في تعليل الصداقة بالأدب.. والأدب بالصداقة
السبت / 11 / شعبان / 1444 هـ - 20:07 - السبت 4 مارس 2023 20:07
كان من حسن حظي أن أهتدي إلى غابرييل غارسيا ماركيز قبل سنوات قليلة فقط في مكتبة الأدب العالمي الهائلة التي تعجُّ بأهم كتَّاب النصف الثاني من القرن العشرين، ليصبح سيد «الواقعية السحرية» واحداً من أقرب كُتَّابي الأثيرين الذين ساعدني اكتشافهم من بين روائيي العالم في تصويب نظرتي الأدبية تجاه الأدب نفسه ومصادره ومشتقاته. فالصناعة الأدبية عند ماركيز، والتي تحدث تحت أي ظرف ممكن وفي أي بيئة دون أن تؤطر نفسها بحدود مكتبة المراجع ومنضدة الكتابة، لا تكف عن السعي الماكر واللاذع والعبقري في وقت معاً نحو ثورة أدبية داخلية مبلغُ طموحها تغيير الكتابة لصالح كتابة جديدة، مؤجلةً السؤال عن الأثر العملي والمباشر لفعل الكتابة في إعادة ترتيب قضايا وملفات الحياة العامة رغم انتمائها إلى مرحلة ثورية متقلبة المناخ السياسي، لكنها لم تعتمد في الوقت نفسه أي مرجعية أعلى أو أسمى من الحياة نفسها. وما علمتني إياه قراءة ماركيز أن للحياة مرادفات كثيرة يأتي في مقدمتها ذلك الإحساس العالي بالالتزام الحر الذي نسميه «الصداقة» والتي أصبحت بالنسبة لي أكثر أشكال العلاقات الإنسانية انتقائية وأقلها إكراها في هذا الوجود المؤقت.
وفي المقابل، قد تكون الكثير من الإخفاقات والأخطاء في عالم الكتابة هي في الأصل تداعٍ وامتداد آخر لخلل أو نقص موجود مسبقاً في حياة من يكتبون؛ كالافتقار لصديق حقيقي لا يمثل القارئ الأول لما نكتب فحسب، بل الناقد الأول كذلك. فبالرغم مما تحظى به أفكار من قبيل العزلة وابتكار الوحدة والزهد في العلاقات مع الآخرين من تقدير مبالغ فيه ومغالاة تذهب إلى حد «رَمنَسة» الوحدة في الأدب؛ إلا أن بقاء المرء لوحده لن يكون أمراً في صالح الأدب نفسه في كثير من الأحيان. فقد يحدث للمرء أن يكتشف في لحظة متأخرة من لحظات العبور بين الأدب والحياة كيف أنه قد ارتكب كتابةَ أكثر النصوص رداءة في حياته نتيجة لغياب هذا الصديق الذي كان عليه أن يَصدُقه النقد والقراءة والمشورة الفنية قبل أن يُصدِّقه أو يبادر بالتصفيق له. فالصداقة مع الشاعر أو الأديب هي نوع من «التكليف لا التشريف»، إن توخينا وصف الأمر بقليل من السخرية المطعمة ببلاغة شعبية اعتدنا بها أن نُشيِّع شخصية جديدة إلى منصب حكومي جديد.
في واقع الأمر فإن الباعث الرئيس وراء كتابة هذه السطور كان إجابةً تلقيتها من منى حبراس السليمية على سؤال وجهتُه لها عن ازدواجية الصداقة بين الأدب والحياة، عن التناوب والتبادل المثري والحيوي بين الأصدقاء والكتابة، وذلك على هامش حوارها الذي نظمه صالون فاطمة العلياني مساء الجمعة في 24 من فبراير الماضي، ضمن جلسات الصالون خلال الدورة الأخيرة لمعرض مسقط الدولي للكتاب. وقد أدارت الحوار الروائية العمانية هدى حمد، الصديقة التي تمثل بالنسبة لمنى تلك النافذة التي تُطل على عالميها المتجاورين: الأدب والحياة.
يمكن أن أكثف تلك الإجابة الشفوية التي عبَّرت عنها الكاتبة العمانية (الفائزة مؤخراً بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب) بالوقوف عند الصداقة كمرآة أصيلة وصادقة لتجلي الذات الكاتبة أمام جمهورها الأول المكوَّن من عائلة الأصدقاء المنتقاة بعناية، والتي تقف على عاتقها واحدة من أهم مسؤوليات الصداقة الأدبية؛ وهي النقد الذي يتطلب في المقابل جسارة اللجوء إلى مساحة بيضاء من الحياد الموضوعي حيث يتسنى للصديق أن يتعامل مع لغة الصديق في النص بشكل أكثر استقلالاً وحرية بعيداً عن الضغط الذي تمارسه الذاكرة المشتركة والروابط العاطفية بينهما.
وبالرجوع إلى المقالة التي تكتبها منى، وهي مجال فوزها بجائزة السلطان قابوس، سيكون بوسعنا كقراء أن نعثر على معنى أن تكون شبكة العلاقات الإنسانية مركزاً لشجون الكتابة، مُوحية للفكرة ومحركة للتفاصيل اليومية التي لا يمكن أن تحيا فينا أو أن نحيا من خلالها دون وصلها بشجرة متفرعة من الأسماء التي يتقاسم الكاتب معها القسط اليومي والعادي والمألوف من طعم الحياة، وهذا بالضبط ما نلاحظه كسمة شائعة في مقالة منى.
