجموعة من التغيرات الذهنية فتعزز مستوى الوعي، فينعكس ذلك على الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية، والشعور الوطني بأهمية القوى العاملة الوطنية، والعمل على تنظيم السوق؛ بكافة عناوينه العريضة، والحرص على عدم جعله ساحة منازعات ومناوشات، يخيم عليها مبدأ الربح والخسارة فقط، وإلا لوقع الضرر الكبير على الجميع.

وعندما يشار هنا؛ في هذه المناقشة؛ إلى دور التغير الاجتماعي؛ فإن الحديث يذهب إلى معززات هذا التغير، ويأتي في مقدمة هذه المعززات الشيوع المطلق للمعرفة، بما فيها المعرفة المتخصصة في مختلف المجالات، وتشجيع عمليات الابتكار والإبداع، والنظر بعين الأمين إلى أهمية الدور الذي يقوم به الفرد المبدع في المجتمع، وتهيئة كل الوسائل الذاهبة إلى ترقيته المعرفية، وإيجاد مكانته وتقدير دوره الإبداعي، بما يكفل للوطن الاستغناء التام بقوة عمالته الوطنية عن الآخر؛ إلا في استثناءات محدودة جدا؛ ولفترة مؤقتة في حالات الضرورة، حيث ينظر إلى التغير الاجتماعي على أنه العمود الفقري الذي تقوم عليه مجمل التغيرات الأخرى في مشروعات التنمية في أبعادها الأخرى: السياسية، والثقافية، والاقتصادية، فالإنسان هو الركيزة الأساسية الذي تقوم عليه الأوطان في جميع مناخاتها التنموية والإنسانية سواء بسواء، ولذلك يظل الحرص دائما على أن تبقى العلاقة بين الوطن وأبنائه علاقة تكامل وتوافق ومساندة، ولا يخالج أي أحد التفكير على أن هناك علاقة صدامية بين الطرفين مهما كانت الظروف والأسباب، وإذا قدر للأوطان أن تعيش تحديات الاستمرار والبقاء على هذه العلاقة المقدسة بين الطرفين، فلا بد البحث عن ذلك، ومعالجة الخطأ؛ لأن إهمال الخطأ في حالة اكتشافه وعدم الاهتمام به يؤدي إلى الخطيئة، وهذه أكبر جريمة ترتكب في حق الأوطان، ولا يجهلها عاقل، والخطايا لا يجب أن تعمر في العلاقة بين الوطن وأبنائه، أما مناخات الخطأ فهي واردة، ولذلك فالتغير الاجتماعي لا يعد من الخطأ في برنامج التنمية، وإنما هو فارض نفسه بحكم حالات التفاعل بين الشعوب، وانعكاسا لمستوى فهم الآخر، والاستفادة منه في مختلف المجالات، ولا يجب أن يشكل التغير الاجتماعي حالة مستنفرة، بقدر ما ينظر إليه على أنه جزء من الظاهرة الاجتماعية التي تعيشها كل الشعوب بلا استثناء.

تحل العدالة الاجتماعية؛ كأهم معزز في التغير الاجتماعي؛ وهي جانب كمي متغير؛ لأنها جزء من هذا التغير، وهذه العدالة تقف على كفتي ميزان التنمية؛ كفة تحققها مجموعة النظم والقوانين المعبرة عن كل فترة زمنية فارضة نفسها بحكم التطور والتغير الذي يعيشه المجتمع، وكفة أخرى تحققها مدى الإيمان المترسخ في نفوس الأفراد بأهمية أن يكون هناك قانون ونظم من شأنها أن تحقق العدالة بين أبناء المجتمع، وبالتالي يرتقي هذا الإيمان إلى أن يكون عقيدة لا يمكن التنازل عنها مهما كانت المواقف صعبة، ولا يجب أن يفسر الإيمان بالقوانين والنظم على أنه وفق مفهوم «لي الذراع» تتعمده المؤسسة الرسمية، إطلاقا، أو يوظف بهذه الطريقة الفجة، أبدا، فالأوطان لا تمارس «لي الذراع على أبنائها» وإنما هناك «دَيْنٌ مستحق» غير منكور، وإنما يفسر على أن القوانين والنظم وضعت لكي تسهل مختلف العلاقات القائمة بين الأفراد أنفسهم، وبين الأفراد ومعززات الوطن وهيبته الكريمة؛ من جانب آخر، وهو الجانب المهم؛ بلا منازع؛ ومتى اطمأن الفرد إلى هذه العلاقة بين الطرفين، أقبل على المهام والمسؤوليات الملقاة على عاتقه؛ بكونه واحدا من أفراد الوطن؛ إقبالا آمنا مطمئنا، واثقا بأنه لن يضار في أي شأن من شؤون حياته اليومية؛ الخاصة والعامة على حد سواء.

