أفكار وآراء

القوة الناعمة للكتاب

تُعد الثقافة مصدر القوة والتميُّز التي تحافظ عليها المجتمعات، وتؤسس عن طريقها نظاما متكاملا يتطوَّر بتطوُّر فكر الأفراد وقدرتهم على فهم متطلبات المراحل التنموية التي تمر بها بلدانهم، ولهذا فإن النظام الثقافي قادر على صناعة هذه القوة، وتشكيل مسارها، بحيث تكون مؤثرة على المجالات التنموية، وقادرة على تغيير أدواتها لتستطيع الانتشار والمنافسة.

إن قوة التأثير التي تؤسسها الثقافة أو ما يسمى بـ (القوة الناعمة)، يتميز بالتغيير والمرونة، ولهذا فإن العمل على تمكين مجالات هذه القوة، وقدرتها على التأثير في الآخر، يجب أن يسير وفق خطة أو استراتيجية واضحة، تُعظِّم من خلالها قوة الهُوية الوطنية والأخلاقية للدولة، والتاريخ الثقافي والحضاري، وكذلك القوى المتعلقة بالتعليم والعلاقات الخارجية، وأهمية الموقع الجغرافي، إضافة إلى الحوكمة والإعلام وتأثيره على المستوى الاقتصادي وجذب الاستثمارات الخارجية.

ولعل من بين المجالات الثقافية التي تشكِّل القوة الناعمة للدولة هو (الكتاب) وبالتالي (المعرفة)؛ فالكتاب باعتباره قوة معرفية ذات بُعد حضاري وثقافي متنامي، يقدِّم صورة حقيقية لتلك القدرة للقوة الناعمة التي تبثها المجتمعات نحو الآخر، فتؤثر فيهم معرفيا وفكريا، وفي الكثير من الأحيان تؤثر في بناء أو تغيير الصور الذهنية التي يُشكِّلها الآخر عن تلك المجتمعات، ولهذا فإن الإنتاج الفكري يقدِّم قوة مؤثرة، قادرة على الجذب والتأثير إذا ما تم الاستثمار فيه باعتباره قوة ناعمة.

ولقد قدَّم معرض مسقط الدولي للكتاب في نسخته (27) نموذجا مهما لهذه القوة؛ حيث شارك فيه - حسب موقع المعرض - عدد (826) دار نشر ومكتبة من عدد كبير من دول العالم، الأمر الذي جعل منه بيئة خصبة لتبادل الفكر والمعرفة من ناحية، وتقديم آفاق جديدة لرؤى هذه القوة، وقدرتها على التأثير في الآخر من ناحية ثانية، فقد أثبت الكتاب العُماني من بين ما يقارب (533063) إصدارا تم عرضها في المعرض، أنه قادر على تقديم نفسه باعتباره (قوة) مؤثرة في الآخر؛ حيث نجد الكثير من زوار المعرض يبحثون عن دور النشر العمانية، يستطلعون جديدها، ويقرأون ما قُدِّم وما كُتب عن عمان وفي عمان (تاريخا، وفكرا، وتدوينا، وشعرا و رواية وغير ذلك).

إن القوة الناعمة التي يقدمها الكتاب العُماني، قادرة على التأثير لأنه يعكس الثقافة العمانية والهُوية الحضارية التي يتميز بها التنوع الثقافي في عمان، ولهذا فإن تمكين الكتاب ودور النشر وتعظيم دورها التنموي، إضافة إلى الاستثمار في ترجمة الكتاب العماني ونشره وتسويقه في الخارج، سيمكِّن الدولة من تعزيز دور القوة الناعمة في التأثير في الآخر وبالتالي جذب الاستثمارات. إن قدرة الكتاب والفكر والنص الأدبي قائمة على مدى وصوله للآخر، ومدى إيماننا بهذه القدرة التي تمثل قوة حقيقية إذا أحسنَّا التعامل معها، وقدمناها بما يليق بها وبعُمان.

قبل أيام قليلة صدر (المؤشر العالمي للقوة الناعمة 2023)، عن مؤسسة براند فيننس؛ حيث يبدأ التقرير ببيان أهمية القوة الناعمة باعتبارها قوة جذب قادرة على تعزيز التنمية الاقتصادية والازدهار التنموي؛ إذ يمكن للدول الاستفادة من هذه القوة في جذب الاستثمار الأجنبي، وتعزيز التجارة والسياحة، وتهيئة البيئة للمواهب الإبداعية والابتكار، مما يفتح آفاق بناء عالم (أكثر سلاما وازدهارا وعدلا) للمجتمع نفسه ولعلاقته مع المجتمعات الأخرى في العالم، بما ينعكس على تنميته الاقتصادية.

