جودة الحياة وكلفة مخاطر السلوك
السبت / 18 / شعبان / 1444 هـ - 19:56 - السبت 11 مارس 2023 19:56
في الحديث عن جودة الحياة يتم التركيز عادة على العلاقة بين أداء الاقتصاد والسياسات الاقتصادية وبين ارتفاع مستوى جودة الحياة، في السنوات الماضية، بدأت تظهر دراسات مكثفة حول ما يُعرف بـ «عوامل الخطر السلوكي behavioral risk factors» وتأثيرها على مستوى تحقق جودة الحياة من ناحية، وعلى الأداء الاقتصادي من ناحية أخرى. ولتبسيط فكرة عوامل الخطر السلوكي فهي جملة من السلوكيات العامة (اليومية) التي تأخذ طريقها في الانتشار العام بين القاطنين في مجتمع معين، ورغم شيوعها ونظرة المجتمع لعاديتها، إلا أن لها كُلفا صحية واقتصادية ومجتمعية؛ قد تسهم في إما تقويض موارد المجتمع، أو الإضرار بالاستقرار المجتمعي، أو تقويض الإنتاجية في مختلف أوجه النشاط الاقتصادي. يمكن الحديث عن سلوكيات مثل التدخين والإدمان على الكحول، وشيوع تناول الأطعمة غير الصحية، إلى جانب سلوكيات أخرى مرتبطة بأنماط العنف المنزلي، والغضب، والعلاقات غير السوية. وعداها. لا يتم تناول هذه السلوكيات اليوم بوصفها خطرًا فرديًا أو عرضيًا له كلفة على الفرد أو المجموعة الصغيرة التي تكون حوله، وإنما يتم الحديث عن تأثير عوامل الخطر السلوكي في الضغط على الموارد الاقتصادية، والضغط على الخدمات العلاجية، بما فيها الأنظمة الصحية، وفقدان وتدني الإنتاجية بالنسبة للأفراد ومؤسسات الإنتاج والدول بشكل عام. ومن هنا فإن المناقشات الجادة اليوم حول جودة الحياة تنظر في تفاصيلها إلى نوعية سلوكيات الحياة العامة للسكان، وتحاول إيجاد المقاربات اللازمة لتبني السلوكيات المرغوبة، أو تحييد وتقليل أثر السلوكيات ذات الكلفة الاقتصادية والصحية والمجتمعية.
في 2020 نشرت The Journal of Economic Asymmetries مقالة شهيرة. حلل فيها الباحثون أداء 19 اقتصادًا متباين الحجم في الفترة بين (1950 - 2013)، للكشف عن العلاقة بين العوامل الصحية وبين الناتج المحلي الإجمالي، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول. وجدت التحليلات أن هناك علاقة طردية بين ثلاث متغيرات مرتبطة بالصحة، وهي: (متوسط العمر المتوقع، ومتوسط العمر المتوقع للذكور، ومتوسط العمر المتوقع للإناث) لها علاقة على المدى القصير والطويل بمستوى نمو الناتج المحلي الإجمالي، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول. وهو ما يعني أن جزءا كبيرا من السلوكيات العامة المرتبطة بالصحة وجودة الحياة عمومًا من شأنه أن يتحكم بالطبيعة المتغيرة للأداء الاقتصادي للدول. وفي المقابل فإن مزيدًا من السلوكيات العامة التي تندرج تحت (عوامل الخطر السلوكي) تعني مزيدًا من القيود للاقتصادات بأحجامها المتباينة. على الجانب الآخر، يشير أطلس السمنة العالمي، إلى أن التأثير الاقتصادي لزيادة الوزن والسمنة يمكن أن يكلف الاقتصاد العالمي ما يقرب من 4.32 تريليون دولار سنويًا بحلول عام 2035 أي ما يعادل (3٪ تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي)، حيث يتوقع أن تعيش غالبية سكان العالم (51٪ ، أو أكثر من 4 مليارات شخص) إما مع زيادة الوزن أو السمنة بحلول عام 2035، وذلك إذا سادت الاتجاهات الحالية بواقع 1 من كل 4 أشخاص (ما يقرب من 2 مليار) سوف يعانون من السمنة. وتتركز هذه الزيادات بشكل أكبر في البلدان ذات الدخل المنخفض مقارنة بغيرها من التصنيفات الاقتصادية.
