السعودي رائد العيد: السيرة الذاتية ليست مكافأة نهاية خدمة
يرى أننا في حاجة إلى الحوار لا الوعظ الثقافي:
الأربعاء / 15 / شعبان / 1444 هـ - 21:00 - الأربعاء 8 مارس 2023 21:00
- ينبغي حثِّ الناس على تدوين حيواتهم مهما كانت في عيون أصحابها صغيرة
- السير الذاتية تُشبع لدينا نهم القص والاستماع لرحلة حياة حقيقية
- المحاور الجيد لا يستأثر بالحديث.. وأحب في البودكاست سلطة الأسئلة
- فهم النص المقروء لا يكتمل دون كتابة والكتابة بلا قراءة خطى مبعثرة
- لا أميل إلى ثنائية الجيل الجديد والجيل القديم وصراع الأجيال وهم الضعفاء
- على الأجيال السابقة ألا تنظر لتصرفات الشباب بعين الريبة والتوجس
تعرَّض الكاتب السعودي رائد العيد إلى موقف صعب يوماً ما، لكنه وجد ما يهون عليه الأمر في قراءة السير الذاتية، وربما يفسر هذا –ضمن أشياء أخرى- سبب ولعه بالسير وإصداره مؤخراً كتابه المميز «أشقاء الزورق الواحد» ليدون فيه تأملاته ذات الطابع الفلسفي حول كثير من رموز المهن المختلفة كالأطباء والشعراء والعشاق وغيرهم.
لم يكن هذا كتابه الأول الذي استقاه من السير فهناك أيضاً كتابان له يدوران في فلكها وهما «دروب القراءة»، و«درب الكتابة». رائد العيد أيضاً مقدم بودكاست، حاور ثلاثين كاتباً إلى الآن في «بودكاست المقهى»، وهو أحد الوجوه الجديدة التي تمنح السعودية طابعها الأدبي العصري في الوقت الحالي. في هذا الحوار ننطلق مع رائد من سير الآخرين وننتهي إليه هو نفسه.
* لماذا لا تتفق مع جورج ماي في أن كتاب السير الذاتية لا بد أن يكونوا معروفين إلى الجمهور مسبقاً؟
- السيرة الذاتية ليست مكافأة نهاية خدمة تأتي بعد رحلة طويلة من مشاركة الجمهور الحياة، بل هي تسطير لرحلة الفرد الخاصة بغض النظر عن الاحتكاك بالجمهور. اشتراط المعرفة السابقة يخفف من قيمة الكشف المرتقب للحياة الخاصة، فالشخص المعروف مسبقًا ستتسرب حياته بطريقة أو بأخرى وإن جاءت السيرة فهي ستكمل النواقص الموجودة، أما الشخص المجهول فحياته أكثر إخفاءً وبالتالي أحق بالكشف.
السيرة الذاتية جنس أدبي كغيره من الأجناس الأدبية، وضع الاشتراطات حوله هو ما زهّد الناس به، مما قلل من معدل كتابته في الأدب العربي مقارنة بغيره من الآداب. ما نحتاجه اليوم هو حث الناس على تدوين حيواتهم، وتسطير تجاربهم، مهما كانت في عين صاحبها صغيرة إلا أنها ستفيد من يريد المضي على ذات الخطوات التي سار عليها.
مؤسف أن يفارق الحياة أصحاب التجارب والمناصب بلا أي أثر يدل على سنواتهم الطوال التي عاشوها. كما لا يشترط في صاحب السيرة امتلاكه لناصية القلم وأدبية الكتابة، بل يمكنه الاستفادة من 'كاتب الظل' الذي يساعده في تدوين محطات حياته واستنطاق تفاصيلها.
* تقول إنك لا تقرأ السير الذاتية للاستمتاع بالحيوات العريضة لأصحابها فقط، ولا للتلصص على هواجسهم وأسرارهم، بل بحثاً عن دروس الحياة، فما تلك الدروس التي خرجت بها؟
- مررت في 2019 بموقف حياتيّ لم يكن سهلًا عليّ، وتبعه موقف أصعب منه في 2020، ما هوّنها علي، وغيرها، استحضار ذاكرتي بشكل مفاجئ قصصًا لمواقف مشابهة قرأتها في سير ذاتية قديمًا، فانزاح الهمّ وخف العبء وفُتحت النوافذ بعدما أُغلقت الأبواب بوجهي. حينها أدركت أن دروس الحياة المقدمة من السير الذاتية قد لا تتجلى لك قيمتها في اللحظة الحالية، ولكنها ستمسك بك لحظة ضعف، ستقوّمك لحظة اعوجاج، ستكون بجوارك لتتكئ عليها في أشق أحوالك. وما أكثر ما تفعل بي ذلك.
* ما الذي دفعك إلى تصنيف السير في كتابك إلى سير الأطباء والعشاق، والشعراء، وعلماء النفس، والمتألمين، والعميان، والأعمال التى كُتبت عن المنتحرين، أو الموت؟ هل الترتيب كان بهدف إراحة قارئ كتابك؟
- هدفُ قراءةِ السير الذاتية المشتركة في التجربة هو الرغبة في الفهم. المقارنة أهم مساعدات التحليل والاستنباط والفهم العميق للمقروء. عندما تقرأ سيرة طبيب يصف لك الأهوال التي عايشها قد تعتقد أنه الوحيد المواجه لتلك اللحظات، فتحتاج لموازنة نظرتك لتلك السيرة بمقارنتها مع سيرٍ في ذات المجال، لتكتشف أن ما هوّله بتعابيره لم يكن سوى أحداث يسيرة بجانب ما حصل لغيره. بالإضافة إلى الرغبة بالتفرد في المعالجة، فمع كثرة قراءاتي في السير الذاتية ودراساتها لم أجد من تناولها بهذه الطريقة. والأهم هو اتخاذ السير الذاتية مَعبرًا لمناقشة الموضوعات الحياتية، فسير الأطباء طريق مناقشة سؤال المعنى، وسير الرسامين بوابة العيش بالتأمل، وسير الفقد درس في سؤال الموت، وسير الشعراء منهج في فن العيش.
