نساء بلا رجال
الاثنين / 13 / شعبان / 1444 هـ - 22:23 - الاثنين 6 مارس 2023 22:23
قبل عشرين سنة من الآن حين كان يحدث أن تزورني امرأة مصابة بالقلق أو الاكتئاب أو انعدام التأقلم الذي مردّه إلى الحياة الزوجية (والنساء كما هو مؤكد يصبن بالاكتئاب أكثر من الرجال)، فإن الحديث معظمه يدور حول محاولة الوصول إلى صيغة التقاء وتفاهم، وكنت أحيل المرأة بعد وضع خطة لعلاج ما لديها من مشكلة نفسية، إلى الاختصاصية الاجتماعية التي عادة ما تستدعي الزوج وتبدأ معهما جلسات علاج أسري. أما الآن، في وقتنا الراهن فإن نسبة معقولة ممن يُصبنَ بالقلق والاكتئاب وانعدام التأقلم الناتج عن الحياة الزوجية لا يدور حديثهن حول محاولة وضع صيغة مشتركة للحوار والتفاهم والتلاقي في نقط وسطيّة، بل يقفزن مباشرة إلى تصوّر الانفصال كحل أفضل؛ لم يعد الانفصال خيارا أخيرا بل تقدم ليحل مراتب أولى.
لقد تغيرت مفاهيم كثيرة في مجتمعاتنا فيما يخص النساء، وتغير وضع المرأة ككل من كونها زوجة خاضعة وابنة مطيعة وأخت ممتثلة إلى كونها شريكا مساويا وندا؛ إن لها عقلا وتبدو ذكية ويمكن أن يكون لها، بعد كل شيء، رأيٌ مخالف! وليس مرد هذا التغيير تعلّم المرأة وخروجها للعمل (بالمعنى الحديث وإلا فإن النساء كن يعملن منذ بداية التاريخ) واستقلالها المادي فحسب بل يعود أيضا إلى غلبة النظرة الفردانية (لدى المرأة والرجل) التي تغلّب نظرة الفرد وراحته وكيانه على قيم الأسرة وتماسكها. فما الذي تريده امرأة متعلمة عاملة مستقلة ماديا ومعنويا من رجل لا يهتم بأسرته ولا يحترمها ولا يقدّرها وربما يخونها أيضا؟ إن خلعه أمر أيسر بمراحل من تغييره!
إن أفكارا من قبيل «ظل رجل ولا ظل حيطة»، ومن قبيل «الرجال هم هكذا»، أو «طبيعة الرجل أن يخون»، أو «من حق الرجل أن يتزوج أخرى»، كل هذه الأفكار وما شابهها لم تعدْ من المسَلمات التي يجب على المرأة أن تخضع لها وتنصاع؛ قد لا يكون الذكر كالأنثى لكن المرأة كالرجل فيما يبدو! ولا يحدو المراقب شكٌ الآن، ولن ينفعه، أن المرأة يمكنها أن تتقلّد كل المناصب وتعمل أعمالا كانت محتكرة من قَبلُ من قِبل الرجال؛ فقد أثبتت التجربة العملية إمكانية ذلك وربما أفضليته في بعض الأحيان. إن لم تعجبكَ امرأتك طلّقها وتزوّجْ أخرى أو تزوجْ عليها؛ كان هذا ما يمكن أن يقوله رجل محنك مخضرم لفتى غرٍّ يعاني من صعوبة في الزواج، أما الآن فيمكن لامرأة محنكة مخضرمة بدورها أن تقول لفتاة غرّ تعاني من صعوبة في الزواج: إن لم يعجبكِ رجلك فاخلعيه وفكري ألف مرة قبل الدخول في تجربة جديدة!
إن المجتمع ليس كيانا ثابتا بل هو أقرب إلى أن يكون هلاما في حالة انسيابية؛ تتغير أفكاره ورؤاه وتحبيذاته ومناظيره للأمور كل آنٍ وحين: كان ذلك صحيحا في كل عصر وهو في عصرنا أصح وأوضح، ولعل عصرنا المنفتح قسرا على الآخر المختلف اجتماعيا وثقافيا زاد من هذه الانسيابية إلى درجة خطيرة تهدّد أحيانا بانعدام الاستقرار «النسبي» اللازم لحصول اجتماع بشري ملائم وفعّال؛ لم يعد هناك مصدر واحد للقواعد والمبادئ والأسس؛ إن القواعد والمبادئ والأسس الأخلاقية والاجتماعية ملقاة على قارعة الويب؛ لا تبعد إلا بمقدار ضغطة زر، ولا من محيص أن يلتقطها الباحث أو حتى أن تلتقطه!
لا يمكن توجيه خطاب ناقد لنَسويّة مثلا أو نَسويّ بالقول: دعنا نأخذ الأمر خطوة خطوة؛ كلّمينا أولا عن حقوق المرأة كما دعا لها رواد التنوير في الوطن العربي! إن رواد التنوير أنفسهم موضة قديمة؛ فهم يعودون إلى عقود قديمة سابقة، فما بالك بأفكار تعود إلى قرون طويلة سالفة. لا يمكن علاج عدم الاستقرار «النسبي» «اللازم» لحصول اجتماع فعّال بتقليل مصادر المعرفة، بأن نعود للأصول ونعود للتقاليد وإلى «الحق» الذي لا تخطئه العين ولا يحيد عنه إلا «ضال»؛ لقد انفتح صندوق باندورا على اتساعه وخرجت الشرور جميعها، ولعل «العلاج» هذا ليس ضروريا ولعل «عدم الاستقرار» بحد ذاته آلية فاعلة لتطور المجتمعات؛ لعلها فوضى خلاقة! وريثما يستقر هلام المجتمعات الانسيابي قليلا أو يرث الله الأرض ومن عليها، فلا بد من أن يتسلح الفرد بأدوات عقلية ومنطقية مختلفة تمكّنه من زرع الاستقرار في نفسه وفيمن حوله. لكنْ وفي الأثناء لا يمكنني إلا أن أحيل المرأة التي تقصدني لمشكلة نفسية مردها الحياة الزوجية، إلى الاختصاصية الأسرية؛ فلعلها (أي الاختصاصية) تجد نقاط تسوية بينهما أو لعلها هي الأخرى تغلّب الفراق والانعتاق!