يمكن أن تساعد ما تُعرف بـ «تقنيات استهداف السلوك» على التركيز على الكثير من السلوكيات ذات الكلفة الاقتصادية والصحية والاجتماعية؛ لغرض بناء حملات وطنية في سبيل الحد منها، وفي سبيل حشد الوعي المجتمعي للحد من توسعها وانتشارها. لدينا تجربة واضحة للعيان في سلطنة عُمان فيما يتعلق بالحد من الحوادث المرورية. قبل أعوام مضت، شكلت كلمة السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيّب الله ثراه - التي ألقاها حول خطورة الحوادث المرورية منطلقًا لاهتمام وطني بكافة أشكال السلوكيات التي تسبب الحوادث المرورية، والكلف الاقتصادية والصحية والمجتمعية لها، وجنى هذا الاهتمام ثماره بانخفاضات متواصلة في معدلات حدوث هذه الحوادث. وذلك نتيجة مراجعة كافة النظم والتشريعات والمنظومات التي من شأنها أن تحد من السلوك المؤدي لحدوث الحادث المروري. تشير إحصاءات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات (المنظومة المرورية) أنه خلال الفترة بين عام (2017 - 2021) انخفضت أعداد الحوادث المرورية بنسبة 60% وبمعدل حادث في كل 6 ساعات. وهذا المؤشر هو انعكاس لما يُعرف بـ«استهداف السلوك» والتركيز المتكامل على المنظومة المحيطة به. وبالتالي التقليل من كُلفه الاقتصادية والصحية والاجتماعية.
في التقارير المتصلة بمؤشر التنمية البشرية، تفيد تحليلات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن أي زيادة بنسبة 1٪ في المؤشر يقابلها زيادة قدرها 0.75٪ في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. وهو ما يعني أن مزيدًا من الاهتمام بمنظومات جودة الحياة من شأن انعكاساته أن تحسن الأوضاع الاقتصادية للأفراد والدول على حد سواء. في المقاربة الوطنية يستحق مفهوم (جودة الحياة) مزيدًا من مراكمة التحليلات والدراسات التي يمكن أن تفضي إلى (مؤشر وطني) مستقل لقياس جودة الحياة، وسيعنى هذا المؤشر إذا ما بني على إطار دقيق من البيانات التاريخية بالكشف عن العوامل الأكثر تأثيرًا في جودة الحياة، وعلاقتها بالأوضاع والمؤشرات الاقتصادية. وعلاوة على المؤشر فإننا نرى بضرورة وجود «مبادرة وطنية» تعنى بالكشف وتحديد وتشخيص السلوكيات العامة ذات الكلف الاقتصادية والصحية والاجتماعية وتتماس مع مفاهيم جودة الحياة. بحيث يتم في كل مرحلة التركيز على سلوكيات بعينها من خلال برامج ومبادرات وطنية مفصلة، تستهدف تقليل تلك السلوكيات، والحد من تأثيراتها، وتغيير المفاهيم إزاءها. كما يمكن في الجانب الموازي وضع بعض الأطر التوجيهية لجودة الحياة - على غرار ما قامت به بعض دول العالم - كأن يكون هناك إطار توجيهي لجودة الحياة في مرحلة الطفولة، ويستهدف في المقام الأول تحديد السلوكيات المرغوبة، والإجراءات والتدابير والتنظيمات والبنى التي تساعد في الحد من السلوكيات غير الصحية/ غير المرغوبة/ المؤثرة على نظم جودة الحياة. ويمكن أن يكون بشكل مؤسساتي كأن تكون هناك أطر لجودة الحياة في الجامعات، وأطر لجودة الحياة في مؤسسات العمل وسواها. إن التعويل على إدماج هذا المفهوم في مختلف المؤسسات وبناء سياسات عامة قائمة على مفاهيم (جودة الحياة) من شأنه أن يحسن مستويات الإنتاجية، والمشاركة الاقتصادية للأفراد، وديمومة الإنتاج عبر مراحل العمر المختلفة. مما ينعكس إيجابًا على الأداء الاقتصادي وتطور مستويات التنمية البشرية.
في 2020 نشرت The Journal of Economic Asymmetries مقالة شهيرة. حلل فيها الباحثون أداء 19 اقتصادًا متباين الحجم في الفترة بين (1950 - 2013)، للكشف عن العلاقة بين العوامل الصحية وبين الناتج المحلي الإجمالي، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول. وجدت التحليلات أن هناك علاقة طردية بين ثلاث متغيرات مرتبطة بالصحة، وهي: (متوسط العمر المتوقع، ومتوسط العمر المتوقع للذكور، ومتوسط العمر المتوقع للإناث) لها علاقة على المدى القصير والطويل بمستوى نمو الناتج المحلي الإجمالي، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هذه الدول. وهو ما يعني أن جزءا كبيرا من السلوكيات العامة المرتبطة بالصحة وجودة الحياة عمومًا من شأنه أن يتحكم بالطبيعة المتغيرة للأداء الاقتصادي للدول. وفي المقابل فإن مزيدًا من السلوكيات العامة التي تندرج تحت (عوامل الخطر السلوكي) تعني مزيدًا من القيود للاقتصادات بأحجامها المتباينة. على الجانب الآخر، يشير أطلس السمنة العالمي، إلى أن التأثير الاقتصادي لزيادة الوزن والسمنة يمكن أن يكلف الاقتصاد العالمي ما يقرب من 4.32 تريليون دولار سنويًا بحلول عام 2035 أي ما يعادل (3٪ تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي)، حيث يتوقع أن تعيش غالبية سكان العالم (51٪ ، أو أكثر من 4 مليارات شخص) إما مع زيادة الوزن أو السمنة بحلول عام 2035، وذلك إذا سادت الاتجاهات الحالية بواقع 1 من كل 4 أشخاص (ما يقرب من 2 مليار) سوف يعانون من السمنة. وتتركز هذه الزيادات بشكل أكبر في البلدان ذات الدخل المنخفض مقارنة بغيرها من التصنيفات الاقتصادية.