* أخذت تسمية كتابك «أشقاء الزورق الواحد» من وصف أطلقه ليون وربيكا غرينبرغ على المهاجرين والمنفيين والمغتربين في كتابهما «التحليل النفسي للمهجر والمنفى» إذ وصفوهم بـ«إخوان الزوارق» لأنهم كانوا يقيمون علاقات فيما بينهم أثناء الهجرات الجماعية على متن السفن والبواخر.. هل اختيار مفردة «الزورق» تحديداً هو إشارة إلى نجاة أصحاب السير أو خلاصهم من خلال الاعتراف؟
- عندما يهاجر المهاجرون القادمون من دول مختلفة في قارب واحد تنشأ بينهم صلة جديدة ونسب غير نسب الدم، هو نسب المعاناة والتجربة والرحلة، وهذه الصلة ليست هشّة كما يعتقد البعض، بل إنها تمتد لما بعد الوصول إلى المنفى وافتراق أصحاب القارب الواحد في دول المهجر المتعددة. ومن هنا حاولتُ خلق هذه الصلة بين أصحاب السير الذاتية التي تتشارك في المهنة أو الرحلة وإن لم يلتقوا هم بأنفسهم في قارب واحد. وجاء اختيار الزورق للتأكيد على 'المصير المشترك' الواجب الانتباه إليه والعمل عليه بين الناس، فالمشتركون في التجربة يواجههم نفس المصير، والبشرية أجمع يواجهها المصير نفسه، وقراءة السير الذاتية ترسخ هذا المبدأ وتقلل من ذهنية التفاوت البشري والاختلاف الحياتي. كما يمكن اعتبار الإشارة التي تفضلت بها معنى مضمّنًا في العنوان، خاصة مع إدراك أن كل كتابة هي ركض عكس اتجاه الموت، وكتابة السيرة الذاتية صرخة أثناء ذلك الركض. تدوين السيرة الذاتية رغبةٌ بالتخفف من عبء الحياة المعاشة بتفريغها على الورق ومشاركتها مع الآخرين.
* متى قررت أن تشرع في تأليف هذا الكتاب؟
- علاقتي مع السير الذاتية قديمة، فكتبي الثلاثة منطلقة من نبع السير الذاتية، فقد استثمرتها في عرض تجارب القراءة في 'دروب القراءة'، واستقيت منها 'درب الكتابة'، وبعد الغربة عن الأهل والعيش في الرياض لوحدي زادت هذه العلاقة وتوطدت معها دون انغلاق عما سواها، وبدأت تتمخض قراءاتي فيها برؤية علائق جديدة وابتكار مقارنات بينها وتأمل تطبيقات منها للنظريات العلمية والأطروحات الفلسفية التي أقرؤها، فجاء أول فصول الكتاب الذي كان استقباله مدهشًا بالنسبة لي، فتأكد لدي أحقية الفكرة بالاستكمال والظهور، واحتاج ذلك قرابة السنوات الثلاث من القراءات المكثفة والاشتغال على الكتابة.
* ما الذي تقدمه كتب السير الذاتية إلى الناس أكثر مما تقدمه أنواع الكتب الأخرى؟
- تشبع السير الذاتية لدينا نهم القص، الاستماع لرحلة حياة حقيقية بتعرجاتها وصعودها وهبوطها. وتجمع السير الذاتية، خاصة المكتوبة بعناية، بين المعارف والمشاعر، بين المعلومات والآراء، بين التاريخ وعلم النفس. تقدم السير الذاتية خلاصات حياتية، وتجارب نهائية، وآراء حياة لا أفكار كتب.
كما أعتقد أن السير الذاتية تغني عن كثير من كتب تطوير الذات، بشرط معرفة كيف تقرأ. فالتقلبات التي يعيشها صاحب السيرة وكيفية اتخاذه للقرارات الحياتية وطريقة بناء النجاحات المهنية والعلاقات الشخصية والتعافي من الفشل وتجاوز الخيبات وتشافي الخيانات كلها تحكيها السير الذاتية.
ومن أهم ما تقدمه السير الذاتية أن تهمس بأذنك دائمًا: لستَ وحدك. في الأفراح والأتراح، في النجاحات لست فريد زمانك، وفي الخيبات لست شؤم عصرك، فهوّن عليك، وافرح بما حققت بلا بطر واحزن على ما أصابك بلا يأس.
* هناك عشرات التضمينات في الكتاب من سير مختلفة.. فكيف وجدت اللغة التي تضم المستويات المتنوعة للغة في خيط واحد؟
- هنا تحدي الكتابة المنطلقة من رؤية 'حوارية الكتابة'. فالكتابة بمبدأ التحاور تقتضي الانفتاح على الآخر، وترك المساحة له للتعبير، وبأسلوبه هو، دون تغيير أو إعادة صياغة معتمدة على الفهم الذاتي، ويبقى الدور المهم في محاولة خلق الانسجام وزرع الوئام بين المتحاورين، فالمحاور الجيد لا يستأثر بالحديث في حضرة ضيوفه، ولا يغرد خارج السرب بعيدًا عن أحاديث مجالسيه.