د. حسين العبري روائي وطبيب نفسي
لقد تغيرت مفاهيم كثيرة في مجتمعاتنا فيما يخص النساء، وتغير وضع المرأة ككل من كونها زوجة خاضعة وابنة مطيعة وأخت ممتثلة إلى كونها شريكا مساويا وندا؛ إن لها عقلا وتبدو ذكية ويمكن أن يكون لها، بعد كل شيء، رأيٌ مخالف! وليس مرد هذا التغيير تعلّم المرأة وخروجها للعمل (بالمعنى الحديث وإلا فإن النساء كن يعملن منذ بداية التاريخ) واستقلالها المادي فحسب بل يعود أيضا إلى غلبة النظرة الفردانية (لدى المرأة والرجل) التي تغلّب نظرة الفرد وراحته وكيانه على قيم الأسرة وتماسكها. فما الذي تريده امرأة متعلمة عاملة مستقلة ماديا ومعنويا من رجل لا يهتم بأسرته ولا يحترمها ولا يقدّرها وربما يخونها أيضا؟ إن خلعه أمر أيسر بمراحل من تغييره!
إن أفكارا من قبيل «ظل رجل ولا ظل حيطة»، ومن قبيل «الرجال هم هكذا»، أو «طبيعة الرجل أن يخون»، أو «من حق الرجل أن يتزوج أخرى»، كل هذه الأفكار وما شابهها لم تعدْ من المسَلمات التي يجب على المرأة أن تخضع لها وتنصاع؛ قد لا يكون الذكر كالأنثى لكن المرأة كالرجل فيما يبدو! ولا يحدو المراقب شكٌ الآن، ولن ينفعه، أن المرأة يمكنها أن تتقلّد كل المناصب وتعمل أعمالا كانت محتكرة من قَبلُ من قِبل الرجال؛ فقد أثبتت التجربة العملية إمكانية ذلك وربما أفضليته في بعض الأحيان. إن لم تعجبكَ امرأتك طلّقها وتزوّجْ أخرى أو تزوجْ عليها؛ كان هذا ما يمكن أن يقوله رجل محنك مخضرم لفتى غرٍّ يعاني من صعوبة في الزواج، أما الآن فيمكن لامرأة محنكة مخضرمة بدورها أن تقول لفتاة غرّ تعاني من صعوبة في الزواج: إن لم يعجبكِ رجلك فاخلعيه وفكري ألف مرة قبل الدخول في تجربة جديدة!
إن المجتمع ليس كيانا ثابتا بل هو أقرب إلى أن يكون هلاما في حالة انسيابية؛ تتغير أفكاره ورؤاه وتحبيذاته ومناظيره للأمور كل آنٍ وحين: كان ذلك صحيحا في كل عصر وهو في عصرنا أصح وأوضح، ولعل عصرنا المنفتح قسرا على الآخر المختلف اجتماعيا وثقافيا زاد من هذه الانسيابية إلى درجة خطيرة تهدّد أحيانا بانعدام الاستقرار «النسبي» اللازم لحصول اجتماع بشري ملائم وفعّال؛ لم يعد هناك مصدر واحد للقواعد والمبادئ والأسس؛ إن القواعد والمبادئ والأسس الأخلاقية والاجتماعية ملقاة على قارعة الويب؛ لا تبعد إلا بمقدار ضغطة زر، ولا من محيص أن يلتقطها الباحث أو حتى أن تلتقطه!
لا يمكن توجيه خطاب ناقد لنَسويّة مثلا أو نَسويّ بالقول: دعنا نأخذ الأمر خطوة خطوة؛ كلّمينا أولا عن حقوق المرأة كما دعا لها رواد التنوير في الوطن العربي! إن رواد التنوير أنفسهم موضة قديمة؛ فهم يعودون إلى عقود قديمة سابقة، فما بالك بأفكار تعود إلى قرون طويلة سالفة. لا يمكن علاج عدم الاستقرار «النسبي» «اللازم» لحصول اجتماع فعّال بتقليل مصادر المعرفة، بأن نعود للأصول ونعود للتقاليد وإلى «الحق» الذي لا تخطئه العين ولا يحيد عنه إلا «ضال»؛ لقد انفتح صندوق باندورا على اتساعه وخرجت الشرور جميعها، ولعل «العلاج» هذا ليس ضروريا ولعل «عدم الاستقرار» بحد ذاته آلية فاعلة لتطور المجتمعات؛ لعلها فوضى خلاقة! وريثما يستقر هلام المجتمعات الانسيابي قليلا أو يرث الله الأرض ومن عليها، فلا بد من أن يتسلح الفرد بأدوات عقلية ومنطقية مختلفة تمكّنه من زرع الاستقرار في نفسه وفيمن حوله. لكنْ وفي الأثناء لا يمكنني إلا أن أحيل المرأة التي تقصدني لمشكلة نفسية مردها الحياة الزوجية، إلى الاختصاصية الأسرية؛ فلعلها (أي الاختصاصية) تجد نقاط تسوية بينهما أو لعلها هي الأخرى تغلّب الفراق والانعتاق!
د. حسين العبري روائي وطبيب نفسي