وفي جانب مهم في مفهوم التغير الاجتماعي تأتي التنمية السياسية لتعزز سابقتها «العدالة الاجتماعية» فالعلاقة بين هذين المرتكزين؛ علاقة تكامل وتآزر أيضا، وإن نظر إلى التنمية السياسية على أنها الأشمل، فهي ضمن المتغير، وذلك فبقدر تقاطعاتها المختلفة مع معززات التغير الاجتماعي، إلا أنها تتجاوز إلى الأبعد من ذلك، حيث علاقات الدولة مع الخارج، وهو الأمر الذي قد ينعكس سلبا على التغير الاجتماعي، إذا كانت العلاقات غير قائمة على التكافؤ مع الأطراف من خارج البيئة الاجتماعية، وقد ينعكس إيجابا عندما تكون العلاقات مع الآخر؛ علاقات قائمة على التكافؤ والاحترام المتبادل بين مختلف الأطراف، ففي كلا الحالتين يؤثر ذلك على التغير الاجتماعي، أما الجانب الآخر فهو المشاركة السياسية الواسعة، والقدرة على إيجاد توازن مستقر ومستمر بين مكونات المجتمع - ونطلق عليه هنا مجازا «المجتمع السياسي» والمتمثل في: القبلية، والفئوية، والمذهبية والعرقية، والجندرية، بحيث لا يضار طرف من قبل طرف آخر، فالتغير الاجتماعي يقع في درجة حساسية مفرطة، وأي تحرك سواء أكان أفقيا - وهو الجانب المادي الملموس مباشرة - أو عموديا - وهو الجانب المعنوي غير المباشر - يكون مؤشر الـ «بارومتر» للتغير الاجتماعي في حركة قلقلة (نزولا وارتفاعا) لا يهدأ ويكتسب قلقله هذا من الدور المحوري الذي يلعبه بين حاضنة المجتمع الكبير، وقد تتراكم التنمية السياسية من خلال مجموعة من الممارسات التي تحدث في الواقع، وتكتسب مفاهيم إيجابية وسلبية؛ وفقا لمجموعة هذه الممارسات، فالمسألة هنا على درجة كبيرة من الحساسية غير المنظورة؛ لأنها مرتبطة بالإنسان، والإنسان كما هي طبيعته «حمالة أوجه» وكثيرا ما يقع «ضعفاً» في مواقف خاطئة.

يأتي التغير الاقتصادي كحالة أكثرها راهنة؛ كما هو التغير الاجتماعي، إلا أن ما يميز الجانب الاقتصادي هو التغيير، وليس التغير، وذلك أن هذا الجانب قائم على عوامل عدة، من ضمنها: آليات السوق، والقوى العاملة، والاستثمار المنظم، والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية، وتشجيع الابتكار والإبداع (الرعاية الحقيقية للمبدعين) ولأنه بهذا الإحكام، فهو محمي من الحالات المفاجأة الخاضعة للتغير «السريع» ووفقا لأدبيات علم الاجتماع؛ فإن حالة التغيير هي الحالة التي تحتاج إلى فترة زمنية تتحقق فيها أي أنها ليست حالة مفاجأة كما هو مصطلح «التغير» وبالتالي فالفترة الزمنية هذه تتضمن الخطط المدروسة والبرامج، وقبلها الدراسات؛ لأن الخطأ في التنفيذ الاقتصادي خطأ مكلف وباهظ الثمن، وبالتالي فلا بد للمسألة أن تأخذ زمنها المستحق حتى تحقق النتائج المرجوة والمتوقعة، والذي لا يجب أن يغيب عن الأذهان كذلك أن تحدث بعض المفاجآت الاقتصادية، ولكن غالبا من تكون هذه المفاجآت متوقعة، وقد توضع لها حسابات الحدوث، ويبدو أن كلا الأمرين (الاجتماعي والاقتصادي) يخضعان للحالتين (التغير والتغيير)، وكلاهما يحتويان على مجموعة من المتغيرات «الكمية» سواء للأسباب المؤدية إلى التغير، أو للحلول التي توضع للخروج من مأزق التغير؛ للتقليل من التأثيرات السلبية المتوقعة، ولو أخذنا مثالا على أحد صور التغير الاجتماعي؛ وهو ظاهرة «جنوح الأحداث» فسنجد لهذه الظاهرة ثلاثة أركان: الأسباب، والممارسات، والحلول، فالتغير هنا حصل، وتبقى مرحلة التغيير، وهي المرحلة التي عليها دور إنقاذ هذه الفئة من هذه المشكلة، فالعملية هنا برمتها «كمية» ويتداخل فيها أكثر من «متغير» فالأسباب «متغير كمي»، والممارسات «متغير كمي»، والحلول «متغير كمي» وما ينطبق على مثال التغير الاجتماعي، ينطبق على أي مثال للتغير الاقتصادي، مثل التفوق الكمي «العدد» للقوى العاملة الوافدة على القوى العاملة الوطنية، ولكلا الأمرين أمثلة كثيرة.