اللغة السلسة معضلة التعددية، تعددية المواضيع والأفكار والموارد، هضمها ومن ثم إنتاجها في قالب جاذب وغير مخلّ هدف لا أحيد عنه، ويبقى الحكم للقارئ في استقباله للكتاب.
* ما أكثر سيرة شدتك ولماذا؟
- يحب القارئ الكتاب الذي يُشبهه، الذي يقول ما عجز عن قوله، الكتاب الذي يعبّر عن خلجات النفس قبل طموحات الفكر. في 'شطحات لمنتصف النهار' قال محمد بنيس عنّي أكثر مما قال عن نفسه. وأدهشتني طريقة عبدالله إبراهيم في توثيق تفاصيل حياته وتسجيل يومياته في 'أمواج'، وأعجبني تحليل صلاح عبدالصبور في سيرته الشعرية لرحلته الحياتية واختياراته النقدية، وراقت لي 'على الجسر' لعائشة عبدالرحمن في وفائها وكثافة لغتها وسبرها للأحداث. واستمتعت بسرد بولس سلامة في 'حكاية عمر'.
* لماذا طغى الحس الفلسفي على كتابك؟
- الكتاب، كما هي عناوين فصوله، جاء نتيجة بحث عن إجابات حياتية لأسئلة وجودية، أسئلة اقتضتها الوحدة التي عشتها، والمرحلة الزمنية التي كتبت فيه، فاستدعى ذلك التعبير عن الرؤية الكونية الفلسفية بصياغة أدبية، وهو الشكل الذي حاولت السير عليه في هذا الكتاب. كل سلوك يرتكز على معتقد يدفع إليه، قد يكون المرء على وعي بهذا المعتقد المحرّك له وقد لا يفعل، قيمة الأدب في استنطاق المحركات، وتفسير السلوكيات، وعدم الاكتفاء بوصفها.
* هل تعتبر نفسك قارئاً بالأساس قبل أن تكون كاتباً ولماذا؟
- الكتابة قراءة، والقراءة كتابة. توسيع خط الفصل بينهما مخالف لطبيعتهما. ومن هنا نفهم قول بورخيس بأن 'القراءة امتداد للكتابة، إنها مهمة أكثر ثقافة'، باعتبار أن القراءة متضمنة للكتابة التي تقتضي مهارات معينة على فهم النص وتثويره، وليست القراءة الباردة المخدرة للمرء، الصارفة عن الحياة. القراءة والكتابة وجهان لعملة واحدة، لا غنى لأحدهما عن الآخر. فهم النص المقروء لا يكتمل دون كتابة، والكتابة بلا قراءة خطى مبعثرة في الصحراء. الكتابة من أجل الفهم هي ما أؤمن به، لا الكتابة من أجل إبلاغ الآخرين رؤى مكتملة ومختوم عليها وغير قابلة للتفاوض، والقراءة من أجل الفهم هي ما أؤمن به أيضًا، فما نفع الكتب ما لم تعيننا على فهم الحياة وتجويد رحلتنا فيها.
* ما الذي تجده مختلفاً بين الكتابة والبودكاست وأيهما أقرب إليك؟
- قبل المختلف أرى أن المشترك فيهما هو 'الحوار'، المختلف أن البودكاست هو امتداد للكتابة، يمكن اعتباره أحد عتبات الخروج التي تحدث عنها جيرار جينيت ضمن 'العتبات'. أحب في البودكاست سلطة الأسئلة، ولذة الكشف الجديد من الكاتب الذي يعتقد أنه قال كل ما لديه في كتبه فإذا بالأسئلة تثوّر المزيد مما لديه. الكتابة اشتغال ذاتي يعتمد على الرغبة والنهم وإزعاج الأفكار رغبة بالخروج، أما البودكاست فيعتمد على آخر، كاتب يثير لديَّ الأسئلة تجاه أعماله ويولّد لديَّ الرغبة لاستنطاقه، وهو ما قلّ بعد لقاء ثلاثين كاتبًا من تسع دول عربية وفي مختلف التخصصات. اختيار الضيوف مهم بالنسبة لي، فلا تهمني كثرة الحلقات بقدر نوعيتها، النوعية المتمثلة في الضيف المختار والأسئلة المطروحة والأفق الذي تفتحه الحلقة. أنهيت ثلاثين حلقة في البودكاست وثلاثة كتب، والمرحلة القادم قد ترجح أحدهما وقد أستكمل السير في المسارين.
* أنت من الجيل الجديد في السعودية.. هل تعتبر أنكم جزء من الحراك الثقافي الكبير الحادث مؤخراً في المملكة؟
- لا أميل إلى ثنائية الجيل الجديد والجيل القديم، وأرى بأن صراع الأجيال وهم يتمسّك به الضعفاء، والسائرون في دربه إنما هم يبادرون بالهجوم حتى لا يضطروا للدفاع ضد من قد يقول عن الجيل السابق بأنه خير سلف لشر خلف أو يقول عن الجيل اللاحق فخلف من بعدهم خلْف أضاعوا القصيدة واتبعوا العبث.