هكذا تُعلل الصداقة الأدب كما يعلل الأدب الصداقة، وجهان لعملة واحدة كما يصفهما ماركيز في سيرته الأدبية «عشتُ لأروي» المليئة بالحانات والمقاهي وبالأصدقاء، الكثير من الأصدقاء الأحياء والأموات طبعا. وعُملة ماركيز هي العملة النادرة كما يراها أبو حيان التوحيدي في «رسالة الصداقة والصديق» إذ يقول عن صداقة الكُتَّاب: «أما الكتَّاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس والتحاسد والتماري والتماحك فربما صحَّت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل».
سالم الرحبي شاعر وكاتب
وفي المقابل، قد تكون الكثير من الإخفاقات والأخطاء في عالم الكتابة هي في الأصل تداعٍ وامتداد آخر لخلل أو نقص موجود مسبقاً في حياة من يكتبون؛ كالافتقار لصديق حقيقي لا يمثل القارئ الأول لما نكتب فحسب، بل الناقد الأول كذلك. فبالرغم مما تحظى به أفكار من قبيل العزلة وابتكار الوحدة والزهد في العلاقات مع الآخرين من تقدير مبالغ فيه ومغالاة تذهب إلى حد «رَمنَسة» الوحدة في الأدب؛ إلا أن بقاء المرء لوحده لن يكون أمراً في صالح الأدب نفسه في كثير من الأحيان. فقد يحدث للمرء أن يكتشف في لحظة متأخرة من لحظات العبور بين الأدب والحياة كيف أنه قد ارتكب كتابةَ أكثر النصوص رداءة في حياته نتيجة لغياب هذا الصديق الذي كان عليه أن يَصدُقه النقد والقراءة والمشورة الفنية قبل أن يُصدِّقه أو يبادر بالتصفيق له. فالصداقة مع الشاعر أو الأديب هي نوع من «التكليف لا التشريف»، إن توخينا وصف الأمر بقليل من السخرية المطعمة ببلاغة شعبية اعتدنا بها أن نُشيِّع شخصية جديدة إلى منصب حكومي جديد.
في واقع الأمر فإن الباعث الرئيس وراء كتابة هذه السطور كان إجابةً تلقيتها من منى حبراس السليمية على سؤال وجهتُه لها عن ازدواجية الصداقة بين الأدب والحياة، عن التناوب والتبادل المثري والحيوي بين الأصدقاء والكتابة، وذلك على هامش حوارها الذي نظمه صالون فاطمة العلياني مساء الجمعة في 24 من فبراير الماضي، ضمن جلسات الصالون خلال الدورة الأخيرة لمعرض مسقط الدولي للكتاب. وقد أدارت الحوار الروائية العمانية هدى حمد، الصديقة التي تمثل بالنسبة لمنى تلك النافذة التي تُطل على عالميها المتجاورين: الأدب والحياة.
يمكن أن أكثف تلك الإجابة الشفوية التي عبَّرت عنها الكاتبة العمانية (الفائزة مؤخراً بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب) بالوقوف عند الصداقة كمرآة أصيلة وصادقة لتجلي الذات الكاتبة أمام جمهورها الأول المكوَّن من عائلة الأصدقاء المنتقاة بعناية، والتي تقف على عاتقها واحدة من أهم مسؤوليات الصداقة الأدبية؛ وهي النقد الذي يتطلب في المقابل جسارة اللجوء إلى مساحة بيضاء من الحياد الموضوعي حيث يتسنى للصديق أن يتعامل مع لغة الصديق في النص بشكل أكثر استقلالاً وحرية بعيداً عن الضغط الذي تمارسه الذاكرة المشتركة والروابط العاطفية بينهما.
وبالرجوع إلى المقالة التي تكتبها منى، وهي مجال فوزها بجائزة السلطان قابوس، سيكون بوسعنا كقراء أن نعثر على معنى أن تكون شبكة العلاقات الإنسانية مركزاً لشجون الكتابة، مُوحية للفكرة ومحركة للتفاصيل اليومية التي لا يمكن أن تحيا فينا أو أن نحيا من خلالها دون وصلها بشجرة متفرعة من الأسماء التي يتقاسم الكاتب معها القسط اليومي والعادي والمألوف من طعم الحياة، وهذا بالضبط ما نلاحظه كسمة شائعة في مقالة منى.
هكذا تُعلل الصداقة الأدب كما يعلل الأدب الصداقة، وجهان لعملة واحدة كما يصفهما ماركيز في سيرته الأدبية «عشتُ لأروي» المليئة بالحانات والمقاهي وبالأصدقاء، الكثير من الأصدقاء الأحياء والأموات طبعا. وعُملة ماركيز هي العملة النادرة كما يراها أبو حيان التوحيدي في «رسالة الصداقة والصديق» إذ يقول عن صداقة الكُتَّاب: «أما الكتَّاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس والتحاسد والتماري والتماحك فربما صحَّت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل».
سالم الرحبي شاعر وكاتب