أفكار وآراء

مستقبل الاتحاد الأوروبي في عالم مضطرب

ترجمة: قاسم مكي-

«قانون الأمم يجب أن يؤسس على اتحاد دول مستقلة» هكذا أرسى الفيلسوف الألماني الكبير ايمانويل كانط (1724-1804) قواعد خطته لسلام «أبدي».

ليس هنالك جزء من العالم تبنى مثاليته بقدر أكبر مما فعلت أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن هل هذا الحلم العظيم ميت الآن؟

حاجج الدبلوماسي البريطاني روبرت كوبر في براعة بقوله: يمكننا تقسيم العالم إلى عالم «ما قبل حديث» ويعني بذلك أجزاءه التي تسود فيها الفوضى، وعالمٍ «حديث» ويقصد به عالم الدول الوطنية، وعالم «ما بعد حديث» ويعني به سعي أوروبا لإيجاد اتحاد دول على نحو ما نادى به كانط.

يقول كوبر: «ما انتهى في عام 1989 لم يكن فقط الحرب الباردة أو حتى (فنيا) الحرب العالمية الثانية، ما انتهى في أوروبا (لكن ربما في أوروبا فقط) كان أنظمة سياسية استمرت لثلاثة عقود. إنها توازن القوى والرغبة العارمة في بناء الإمبراطوريات».

يجب ألا يفاجأ أي أحد له إلمام بتاريخ أوروبا (بصراعاتها وحروبها - المترجم) بالرغبة في طريقة مختلفة لسلوك الدول وارتباطها فيما بينها. في الحقيقة ينبغي أن يكون المرء أبله كي لا يدرك ذلك.

لكن كيف يتكيف هذا الاتحاد الأوروبي المثالي مع عالمنا الجديد الذي تتبدى فيه الرغبة في التوسع الإمبراطوري بشكل مرعب في تخومه؟

كيف يتكيف مع عالم لم يعد يتسم بأي شيء يمكن أن يوصف على نحو مقبول بأنه نظام عالمي «يرتكز على قواعد» بل هو نظام أزمات اقتصادية وجائحات وتفكيك للعولمة وصراع قوى عظمى؟

نظريا قد يحافظ الاتحاد الأوروبي «ما بعد الحديث» على وجوده في هذا العالم الجديد بغرائزه التدميرية المخيفة. لكن حلم ما بعد عام 1989 بنظام عالمي مختلف جدا جعل من اليسير للاتحاد الأوروبي وإلى حد بعيد أن يكون تلك القارة المزدهرة والهادئة التي أرادها.

استغلت الولايات المتحدة الفترة التي صارت فيها القوة العظمى الوحيدة (بعد سقوط الاتحاد السوفييتي - المترجم) لبسط نفوذها العسكري حول العالم. لكن ذلك ليس ما أرادته أوروبا كما ثبت من رد فعلها على الحرب في العراق.

بعض المشاكل التي تواجه الاتحاد الأوروبي مبعثها حقيقة أنه كونفدرالية من عدة دول وليس دولة. صعوبات إدارة الاقتصادات المتباينة داخل الاتحاد النقدي كانت نتيجة حتمية لذلك. والبنك المركزي الأوروبي يلعب دورا سياسيا بالضرورة في الحفاظ على تماسك اقتصاداتها.

مرة أخرى السوق الأوروبية الموحدة ليست متكاملة على نحو تكامل سوق الولايات المتحدة. ويجب تفسير انعدام الدينامية في تقنية المعلومات والاتصالات جزئيا بهذا الواقع. فبعد كل شيء هنالك شركة أوروبية واحدة فقط هي «إيه إس أم أل» التي تنتج معدات صناعة الرقائق من بين أغلى 10 شركات تقنية في العالم.

مثل هذه الصعوبات يرجح أن تتزايد في اقتصاد العالم «القومي» والأكثر تشظيا، فأسواق العالم المفتوحة التي اعتمدت عليها ألمانيا تصبح أقل انفتاحا، وهذا حتما سيكون مكلفا.