الوسط الثقافي بحاجة إلى الفهم والتفهم من الأجيال السابقة، التي تنظر لتصرفات الشباب بعين الريبة والتوجس، وتصادر حقهم في ممارسة ما مارسوه هم في عمر مضى. فهْمُ متطلبات المرحلة العمرية وتطلعات المكانة الثقافية تستعدي قدرًا من التفهم الذي ينتج إرشادًا لا مصادرة وتقبلًا لا رفضًا، فكذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم.
لا أبيّن هذه الفروقات لإنكار العلاقة المطلوبة بين الجيل القديم والجيل الجديد، ولا لمحاولة قتل الأبوة الثقافية وتعزيز التفرد الإبداعي، بل لإعادة تشكيل علاقات مبنية على المفاهمة والتقدير والحوار والتقبل، والقناعة بأن الجميع في صف واحد في مقابل الجهل والأمية ومحاربة القراءة والكتاب.
كما أؤمن أن كل فاعل ثقافي هو جزء من الحراك الثقافي في المملكة، فالفاعلية الثقافية، ليست محصورة في الفعل فقط، بل تشمل التلقي أيضًا، فهو شرط لإحداث الحراك في المشهد، وهو ما نحتاج الوعي فيه، فاختزال الفاعلية في التقديم وإلقاء المحاضرات وتأسيس المبادرات والمشاريع سيجعل من الجميع محاضرين ولا مستمع أمامهم.
* وما ملاحظاتك على الوسط الثقافي في السعودية خلال الفترة الحالية.. ما الذي يميزه وما الذي ينقصه؟
- خلال سنوات يسيرة من تأسيس وزارة الثقافة حظيت بالدعم اللامحدود لتدشين الكثير من المشاريع النوعية في مختلف مسارات الثقافة. ما آمل أن يُنتبه إليه، ولا أعتقد غيابه عن صناع القرار، ضرورة العمل على المشاريع الاستراتيجية باقية الأثر أكثر من العمل على المشاريع قصيرة العمر سريعة الأثر، فالاشتغال على المهرجانات الثقافية وتفعيل الأيام العالمية مفيد ويخلق حراكًا ثقافيًّا، ولكن ما لم يصاحبه اشتغال على تأسيس المعاهد وتطوير البرامج التي تصنع صناع الأثر وتدعم المشاريع دون استعجال ثمارها سنجد أننا نبذل الكثير على العائد القليل. مستقبل الأدب هو في اكتمال منظومته الحيويّة والتي لن تكتمل والمشهد الثقافي يُتعامل فيه بمبدأ السوق لا بمبدأ الثقافة، وتصمم البرامج الثقافية فيه بمؤشرات الأداء الكمية ونبحث فيه عن الإنجازات الرقمية.
نعيش في عصر يتسم بما أسماه ليبوفتسكي بـ'دمقرطة الكلام'، أي أن الحديث بات حقًّا لكل أحد ومتاحًا لكل أحد، وهذا يتطلّب تطورًا بأدوات الوصول الثقافي للمتلقي وإعادة التفكير في ابتكار وتصميم الفعاليات الثقافية حتى لا تقتصر على الاتجاه الواحد، بل نحن في عصر الذهاب والإياب، والكلام والسماع في آن معًا، عصر الحوار الثقافي لا الوعظ الثقافي، وهو النوع الذي يكتفي بالتوجيه ولو في أدق القضايا الأدبية تغلغلًا. في الوسط السعودي الآن الكثير من المشاريع الثقافية الواعدة، والمؤسسة من شباب محب للثقافة وراغب في النفع وترك الأثر، ما يحتاجه المشهد هو المزيد من 'دمقرطة الثقافة'، والسعي للوصول إلى فئات مجتمعية فقيرة إلى الثقافة وإتاحة الفرصة لأشخاص جدد للمزاحمة في الوسط، التعالي على كل وافد للمشهد الثقافي إضرار به مغلّفٌ بنية حمايته.
وأخيرًا، أرى أن المملكة باتساع جغرافيتها، وتعدد مواطنيها، بحاجة ماسّة لمشاريع 'كشافة الأدب'، التي لا تنتظر الأديب حتى يبرز ويعلو صوته لتلتفّ حوله وترسل له الدعوات وتهيئ له المنصات، بل أن نذهب نحن لنستكشف من فيهم بوادر الاستعداد ونحفزهم على استكمال الطريق ونعمل على تمكينهم، وإنضاج تجاربهم قبل تصديرها، فتصدير أصحاب التجارب غير الناضجة مضر بكلا الطرفين: صاحب التجربة والمتلقي؛ فصاحب التجربة عندما يتحدث عن تجربته بشكل جيد غالبا ما يُولَّد لديه الشعور بالإنجاز مما يضعف دافعيته لمزيد إنضاج، وإن تحدث بشكل سيئ أضرّ بصورة تجربته ونفّر المتلقي من الاهتمام بها حتى لو نضجت بعد ذلك. تقديم الدعم لأصحاب التجارب الثقافية ليس دائمًا في تصديرهم وتسليط الضوء عليهم في المحافل والمعارض، بل في تمكينهم من إنجاح تجاربهم والذي كثيرًا ما يتطلب العمل بالخفاء أكثر من العلن.
* وما هي مشروعاتك للفترة المقبلة؟
- أعمل على كتاب نصوص مفتوحة تسعى لمدح ما لم يُمدح، واستنطاق المهمل، تحفيزًا على عيش التأمل وتثوير الصغائر. كما أعمل على تطوير تجربة البودكاست ونقلها إلى مستوى أبعد، بالإضافة إلى برنامج إعلامي ثقافي آخر آمل أن يرى النور القريب العاجل.
