أعمدة

نوافذ: أن نعرف أنفسنا

سليمان المعمري-01
 
سليمان المعمري-01
منذ قديم الزمان، حتى قبل أن يطلق الفيلسوف اليوناني سقراط نصيحته: «اعرف نفسك»، وكثير من الناس يؤمنون أنه لا يمكن أن يعرفك أحد في هذا العالم قدر نفسك، ويترتب على ذلك ألا تكترث كثيرًا بما تسمعه أو تراه من آراء سلبية فيك. فهل الأمر حقًّا كذلك؟ هل يستطيع المرء معرفة نفسه حقًّا أكثر مما يعرفه المحيطون به؟.

يستهل عباس محمود العقاد - الذي تحلّ هذه الأيام بالمناسبة ذكرى رحيله التاسعة والخمسون- الفصل الأول من كتابه «أنا» بعبارة للكاتب الأمريكي وندل هولمز يرى فيها أن «الإنسان - كل إنسان بلا استثناء - إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة؛ الإنسان كما خلقه الله، والإنسان كما يراه الناس، والإنسان كما يرى هو نفسه». ثم يتساءل الأديب المصري: «مَن مِنْ هؤلاء الأشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟!». ويخبرنا أنه سيتحدث في هذا الكتاب عن الصورة الثالثة، أي عن عباس العقاد كما يرى هو نفسه. وقبل أن يباشر هذا الحديث ينبهنا إلى الصورة التي نمّطه الآخرون فيها؛ فهو في رأي بعض الناس «رجل مفرط الكبرياء، ومفرط القسوة والجفاء، ويعيش بين الكتب، ولا يباشر الحياة كما يباشرها سائر الناس». وهو «رجل يملكه سلطان المنطق والتفكير، ولا سلطان للقلب ولا للعاطفة عليه!»، و «يصبح ويمسي في الجد الصارم، فلا تفتر شفتاه بضحكة واحدة إلا بعد استغفار واغتصاب»، لكنه يُقسم بعد ذلك أن «عباس العقاد هذا رجل لا أعرفه، ولا رأيته، ولا عشت معه لحظة واحدة، ولا التقيت به في طريق، ونقيض ذلك هو الأقرب إلى الصواب».

نقيض ذلك - كما ينظر صاحب العبقريات إلى نفسه - أنه «رجل مفرط في التواضع، ومفرط في الرحمة واللين، ولا يعيش بين الكتب إلا لأنه يباشر الحياة؛ رجل لا يفلت لحظة واحدة في ليله ونهاره من سلطان القلب والعاطفة، ورجل وسع شدقاه من الضحك ما يملأ مسرحًا من مسارح الفكاهة في روايات شارلي شابلن جميعًا». ثم يسترسل في التدليل على هذا التواضع وذلك اللين وتلك الرحمة المفرطة.

والحق أن صورة المرء عن نفسه هي الأَولى بالتصديق، وإلا لما نصحنا المنهج النبوي أن نستفتي قلوبنا وإن أفتانا الناس، ومن هنا فإن المرء لا يملك إلا تصديق العقاد (مع بعض التحفّظ)، ولا يستطيع إلا التعاطف مع الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد حين يقرأ رسالتها لأبيها: «‏ألمي الكبير هو أنك لم تعرفني أبدًا ولم ترغب في معرفتي يومًا. وما زلت تراني امرأة خفيفة بأفكار حمقاء جاءتها من قراءة روايات حب وقصص مجلة طهران المصورة. ليتني كنتُ هكذا، لاستطعتُ حينها أن أكون سعيدة».

كانت فرخزاد تعرف نفسها أكثر مما يعرفها المحيطون بها، ولعلها لهذا السبب اختارت مغادرة الحياة بملء إرادتها وهي في ريعان الشباب، لكنه مع ذلك ينبغي الحذر من المبالغة في تصديق صورة المرء عن نفسه، وهنا أعود إلى ما أسميتُه قبل قليل «بعض التحفظ» الذي وضعته بين قوسين على كلام العقاد، فسيرته ومعاركه الأدبية ومشاحناته مثلًا تنفي صفة «مفرط» التي يسبق بها وصف تواضعه ورحمته ولينه.

إذن فالمرء يعرف نفسه، ولكن ليس تمامًا. ثمة أمور غامضة لا يستطيع رؤيتها في نفسه بسهولة، فهل يحتاج إلى الآخرين لرؤيتها بديلًا عنه؟. شخصيًّا لا أرجّح ذلك، بل أميل إلى الظن أنه يحتاج إلى خوض تجارب أكثر عمقًا ليزداد معرفة بنفسه، تجارب شبيهة برحلة ذلك الرجل في المثل الروسي حول العالم باحثا عن وردة نادرة جدًا، ليكتشف بعد سنوات من السفر أنها كانت طوال الوقت في حديقته الخاصة. من هنا نفهم احتجاج الفيلسوف سيوران: «تعيش عمرك وأنت تكتشف كل يوم شيئًا جديدًا عن نفسك، ثم يأتي ذلك الأحمق الذي يقول لك: أنا أعرفك جيدا».