أعمدة

في اليوم العالمي للمرأة

عبدالله حبيب
 
عبدالله حبيب
«ابني حبيبي»، و«نقترب من الشاطئ»

(1)

شيء واحد فقط ينبغي الشعور به أمام الموت: التقصير في أداء واجبه حين يحضر بالحق.

(2)

لا شيء يعمل بصورة منضبطة وصحيحة (الوقت والموت خاصة).

(3)

أتذكَّر أمِّي غيمة، وكل الغيوم تذهب.

(4)

في هذه الليلة أيضا سوف يفعل الحب ما يفعله بجودة احترافية كاملة دوما: الندم بسبب إخفاق الإصابة بالعمى.

(5)

الموت فكرة رديفة لكل الأبواب (النَّوافذ ستأتي فيما بعد).

(6)

فيما يخص المصاب بِمَرَضَيْ الاكتئاب المزمن الحاد والأرق المزمن الحاد فإن الكتابة ليست حلَّا. إنها مجرد عقار تجريبي (لم تثبت نجاعته لغاية الآن).

(7)

أناديك

إني أناديك

أناديك أنت وحدك يا ابنة آخر أرملة في مجز الصغرى.

(8)

ليس مطلوب من المرء أن يكون شاعرا كبيرا. ليس واجب على المرء أن يكون ثوريَّا هائلا. المرء مطالبٌ بأن يموت بهدوء، وسكينة، وسلام: مضطجعا على ظهره ويداه مكتوفتان على صدره، وعيناه مفتوحتان على المدى لفرط الإصابة بالأحلام، والخذلان، والنسيان.(9)

لستُ سعيدا (لكني أحب أجنحة الطيور).

(10)

الذاكرة انتهاك (بمعنى: transgression).

(11)

هنا يستطيع كل شخص أن يكون مُهَرِّجا، ويستطيع أي شخص أن يكون كاتبا، ولا يستطيع كل شخص أن يغضب.

(12)

التأمل ضَرْبٌ من العطالة والعطب.

(13)

في النهار أكتب، وفي الليل أكتب. وفيما عدا ذلك ليست لي مهنة غير الأسى.

(14)

كم أنا سعيد إذ يتمكَّن الأصدقاء، والرِّفاق، والأهل، والأعداء من هذا القبر.

(15)

في الثالثة صباحا ظلام كثيف وأردت أن أهاتفكِ (لكني لم أفعل)

في الثالثة صباحا ظلام كثيف (وقد فعلَ من غير أن أهاتفكِ).

(16)

أربعة اقتباسات ضروريَّة جدا عن الماضي:

«انتبهوا/ الماضي قادم» (قاسم حدَّاد).

«الماضي لن يموت. إنه حتى ليس ماضيا» (وليم فوكنر).

«من الصباح إلى المساء نصنع الماضي» (إميل سيوران).

«إننا نسبح في بحر من تراث الأجداد» (يونج).

(17)

كل مأثور يتحول إلى نقيضه. كل قول يصير خصما لمعناه.

والكارثة الأدهى هي أننا لا نزال في وارد الحكمة.

(18)

الموت ليس سَفَرَا طويلا (كما يقولون)، بل إغماءة قصيرة (كما سيفعل).

(19)

الإنتاج، الإنتاج، الإنتاج! وما أدراك ما الإنتاج؟

لا الاتحاد السوفييتي البائد ولا الإمبراطورية الأمريكية الراهنة تحترم حق الإنسان في ألا يكون منتجا، بطريقته، حين يشاء (إذ يتأمل القمر، مثلا، ويتفكر في أنه ليس قادرا على دفع فواتير الماء والكهرباء والهواء، حيث أُلحِقَ الأخير بمصانع الدولة).

كل المنظومات الأيديولوجية ليست سوى تنظيم قهر الإنسان، وقمعه، وتسويغه.

لقد تسابقوا في تسجيل أحقيَّة الوصول إلى القمر، فقط ليحرمونا منه.