- السير الذاتية تُشبع لدينا نهم القص والاستماع لرحلة حياة حقيقية
- المحاور الجيد لا يستأثر بالحديث.. وأحب في البودكاست سلطة الأسئلة
- فهم النص المقروء لا يكتمل دون كتابة والكتابة بلا قراءة خطى مبعثرة
- لا أميل إلى ثنائية الجيل الجديد والجيل القديم وصراع الأجيال وهم الضعفاء
- على الأجيال السابقة ألا تنظر لتصرفات الشباب بعين الريبة والتوجس
تعرَّض الكاتب السعودي رائد العيد إلى موقف صعب يوماً ما، لكنه وجد ما يهون عليه الأمر في قراءة السير الذاتية، وربما يفسر هذا –ضمن أشياء أخرى- سبب ولعه بالسير وإصداره مؤخراً كتابه المميز «أشقاء الزورق الواحد» ليدون فيه تأملاته ذات الطابع الفلسفي حول كثير من رموز المهن المختلفة كالأطباء والشعراء والعشاق وغيرهم.
لم يكن هذا كتابه الأول الذي استقاه من السير فهناك أيضاً كتابان له يدوران في فلكها وهما «دروب القراءة»، و«درب الكتابة». رائد العيد أيضاً مقدم بودكاست، حاور ثلاثين كاتباً إلى الآن في «بودكاست المقهى»، وهو أحد الوجوه الجديدة التي تمنح السعودية طابعها الأدبي العصري في الوقت الحالي. في هذا الحوار ننطلق مع رائد من سير الآخرين وننتهي إليه هو نفسه.
* لماذا لا تتفق مع جورج ماي في أن كتاب السير الذاتية لا بد أن يكونوا معروفين إلى الجمهور مسبقاً؟
- السيرة الذاتية ليست مكافأة نهاية خدمة تأتي بعد رحلة طويلة من مشاركة الجمهور الحياة، بل هي تسطير لرحلة الفرد الخاصة بغض النظر عن الاحتكاك بالجمهور. اشتراط المعرفة السابقة يخفف من قيمة الكشف المرتقب للحياة الخاصة، فالشخص المعروف مسبقًا ستتسرب حياته بطريقة أو بأخرى وإن جاءت السيرة فهي ستكمل النواقص الموجودة، أما الشخص المجهول فحياته أكثر إخفاءً وبالتالي أحق بالكشف.
السيرة الذاتية جنس أدبي كغيره من الأجناس الأدبية، وضع الاشتراطات حوله هو ما زهّد الناس به، مما قلل من معدل كتابته في الأدب العربي مقارنة بغيره من الآداب. ما نحتاجه اليوم هو حث الناس على تدوين حيواتهم، وتسطير تجاربهم، مهما كانت في عين صاحبها صغيرة إلا أنها ستفيد من يريد المضي على ذات الخطوات التي سار عليها.
مؤسف أن يفارق الحياة أصحاب التجارب والمناصب بلا أي أثر يدل على سنواتهم الطوال التي عاشوها. كما لا يشترط في صاحب السيرة امتلاكه لناصية القلم وأدبية الكتابة، بل يمكنه الاستفادة من 'كاتب الظل' الذي يساعده في تدوين محطات حياته واستنطاق تفاصيلها.
* تقول إنك لا تقرأ السير الذاتية للاستمتاع بالحيوات العريضة لأصحابها فقط، ولا للتلصص على هواجسهم وأسرارهم، بل بحثاً عن دروس الحياة، فما تلك الدروس التي خرجت بها؟
- مررت في 2019 بموقف حياتيّ لم يكن سهلًا عليّ، وتبعه موقف أصعب منه في 2020، ما هوّنها علي، وغيرها، استحضار ذاكرتي بشكل مفاجئ قصصًا لمواقف مشابهة قرأتها في سير ذاتية قديمًا، فانزاح الهمّ وخف العبء وفُتحت النوافذ بعدما أُغلقت الأبواب بوجهي. حينها أدركت أن دروس الحياة المقدمة من السير الذاتية قد لا تتجلى لك قيمتها في اللحظة الحالية، ولكنها ستمسك بك لحظة ضعف، ستقوّمك لحظة اعوجاج، ستكون بجوارك لتتكئ عليها في أشق أحوالك. وما أكثر ما تفعل بي ذلك.
* ما الذي دفعك إلى تصنيف السير في كتابك إلى سير الأطباء والعشاق، والشعراء، وعلماء النفس، والمتألمين، والعميان، والأعمال التى كُتبت عن المنتحرين، أو الموت؟ هل الترتيب كان بهدف إراحة قارئ كتابك؟
- هدفُ قراءةِ السير الذاتية المشتركة في التجربة هو الرغبة في الفهم. المقارنة أهم مساعدات التحليل والاستنباط والفهم العميق للمقروء. عندما تقرأ سيرة طبيب يصف لك الأهوال التي عايشها قد تعتقد أنه الوحيد المواجه لتلك اللحظات، فتحتاج لموازنة نظرتك لتلك السيرة بمقارنتها مع سيرٍ في ذات المجال، لتكتشف أن ما هوّله بتعابيره لم يكن سوى أحداث يسيرة بجانب ما حصل لغيره. بالإضافة إلى الرغبة بالتفرد في المعالجة، فمع كثرة قراءاتي في السير الذاتية ودراساتها لم أجد من تناولها بهذه الطريقة. والأهم هو اتخاذ السير الذاتية مَعبرًا لمناقشة الموضوعات الحياتية، فسير الأطباء طريق مناقشة سؤال المعنى، وسير الرسامين بوابة العيش بالتأمل، وسير الفقد درس في سؤال الموت، وسير الشعراء منهج في فن العيش.
* أخذت تسمية كتابك «أشقاء الزورق الواحد» من وصف أطلقه ليون وربيكا غرينبرغ على المهاجرين والمنفيين والمغتربين في كتابهما «التحليل النفسي للمهجر والمنفى» إذ وصفوهم بـ«إخوان الزوارق» لأنهم كانوا يقيمون علاقات فيما بينهم أثناء الهجرات الجماعية على متن السفن والبواخر.. هل اختيار مفردة «الزورق» تحديداً هو إشارة إلى نجاة أصحاب السير أو خلاصهم من خلال الاعتراف؟
- عندما يهاجر المهاجرون القادمون من دول مختلفة في قارب واحد تنشأ بينهم صلة جديدة ونسب غير نسب الدم، هو نسب المعاناة والتجربة والرحلة، وهذه الصلة ليست هشّة كما يعتقد البعض، بل إنها تمتد لما بعد الوصول إلى المنفى وافتراق أصحاب القارب الواحد في دول المهجر المتعددة. ومن هنا حاولتُ خلق هذه الصلة بين أصحاب السير الذاتية التي تتشارك في المهنة أو الرحلة وإن لم يلتقوا هم بأنفسهم في قارب واحد. وجاء اختيار الزورق للتأكيد على 'المصير المشترك' الواجب الانتباه إليه والعمل عليه بين الناس، فالمشتركون في التجربة يواجههم نفس المصير، والبشرية أجمع يواجهها المصير نفسه، وقراءة السير الذاتية ترسخ هذا المبدأ وتقلل من ذهنية التفاوت البشري والاختلاف الحياتي. كما يمكن اعتبار الإشارة التي تفضلت بها معنى مضمّنًا في العنوان، خاصة مع إدراك أن كل كتابة هي ركض عكس اتجاه الموت، وكتابة السيرة الذاتية صرخة أثناء ذلك الركض. تدوين السيرة الذاتية رغبةٌ بالتخفف من عبء الحياة المعاشة بتفريغها على الورق ومشاركتها مع الآخرين.
* متى قررت أن تشرع في تأليف هذا الكتاب؟
- علاقتي مع السير الذاتية قديمة، فكتبي الثلاثة منطلقة من نبع السير الذاتية، فقد استثمرتها في عرض تجارب القراءة في 'دروب القراءة'، واستقيت منها 'درب الكتابة'، وبعد الغربة عن الأهل والعيش في الرياض لوحدي زادت هذه العلاقة وتوطدت معها دون انغلاق عما سواها، وبدأت تتمخض قراءاتي فيها برؤية علائق جديدة وابتكار مقارنات بينها وتأمل تطبيقات منها للنظريات العلمية والأطروحات الفلسفية التي أقرؤها، فجاء أول فصول الكتاب الذي كان استقباله مدهشًا بالنسبة لي، فتأكد لدي أحقية الفكرة بالاستكمال والظهور، واحتاج ذلك قرابة السنوات الثلاث من القراءات المكثفة والاشتغال على الكتابة.
* ما الذي تقدمه كتب السير الذاتية إلى الناس أكثر مما تقدمه أنواع الكتب الأخرى؟
- تشبع السير الذاتية لدينا نهم القص، الاستماع لرحلة حياة حقيقية بتعرجاتها وصعودها وهبوطها. وتجمع السير الذاتية، خاصة المكتوبة بعناية، بين المعارف والمشاعر، بين المعلومات والآراء، بين التاريخ وعلم النفس. تقدم السير الذاتية خلاصات حياتية، وتجارب نهائية، وآراء حياة لا أفكار كتب.
كما أعتقد أن السير الذاتية تغني عن كثير من كتب تطوير الذات، بشرط معرفة كيف تقرأ. فالتقلبات التي يعيشها صاحب السيرة وكيفية اتخاذه للقرارات الحياتية وطريقة بناء النجاحات المهنية والعلاقات الشخصية والتعافي من الفشل وتجاوز الخيبات وتشافي الخيانات كلها تحكيها السير الذاتية.
ومن أهم ما تقدمه السير الذاتية أن تهمس بأذنك دائمًا: لستَ وحدك. في الأفراح والأتراح، في النجاحات لست فريد زمانك، وفي الخيبات لست شؤم عصرك، فهوّن عليك، وافرح بما حققت بلا بطر واحزن على ما أصابك بلا يأس.
* هناك عشرات التضمينات في الكتاب من سير مختلفة.. فكيف وجدت اللغة التي تضم المستويات المتنوعة للغة في خيط واحد؟
- هنا تحدي الكتابة المنطلقة من رؤية 'حوارية الكتابة'. فالكتابة بمبدأ التحاور تقتضي الانفتاح على الآخر، وترك المساحة له للتعبير، وبأسلوبه هو، دون تغيير أو إعادة صياغة معتمدة على الفهم الذاتي، ويبقى الدور المهم في محاولة خلق الانسجام وزرع الوئام بين المتحاورين، فالمحاور الجيد لا يستأثر بالحديث في حضرة ضيوفه، ولا يغرد خارج السرب بعيدًا عن أحاديث مجالسيه.
