أفكار وآراء

السياق الاجتماعي للتعليم المهني والتقني

في سياق علم الاجتماع، فإن مساءلة (القيمة الاجتماعية) للتعليم يمكن أن تكون من خلال فعالية المؤسسات التعليمية في أداء (الوظائف الظاهرة) و (الوظائف الكامنة) كما ترد في النظرية الاجتماعية. فالوظائف الظاهرة هي تلك النتائج (المخرجات) المباشرة التي يتوقعها المجتمع من المؤسسات التعليمية؛ كأداء أدوارها في التنشئة الاجتماعية من خلال نقل الثقافة، وتطبيع الفرد بالقيم والتوقعات الاجتماعية المرغوبة، وتهيئته للأدوار المجتمعية المتوقعة. أما الوظائف الكامنة؛ فهي تلك التي تنتج من خلال طبيعة التفاعل مع النظام التعليمي بشكل عام، سواء من خلال التفاعل والفاعلية في المجتمع المدرسي أو الأكاديمي، أو من خلال المفاهيم (غير المخططة) التي تنشأ نتيجة انتظام الفرد في الشبكات والعلاقات والتكوينات داخل النظام التعليمي. تكوين الآراء السائدة، والعمل والتأثر بمجموعات معينة، وتبني وجهات نظر تعكس التفاعل داخل النظام كلها نتائج لتلك الوظائف الكامنة التي يؤديها النظام التعليمي. وفي المجمل فإن قدرة النظام على أداء الوظائف الظاهرة والكامنة بطريقة تتفاعل مع حقيقة الواقع الاجتماعي هو الذي يكسب أي نظام تعليمي (القيمة الاجتماعية).

ولذلك يبدو الحديث عن (القيمة الاجتماعية) للتعليم حديث شائك؛ ذلك أن المداخل التي تستخدم لتشخيص تلك القيمة تتعدد؛ حيث يرى البعض (الإطار الكلي) من خلال رصد ما يقوله الناس ويشعرون به تجاه أدوار المؤسسة التعليمية، ويرصده البعض من خلال جدواه الاقتصادية في تتبع مسار مخرجاته ومدى قدرتها على أداء الشغل، والالتحاق بمؤسسات العمل وتطوير مستويات الإنتاجية، واستيفاء معايير البيئات الاقتصادية التنافسية. يقيس البعض الآخر تلك القيمة الاجتماعية من خلال تطور مستويات الالتحاق والتسرب من مجمل النظم التعليمية، فيما يذهب آخرون لتشخيص القيمة الاجتماعية من خلال مساءلة المعايير القيمية لدى الدارسين ورصد الظواهر التي تنشأ داخل النظام التعليمي وعلاقتها بالمجتمع. وتبقى كل تلك المداخل مؤشرات أولية لتشخيص تلك القيمة. غير أن ما نتبناه هو أن النظام التعليمي - رغم مركزيته - في هياكل أي مجتمع؛ إلا أنه لا يستطيع تخليق تلك القيمة في معزل عن السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي السائد، ذلك أن كل هذا السياق من شأنه أن (يموضع) التعليم وأهميته ومغزاه ومؤداه ضمن نطاق الخارطة الاجتماعية للقيمة.