(20)

شيء واحد تعلمته جيدا من هذه الحياة ومن تلك التجربة يا أحمد: حين تكون في السجن سيتذكرك الآخرون في الأسابيع الأولى لأن لديهم شيئا ثمينا يمكن التَّكَلُّم عنه في وقت الفراغ. ثم سينسونك بعد بضعة توقيعات بروتوكوليَّة على بيانات إدانة تعنيهم أكثر مما تخصُّك.

ثم سيتبادل السكارى نخبك بأقصى عاطفة يتيحها النبيذ.

ثم سينساك الجميع.

فلا تنسَ نفسك لمجرد أنك في أفضل حالة ممكنة: وحدك.

(21)

في الثامن من مارس الحالي احتفلت الدنيا باليوم العالمي للمرأة، وقد أقيمت الكثير من المناسبات والفعاليَّات الجديرة بجلال المناسبة، وألقي العديد من الخطب الوجيهة، وبالطبع فقد تسلَّل القنَّاصة إلى قلب المناسبة الجلية والمهيبة.

وفي الخامس من مارس الحالي أيضا رحلت عن دنيانا بهدوء وصمت المطربة المصريَّة شريفة فاضل التي اختفت عن الأنظار منذ مدة طويلة تحت وطأة أمراض الشيخوخة. ما يهمني هنا هو أن الراحلة هي أمُّ سيد السيد بدير (ابن الممثل والمخرج وكاتب السيناريو المصري المعروف من إحدى زيجات شريفة فاضل). الأهم أكثر هو أن سيد السيد بدير كان ضابطا برتبة ملازم أول في القوات الجويَّة المصريَّة. ومع نهايات حرب الاستنزاف وبدء تدريبات المحاكاة بالذخيرة الحيَّة استعدادا لحرب أكتوبر 1973 استشهد خلال تنفيذ أحد تلك التدريبات (أود أن أفتح قوسا هنا لأقدم خالص الشكر ووافر الامتنان لكل من الناقد د. محمد الشَّحات، والروائيين يوسف القعيد وكمال عبدالرحيم الذين حسموا لي بالقول الفصل التضاربات بين ثلاث روايات مختلفة حول التاريخ التقريبي وكيفية الاستشهاد).

وكان من نتائج ذلك أن شريفة فاضل، أمُّ الشَّهيد، غنَّت أغنية من أعذب تراثها مهداة إلى ابنها الشهيد، وعنوانها «أم البطل». قد لا يعرف الكثيرون هذه الناحية البيوغرافيَّة في الأغنية (وهي، في أية حال، موجودة على «اليوتيوب» لمن أراد).

في مارس أيضا، ولكن من عام آخر؛ أي في وقت متأخر من ليل 11 مارس 1978، خرجت على عجل من أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان شابة جميلة تبلغ العشرين من العمر، متجهة إلى المرفأ الذي كانت ترسو فيه سفينة تجاريَّة ستنقل عناصر عمليَّة فدائيَّة «فرقة دير ياسين». أقلَّت السفينة المجموعة إلى عرض البحر لتنزلهم في الظلام في قاربين مطَّاطيَيْن من نوع «زودياك». سنعرف لاحقا أن تلك الشابة اسمها دلال المغربي، وأنها قادت فريقا من ثلاثة عشر («ذكرا»/ «رجلا») في واحدة من أجرأ وأشجع العمليات الفدائية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية «عملية كمال عدوان» بالإنزال البحري على الشاطئ الفلسطيني (لمن أراد، ثمَّة في مواقع عديدة على النت صور لإيهود باراك وهو يجرُّ جثمانها بعد استشهادها في العملية الفدائية).

هذا، وقد كانت آخر برقية أرسلتها دلال مغربي إلى قيادتها في بيروت تقول بالحرف الواحد: «إننا نقترب من الشاطئ»، ثم انقطع الاتصال، وبعد ذلك بدأ الرصاص وهرع المجد إلى الأرض الفلسطينيَّة من البحر.

بهذا أقترب من اليوم العالمي للمرأة، وأتذكر البطل وأمَّه، وأُذَكِّر بدلال المغربي.