إلى ذلك تتجه الولايات المتحدة نحو سياسة صناعية تدخلية وحمائية. بالنسبة للاتحاد الأوروبي يوجد مثل هذا التحول (في السياسة الأمريكية) مشاكل وجودية، والجهود المماثلة في بلدان الاتحاد حتما ستكون قومية أكثر منها أوروبية، وهذا من شأنه أن يهدد السوق الموحدة ويضع البلدان الأعضاء الأكثر موارد في مركز القوة وفرض السيطرة. وستكون ألمانيا في موقف أفضل. في ذات الوقت تكاليف الطاقة الأعلى في أوروبا من الولايات المتحدة تشكل تهديدا لصناعتها الثقيلة.

في الأثناء برز مهددان عظيمان لأمن أوروبا: أحدهما المواجهة مع روسيا التي يخشى العديدون أن الصين قد تدعمها عسكريا عما قريب، وهذا على أي حال جانب واحد فقط من جوانب تقسيم العالم إلى كتل متنافسة مع عواقب لا يمكن تصورها في الأجل الطويل لأية جهة ولكن خصوصا للكتلة التي تريد السلام فوق كل شيء.

التهديد الآخر مصدره البيئة العالمية. ففي حين ظل الاتحاد الأوروبي في الصدارة فيما يتعلق بالسياسة المناخية إلا أن هذه المشكلة لا يمكنه حلها بمفرده. فهو ينتج 9% فقط من الانبعاثات العالمية وليس مسؤولا عن أي ارتفاع في مستوياتها.

إذن كيف يمكن للاتحاد الأوروبي المحرر من العوائق الداخلية التي أوجدتها بريطانيا المهووسة بالسيادة (الوطنية) التعامل مع بيئة عالمية مختلفة عن تلك التي كان يتطلع إليها قبل حوالي ثلاثة عقود؟

عالميا على الاتحاد الأوروبي تحديد ما إذا كان يرغب في أن يكون حليفا أو جسرا أو قوة. طالما ظلت الولايات المتحدة بلدا ديمقراطيا ليبراليا وملتزما تجاه التحالف الغربي سيكون الاتحاد الأوروبي أقرب إليها من القوى العظمى الأخرى. وذلك في هذا العالم يجعلها في الغالب الحليف الخاضع.

دور الجسر يتحقق بشكل طبيعي لكيان ملتزم بفكرة النظام المحكوم بقواعد. لكن السؤال هو كيف يمكن أن يكون الاتحاد الأوروبي جسرا في عالم شديد الانقسام وهو أقوى ارتباطا إلى حد بعيد بأحد الطرفين من الآخر.

البديل الثالث يتمثل في سعي الاتحاد لأن يكون هو في حد ذاته قوة من النوع القديم مع موارد مخصصة للسياسة الخارجية والأمنية تتناسب مع حجمه. لكي يحدث هذا سيحتاج الاتحاد الأوروبي إلى وحدة سياسية ومالية أكثر رسوخا، لكن العوائق أمام ذلك كثيرة جدا بما في ذلك انعدام الثقة المتبادل.

يجب أن تعتمد الإصلاحات الداخلية في جزء كبير منها على الدور الذي يريد الاتحاد الأوروبي أن يلعبه في هذا العالم الجديد. وكلما أراد أن يكون أكثر نشاطا واستقلالا كلما كان من المهم له تقوية فدراليته. لا شك مثل هذا التعزيز للفدرالية سينطوي على مخاطرة بما أنه سيوقظ مشاعر وردود أفعال قومية. كما قد يستحيل الاتفاق بين أعضائه. لكن ربما لن يكون هنالك مهرب من تحقيق قدر من ذلك التعزيز للفدرالية بالنظر إلى الحاجة لموقف أمني أكثر متانة إلى جانب الهشاشة الواضحة في التباين والاختلاف حول منطقة اليورو.

الحلم الكانطي (نسبة إلى الفيلسوف كانط) لم يُثبت قابليته للتصدير. نحن نعيش في عالم يتصف بالفوضى والنزعة القومية وصراع القوى العظمى. إنه ليس ذلك العالم الذي حلم به الاتحاد الأوروبي، لكن إذا رغب قادته في الحفاظ على تجربتهم العظيمة في العلاقات السلمية يجب عليهم تقويته لمواجهة العواصف.

مارتن وولف كبير معلقي الاقتصاد بصحيفة الفاينانشال تايمز.