ونعتقد أن أحد التدخلات التي من شأنها تعضيد (القيمة الاجتماعية) للتعليم هو الاتجاه الوطني الأخير باعتماد مسارات للتلمذة المهنية، من خلال إقرار سلم دراسي جديد وخطة دراسية وطنية جديدة لتمكين طلبة طلبة الصفين الحادي عشر والثاني عشر من اختيار مسارات تعليمية ضمن مجموعة من المجالات المهنية والتقنية، من ضمنها تخصصات هندسية وصناعية. إضافة إلى إعادة النظر في طبيعة وهيكل المعارف والعمليات للمراحل الدراسية السابقة. والاتجاه نحو تعزيز مسارات وخيارات التلمذة المهنية أصبح اليوم اتجاهًا عالميًا؛ فحسب إحصاءات الـ OECD لعام 2020 ففي المتوسط فإن واحد من كل ثلاثة طلاب من المرحلة الإعدادية إلى المرحلة الجامعية ملتحق في برنامج للتعليم والتدريب المهني (في دول المنظمة). تتفاوت هذه النسب بين البلدان بين أقل من 20٪ من الطلاب في البرازيل وكولومبيا وليتوانيا إلى أكثر من 40٪ في أستراليا والنمسا وبلجيكا وفنلندا وسلوفينيا. ومن بين المؤشرات التي تشير إليها تحليلات المنظمة أيضًا أن الشباب الحاصلون على تعليم مهني ثانوي يتمتعون بتوظيف ممتاز وعوائد مادية (لاحقة)، أعلى بكثير من أولئك الذين لديهم مؤهلات عامة، على سبيل المثال، في (آيسلندا والنرويج والسويد) لديها أعلى معدلات توظيف للشباب الحاصلين على مؤهل مهني ثانوي أعلى، وجميعها تزيد عن 90٪ من مجمل المخرجات.

يوفر التعليم المهني والتقني عددًا من العوائد على الدارسين وأسواق الشغل والاقتصادات عمومًا، مثل تنويع خارطة المهارات، والحد من الأدوار الضبابية في اكتساب المعرفة، ومواكبة أنماط التعلم المتعدد (الرسمي وغير الرسمي)، وتكوين الدارسين ليكونوا فاعلين اقتصاديين بمهارات عالمية، عوضًا عن تواكب المخرجات مع النماذج الإنتاجية والاقتصادية التي تحتاج إليها البلد. كما يوفر إطارًا أوضح للشراكات بين مؤسسات الإنتاج وبين مؤسسات التعليم، ويتيح فرصًا أكبر لتعزيز الابتكار داخل الدورة الإنتاجية والاقتصادية. هذا عوضًا عن أن برامج التعليم المهني والتقني في مجملها أكثر مرونة لاكتساب المتغيرات الطارئة وأنماط التلمذة والتعلم من غيرها من الأنظمة العامة. إلا أن ما يعنينا هنا في علاقة هذه الأنظمة بالقيمة الاجتماعية أنها سوف تسهم في حلحلة أمرين أساسيين: أولهما: الافتراق بين طبيعة مخرجات التعليم وأسواق العمل، بما يسبب تضاعفًا لنسب التعطيل والبطالة، وما ينجم عنها من إفرازات اجتماعية وسياسية. أما السياق الآخر فهو تعزيز دور التعليم في بناء الإنتاجية الاقتصادية، وبالتالي أداء أحد وظائفه (الظاهرة) في تحريك الفرد ضمن منظومة (الحراك الطبقي الاجتماعي). وبالعودة إلى المؤشرات المقارنة للـ OECD فإن الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و 64 عامًا الحاصلين على تعليم ثانوي مهني لديهم مستويات بطالة أقل (7.3٪ كمتوسط في دول OECD) من أولئك الذين لديهم ثانوية عامة (7.9٪ كمتوسط).

سيكون هذا الاتجاه واعدًا - بلا شك - ولكن نعتقد أن هناك عنصرين أساسيين يجب أن يكونا متطلبين للمرحلة المقبلة، أولهما الربط المباشر بين أنظمة التعليم المقررة (التلمذة المهنية) بخط واضح مع مؤسسات الإنتاج، ورسم خارطة دقيقة للفرص والاحتياجات، والإعلان عن البرامج المتخصصة، التي نعتقد أنها يجب أن تكون «ابتكارية تنافسية»، بحيث تكون مخرجات هذا النمط من التعليم قيمة ابتكارية مضافة للاقتصاد الوطني. أما ثاني المتطلبات فهو حشد الوعي المجتمعي بطبيعة/ تفاصيل/ أهمية هذا النمط من أنماط التعليم. فرحلة بناء الوعي في كثير من الدول أخذت حيزًا زمنيًا معتبرًا لتحفيز مشاركة الطلبة في هذه الأنظمة. وهو ما يستوجب في تقديرنا البدء من هذه اللحظة دون تأنٍ.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان