أعمدة

عتبات النقد1: آلة تعيير الأدب

عُلَب الحكاية 4

 
كيف علينا أن نمارس نقد الأدب دون حيف أو تملق، دون جحود أو ثناء، دون نكران أو اعتراف مطلق؟ هل على الناقد أن يبين رأيه، وأن يظهر تفاعله مع النص الذي هو بصدد قراءته أو هو آلة تعيير للنص، يحدد منزلته وما به يختص دون موقف بين؟ هل توجَد آلة يمكن بها أن نعير الخطاب الأدبي؟

يضطلع الناقد بمنزلة مهمة في طبقة القراء التي تتناول الخطاب الأدبي، فهو الجهة العارفة العالمة الممتلئة بقراءة الأدب المتسلحة بمناهج تفكيكه وإدراك عمقه، فهو الطرف «المتخصص» في إعلان «القراءة المدركة» التي يمكن أن تضمن لطبقة القراء العاديين «قيمة» النص المنقود. وهو دور يؤديه الناقد الغربي، ويسْمَع فيه صوته، وتتحدد به في أغلب الأحيان قراءة القراء العاديين، الواثقين في توجيه النقاد العارفين. فهل يؤدي النقد العربي هذا الدور؟

ينحسر دور الناقد العربي تأثيرا في طبقة القراء العادية، وذاك أمر راجع بالأساس إلى عوامل عديدة، أهمها اكتفاء المتخصصين في النقد بأداء دور «الأسلوب الأستاذي» -على حد عبارة عبد الكبير الخطيبي في تقديمه لكتاب كيليطو «الأدب والغرابة»- وهو دور عَلي لا أثر له في المجتمع من جهة، ولا دور له في متابعة أعمال في الأدب تحتل موقعا من النقاش والجدل في الساحة الثقافية العربية، «الأسلوب الأستاذي» يدعي تمام العلم ويتوهم اليقين، ويكاد ينحصر في ترشيح مدوناته على أعمال في الأدب قديمة أو كلاسيكية. سبب ثان في انحسار دور الضامن الموجه لمقروئية الأدب، يتمثل في انعدام وجود مؤسسات ترعى الإنتاج الأدبي وتلاحقه بالنقد قبل صدوره وبعد إخراجه للناس، وهو دور من المفروض أن تضطلع به دور النشر، رعاية لمنتجاتها، وتعاملا مع قراء عالمين يضعون العمل الأدبي في منزلته.

السؤال الأساسي الآن، ما هو الضمان أن هذا القارئ الناقد يمتلك «مطلق الحقيقة» في تعيير خطاب الأدب؟ هل نذهب مذهب عبدالقاهر الجرجاني إذْ نص على أننا أحيانا نقرأ نصا فنجد له أثرا في النفس وميلا وطلاوة وحلاوة فنفتش عن علة ذلك فلا نظفر بما به استحسنا هذا المقروء؟ لكل خطاب يستحسَن علة حسن وسبب تميز، لا يدركها بالضرورة القارئ العادي، ولكن وجب على القارئ العالم أن يقف عليها، ذلك أن لكل خطاب أدبي مستحسَن من فضيلة تحله هذا المحل أثرا في النفوس؟

لقد توجه شق مهم من النقد القديم إلى تأكيد هذا الأمر، يقول عبدالقاهر في هذا المعنى «جملة ما أردت أن أبينَه لك أنَه لا بدَ لكلَ كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكونَ لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلَة معقولة، وأن يكونَ لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل». ولبيان هذا الدليل نحتاج إلى مصباح هو المنهج، ولكن دون أن يكون المنهج سيفا مسلطا على خطاب الأدب، فهو أداة طيعة بها «يمكن» أن نستدل على ما به يختص خطاب ما، «عندما ندرس نصا «على ضوء» هذا المنهج أو ذاك، فإننا نعتقد -أو نفترض- أن النص غامض، مبهم، يكتنفه ليل كثيف دامس، وإلا فما الحاجة إلى الضوء؟ لكي لا نضل أو نحيد عن الجادة، فإننا نستعين بمصباح منهجي، كلمة «منهج» تتضمن العديد من المعاني اللغوية والثقافية: المسلك الواضح، الطريق المستقيم، السبيل البين المستوي، هكذا يتحول الدارس إلى مخلوق عجيب، إلى مشاء يقتحم الليل وفي يده سراج يستنير به» (كيليطو «الحكاية والتأويل)، هل نحتاج إلى هذا السراج؟ في ظني نعم نحتاج منهجا وعلما ودراية لنتنقل من منزلة القارئ العادي إلى منزلة القارئ العالم الذي يمكن أن يدلي برأيه في نص ما، والذي يمكن أن يكتشف في النص الأدبي مخابئ ومجاهل، ولكن وجب أن ندرك أنه رأي وإن تسلح بمنهج، ووجب أن نعلم أن هذا الناقد العالم لا يمتلك حقيقة تَعْيير الخطاب الأدبي، الخطاب الأدبي خارج عن دائرة التعيير، هو يمثل تفاعلا عجيبا بين أخلاط من مستويات التلقي، قد نستحسن رواية لأننا وجدنا أنفسنا فيها، أو لأنها أَرْضَت شواغلنا الفكرية، أو لأنها خاضت في همومنا الاجتماعية والسياسية والثقافية، أو لأنها أرضت الوصي على السلامة اللغوية فوجد فيها فصاحة وبلاغة، أو لأنها أرضت رجل الأخلاق، فلم يجد فيها ما يعري المجتمع، وما يكشف المستور، وتلقى منها قيما أخلاقية ونصحا وحكَما، إلى غير ذلك من إمكان القراء، ليست لدينا ذائقة موحدة، ولا بنية فكرية وتكوينا اجتماعيا جامعا، ومن حق كل هذه الجهات أن تستحسن نصا، وأن تشيد به وأن تعلي من قدره، حتى القارئ العالم هو في أغلب الأحيان مشحون الذهن بهذه المحددات القبْلية التي توجه موقفه من الخطاب الأدبي. اللذة هي الهدف الأساسي من التقاء قارئ بنص، فكيف يمكن أن أحكم على نص أنه جيد أو رديء إذا كنت أبتغي أن أجد فيه لذة منشودة، هي لذة مركَبة مما يحصل في إدراكي الظاهر والباطن، وفي ما يوجَد في هذا الخطاب من خيوط تنعش هذه اللذة الكامنة في، «إذا قبلت أن أحكم على نص ما حسب اللذة، فلا يمكنني أن أنساق إلى القول: هذا نص جيد وذاك نص رديء. فلا قائمة للجوائز، ولا نقد؛ لأن النقد يتضمن دائما هدفا تكتيكيا واستعمالا مجتمعيا، ويتضمن في أغلب الأحيان غطاء خياليا. إنني لا أستطيع أن أحدد ولا أن أتخيل مقدار قابلية النص للاتصاف بالكمال، أستطيع ذلك كما لا أستطيع أن أتصور النص مستعدا؛ لأن يدخل في لعبة المحمولات المعيارية: هذا مفرط وذاك غير كاف، ليس في وسع النص (شأن الصوت الذي يغني) أن ينتزع مني سوى الحكم التالي الذي ليس نعتا بأية حال: هو ذاك. وأكثر من ذلك أيضا: هو ذاك بالنسبة إلي. وعبارة «بالنسبة إلي» هذه ليست ذاتية ولا وجودية بل هي نيتشوية «إنه في العمق دائما نفس السؤال: وهذا بالنسبة إلي»» (بارط. لذة النص).