اللغة السلسة معضلة التعددية، تعددية المواضيع والأفكار والموارد، هضمها ومن ثم إنتاجها في قالب جاذب وغير مخلّ هدف لا أحيد عنه، ويبقى الحكم للقارئ في استقباله للكتاب.
* ما أكثر سيرة شدتك ولماذا؟
- يحب القارئ الكتاب الذي يُشبهه، الذي يقول ما عجز عن قوله، الكتاب الذي يعبّر عن خلجات النفس قبل طموحات الفكر. في 'شطحات لمنتصف النهار' قال محمد بنيس عنّي أكثر مما قال عن نفسه. وأدهشتني طريقة عبدالله إبراهيم في توثيق تفاصيل حياته وتسجيل يومياته في 'أمواج'، وأعجبني تحليل صلاح عبدالصبور في سيرته الشعرية لرحلته الحياتية واختياراته النقدية، وراقت لي 'على الجسر' لعائشة عبدالرحمن في وفائها وكثافة لغتها وسبرها للأحداث. واستمتعت بسرد بولس سلامة في 'حكاية عمر'.
* لماذا طغى الحس الفلسفي على كتابك؟
- الكتاب، كما هي عناوين فصوله، جاء نتيجة بحث عن إجابات حياتية لأسئلة وجودية، أسئلة اقتضتها الوحدة التي عشتها، والمرحلة الزمنية التي كتبت فيه، فاستدعى ذلك التعبير عن الرؤية الكونية الفلسفية بصياغة أدبية، وهو الشكل الذي حاولت السير عليه في هذا الكتاب. كل سلوك يرتكز على معتقد يدفع إليه، قد يكون المرء على وعي بهذا المعتقد المحرّك له وقد لا يفعل، قيمة الأدب في استنطاق المحركات، وتفسير السلوكيات، وعدم الاكتفاء بوصفها.
* هل تعتبر نفسك قارئاً بالأساس قبل أن تكون كاتباً ولماذا؟
- الكتابة قراءة، والقراءة كتابة. توسيع خط الفصل بينهما مخالف لطبيعتهما. ومن هنا نفهم قول بورخيس بأن 'القراءة امتداد للكتابة، إنها مهمة أكثر ثقافة'، باعتبار أن القراءة متضمنة للكتابة التي تقتضي مهارات معينة على فهم النص وتثويره، وليست القراءة الباردة المخدرة للمرء، الصارفة عن الحياة. القراءة والكتابة وجهان لعملة واحدة، لا غنى لأحدهما عن الآخر. فهم النص المقروء لا يكتمل دون كتابة، والكتابة بلا قراءة خطى مبعثرة في الصحراء. الكتابة من أجل الفهم هي ما أؤمن به، لا الكتابة من أجل إبلاغ الآخرين رؤى مكتملة ومختوم عليها وغير قابلة للتفاوض، والقراءة من أجل الفهم هي ما أؤمن به أيضًا، فما نفع الكتب ما لم تعيننا على فهم الحياة وتجويد رحلتنا فيها.
* ما الذي تجده مختلفاً بين الكتابة والبودكاست وأيهما أقرب إليك؟
- قبل المختلف أرى أن المشترك فيهما هو 'الحوار'، المختلف أن البودكاست هو امتداد للكتابة، يمكن اعتباره أحد عتبات الخروج التي تحدث عنها جيرار جينيت ضمن 'العتبات'. أحب في البودكاست سلطة الأسئلة، ولذة الكشف الجديد من الكاتب الذي يعتقد أنه قال كل ما لديه في كتبه فإذا بالأسئلة تثوّر المزيد مما لديه. الكتابة اشتغال ذاتي يعتمد على الرغبة والنهم وإزعاج الأفكار رغبة بالخروج، أما البودكاست فيعتمد على آخر، كاتب يثير لديَّ الأسئلة تجاه أعماله ويولّد لديَّ الرغبة لاستنطاقه، وهو ما قلّ بعد لقاء ثلاثين كاتبًا من تسع دول عربية وفي مختلف التخصصات. اختيار الضيوف مهم بالنسبة لي، فلا تهمني كثرة الحلقات بقدر نوعيتها، النوعية المتمثلة في الضيف المختار والأسئلة المطروحة والأفق الذي تفتحه الحلقة. أنهيت ثلاثين حلقة في البودكاست وثلاثة كتب، والمرحلة القادم قد ترجح أحدهما وقد أستكمل السير في المسارين.
* أنت من الجيل الجديد في السعودية.. هل تعتبر أنكم جزء من الحراك الثقافي الكبير الحادث مؤخراً في المملكة؟
- لا أميل إلى ثنائية الجيل الجديد والجيل القديم، وأرى بأن صراع الأجيال وهم يتمسّك به الضعفاء، والسائرون في دربه إنما هم يبادرون بالهجوم حتى لا يضطروا للدفاع ضد من قد يقول عن الجيل السابق بأنه خير سلف لشر خلف أو يقول عن الجيل اللاحق فخلف من بعدهم خلْف أضاعوا القصيدة واتبعوا العبث.
الوسط الثقافي بحاجة إلى الفهم والتفهم من الأجيال السابقة، التي تنظر لتصرفات الشباب بعين الريبة والتوجس، وتصادر حقهم في ممارسة ما مارسوه هم في عمر مضى. فهْمُ متطلبات المرحلة العمرية وتطلعات المكانة الثقافية تستعدي قدرًا من التفهم الذي ينتج إرشادًا لا مصادرة وتقبلًا لا رفضًا، فكذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم.