يمكن أن تساعد ما تُعرف بـ «تقنيات استهداف السلوك» على التركيز على الكثير من السلوكيات ذات الكلفة الاقتصادية والصحية والاجتماعية؛ لغرض بناء حملات وطنية في سبيل الحد منها، وفي سبيل حشد الوعي المجتمعي للحد من توسعها وانتشارها. لدينا تجربة واضحة للعيان في سلطنة عُمان فيما يتعلق بالحد من الحوادث المرورية. قبل أعوام مضت، شكلت كلمة السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيّب الله ثراه - التي ألقاها حول خطورة الحوادث المرورية منطلقًا لاهتمام وطني بكافة أشكال السلوكيات التي تسبب الحوادث المرورية، والكلف الاقتصادية والصحية والمجتمعية لها، وجنى هذا الاهتمام ثماره بانخفاضات متواصلة في معدلات حدوث هذه الحوادث. وذلك نتيجة مراجعة كافة النظم والتشريعات والمنظومات التي من شأنها أن تحد من السلوك المؤدي لحدوث الحادث المروري. تشير إحصاءات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات (المنظومة المرورية) أنه خلال الفترة بين عام (2017 - 2021) انخفضت أعداد الحوادث المرورية بنسبة 60% وبمعدل حادث في كل 6 ساعات. وهذا المؤشر هو انعكاس لما يُعرف بـ«استهداف السلوك» والتركيز المتكامل على المنظومة المحيطة به. وبالتالي التقليل من كُلفه الاقتصادية والصحية والاجتماعية.
في التقارير المتصلة بمؤشر التنمية البشرية، تفيد تحليلات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن أي زيادة بنسبة 1٪ في المؤشر يقابلها زيادة قدرها 0.75٪ في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. وهو ما يعني أن مزيدًا من الاهتمام بمنظومات جودة الحياة من شأن انعكاساته أن تحسن الأوضاع الاقتصادية للأفراد والدول على حد سواء. في المقاربة الوطنية يستحق مفهوم (جودة الحياة) مزيدًا من مراكمة التحليلات والدراسات التي يمكن أن تفضي إلى (مؤشر وطني) مستقل لقياس جودة الحياة، وسيعنى هذا المؤشر إذا ما بني على إطار دقيق من البيانات التاريخية بالكشف عن العوامل الأكثر تأثيرًا في جودة الحياة، وعلاقتها بالأوضاع والمؤشرات الاقتصادية. وعلاوة على المؤشر فإننا نرى بضرورة وجود «مبادرة وطنية» تعنى بالكشف وتحديد وتشخيص السلوكيات العامة ذات الكلف الاقتصادية والصحية والاجتماعية وتتماس مع مفاهيم جودة الحياة. بحيث يتم في كل مرحلة التركيز على سلوكيات بعينها من خلال برامج ومبادرات وطنية مفصلة، تستهدف تقليل تلك السلوكيات، والحد من تأثيراتها، وتغيير المفاهيم إزاءها. كما يمكن في الجانب الموازي وضع بعض الأطر التوجيهية لجودة الحياة - على غرار ما قامت به بعض دول العالم - كأن يكون هناك إطار توجيهي لجودة الحياة في مرحلة الطفولة، ويستهدف في المقام الأول تحديد السلوكيات المرغوبة، والإجراءات والتدابير والتنظيمات والبنى التي تساعد في الحد من السلوكيات غير الصحية/ غير المرغوبة/ المؤثرة على نظم جودة الحياة. ويمكن أن يكون بشكل مؤسساتي كأن تكون هناك أطر لجودة الحياة في الجامعات، وأطر لجودة الحياة في مؤسسات العمل وسواها. إن التعويل على إدماج هذا المفهوم في مختلف المؤسسات وبناء سياسات عامة قائمة على مفاهيم (جودة الحياة) من شأنه أن يحسن مستويات الإنتاجية، والمشاركة الاقتصادية للأفراد، وديمومة الإنتاج عبر مراحل العمر المختلفة. مما ينعكس إيجابًا على الأداء الاقتصادي وتطور مستويات التنمية البشرية.