لا أبيّن هذه الفروقات لإنكار العلاقة المطلوبة بين الجيل القديم والجيل الجديد، ولا لمحاولة قتل الأبوة الثقافية وتعزيز التفرد الإبداعي، بل لإعادة تشكيل علاقات مبنية على المفاهمة والتقدير والحوار والتقبل، والقناعة بأن الجميع في صف واحد في مقابل الجهل والأمية ومحاربة القراءة والكتاب.
كما أؤمن أن كل فاعل ثقافي هو جزء من الحراك الثقافي في المملكة، فالفاعلية الثقافية، ليست محصورة في الفعل فقط، بل تشمل التلقي أيضًا، فهو شرط لإحداث الحراك في المشهد، وهو ما نحتاج الوعي فيه، فاختزال الفاعلية في التقديم وإلقاء المحاضرات وتأسيس المبادرات والمشاريع سيجعل من الجميع محاضرين ولا مستمع أمامهم.
* وما ملاحظاتك على الوسط الثقافي في السعودية خلال الفترة الحالية.. ما الذي يميزه وما الذي ينقصه؟
- خلال سنوات يسيرة من تأسيس وزارة الثقافة حظيت بالدعم اللامحدود لتدشين الكثير من المشاريع النوعية في مختلف مسارات الثقافة. ما آمل أن يُنتبه إليه، ولا أعتقد غيابه عن صناع القرار، ضرورة العمل على المشاريع الاستراتيجية باقية الأثر أكثر من العمل على المشاريع قصيرة العمر سريعة الأثر، فالاشتغال على المهرجانات الثقافية وتفعيل الأيام العالمية مفيد ويخلق حراكًا ثقافيًّا، ولكن ما لم يصاحبه اشتغال على تأسيس المعاهد وتطوير البرامج التي تصنع صناع الأثر وتدعم المشاريع دون استعجال ثمارها سنجد أننا نبذل الكثير على العائد القليل. مستقبل الأدب هو في اكتمال منظومته الحيويّة والتي لن تكتمل والمشهد الثقافي يُتعامل فيه بمبدأ السوق لا بمبدأ الثقافة، وتصمم البرامج الثقافية فيه بمؤشرات الأداء الكمية ونبحث فيه عن الإنجازات الرقمية.
نعيش في عصر يتسم بما أسماه ليبوفتسكي بـ'دمقرطة الكلام'، أي أن الحديث بات حقًّا لكل أحد ومتاحًا لكل أحد، وهذا يتطلّب تطورًا بأدوات الوصول الثقافي للمتلقي وإعادة التفكير في ابتكار وتصميم الفعاليات الثقافية حتى لا تقتصر على الاتجاه الواحد، بل نحن في عصر الذهاب والإياب، والكلام والسماع في آن معًا، عصر الحوار الثقافي لا الوعظ الثقافي، وهو النوع الذي يكتفي بالتوجيه ولو في أدق القضايا الأدبية تغلغلًا. في الوسط السعودي الآن الكثير من المشاريع الثقافية الواعدة، والمؤسسة من شباب محب للثقافة وراغب في النفع وترك الأثر، ما يحتاجه المشهد هو المزيد من 'دمقرطة الثقافة'، والسعي للوصول إلى فئات مجتمعية فقيرة إلى الثقافة وإتاحة الفرصة لأشخاص جدد للمزاحمة في الوسط، التعالي على كل وافد للمشهد الثقافي إضرار به مغلّفٌ بنية حمايته.
وأخيرًا، أرى أن المملكة باتساع جغرافيتها، وتعدد مواطنيها، بحاجة ماسّة لمشاريع 'كشافة الأدب'، التي لا تنتظر الأديب حتى يبرز ويعلو صوته لتلتفّ حوله وترسل له الدعوات وتهيئ له المنصات، بل أن نذهب نحن لنستكشف من فيهم بوادر الاستعداد ونحفزهم على استكمال الطريق ونعمل على تمكينهم، وإنضاج تجاربهم قبل تصديرها، فتصدير أصحاب التجارب غير الناضجة مضر بكلا الطرفين: صاحب التجربة والمتلقي؛ فصاحب التجربة عندما يتحدث عن تجربته بشكل جيد غالبا ما يُولَّد لديه الشعور بالإنجاز مما يضعف دافعيته لمزيد إنضاج، وإن تحدث بشكل سيئ أضرّ بصورة تجربته ونفّر المتلقي من الاهتمام بها حتى لو نضجت بعد ذلك. تقديم الدعم لأصحاب التجارب الثقافية ليس دائمًا في تصديرهم وتسليط الضوء عليهم في المحافل والمعارض، بل في تمكينهم من إنجاح تجاربهم والذي كثيرًا ما يتطلب العمل بالخفاء أكثر من العلن.
* وما هي مشروعاتك للفترة المقبلة؟
- أعمل على كتاب نصوص مفتوحة تسعى لمدح ما لم يُمدح، واستنطاق المهمل، تحفيزًا على عيش التأمل وتثوير الصغائر. كما أعمل على تطوير تجربة البودكاست ونقلها إلى مستوى أبعد، بالإضافة إلى برنامج إعلامي ثقافي آخر آمل أن يرى النور القريب العاجل.