لقد برز في المؤشر لهذا العام إضافة إلى الثقافة والتعليم والحوكمة باعتبارها ركائز أساسية، استبدال ركيزة (كوفيد 19) بـتدابير المستقبل المستدام، وحماية البيئة، والمساهمة في العمل المناخي العالمي، واستثمارات الطاقة والتكنولوجيا الخضراء، والمدن المستدامة والنقل، كما تمت إضافة (الاستثمارات في استكشافات الفضاء) إلى ركيزة التعليم والعلوم، ولهذا فإن المؤشر يقدِّم سعة في قدرة القوة الناعمة المعتمدة على الاستثمارات والعمل المؤسسي المستدام، القائم على خدمة البيئة والمجتمع، ليكون قوة جاذبة للاستثمار الأجنبي؛ ذلك لأن هذه الركائز تعبِّر عن القدرة التنافسية المعتمدة على بنية الدولة واستدامتها وبالتالي قيمة (علامتها التجارية) وقدرتها على تطويرها باعتبارها قوة ناعمة.

ولأن (الألفة تدعم التأثير)، فإن المؤشر يركِّز على قدرة الألفة على التأثير في الآخر إذا ما تم تسويقها وإبرازها بالشكل المطلوب؛ ذلك لأن السمات الإيجابية التي تتميَّز بها الدول لابد أن يصحبها تعريف وتسويق وإعلام بارز خارجيا، لكي يتكوَّن التأثير الجاذب، وبالتالي فإن الألفة والتسامح الداخلي لا يكفي لتأسيس قوة بل تسويق ذلك وتشكيل (السمعة) الإيجابية الجاذبة هو الدافع للقوة والمعزِّز لتأثيرها خارجيا، فإذا كان للسمعة الجيدة تأثيرا فإن هذا يعني تحقيق هدف القوة الناعمة، لذا فإن وسائل الإعلام سواء أكانت مكتوبة أو سمعية أو مرئية تقدم تصوراتها عن ثقافة الدولة وحضارتها ومجالات قوتها الناعمة الأخرى وفقا لما تراه من منظور إعلامي فكري تنموي من ناحية، وسياساتها الإعلامية من ناحية أخرى، فتأثير هذا المنظور سينعكس على جماهيره محليا وعالميا، وبالتالي قدرته على جذب هذه الجماهير وبث المصداقية والموثوقية فيهم، والذي سينعكس بدوره على جذب الاستثمار في الدولة بناء على قدرة إعلامها على الإقناع والتأثير الإيجابي.

لقد تقدمت سلطنة عُمان في المؤشر العالمي للقوة الناعمة للعام 2023 ثلاث مراتب لتكون في المرتبة (46) عالميا من بين (121) دولة؛ فهي ما زالت من بين الخمسين دولة التي تقود القوة الناعمة على مستوى العالم ، وهذا التقدم يسير منذ العام 2021 في وتيرة متصاعدة بسبب الاهتمام الكبير الذي تحظى به الثقافة وقيم التسامح والتفاهم والعلاقات الخارجية، والحوكمة وغيرها من ركائز التقرير، التي تنظر إلى هذه القوة باعتبارها قادرة على التأثير في الآخر وجذبه للسياحة والاستثمار، ولهذا فإن عُمان تميَّزت في المؤشر بارتفاع ركائز قيم التسامح والأخلاق، مما يعكس التركيز على الاستثمار في هذه القيم وتسويقها بوصفها قوة ناعمة جاذبة.

وعلى الرغم من هذا التقدم الذي تحرزه عُمان سنويا في المؤشر إلاَّ أن مرتبتها ما زالت لا تلبي الطموح التنموي الذي تسعى إليه الرؤية الوطنية عمان 2040 من خلال محاورها المتعددة، ولهذا فإننا نحتاج إلى قفزة مؤثرة، تعكس الواقع الثقافي والحضاري، والاستفادة من الممكنات التي تتميَّز بها عمان، وقدرة هذه الممكنات على الجذب والتأثير في الآخر المستثمر والسائح؛ فعُمان تمتلك من المقومات ما يمكن استثماره ودعمه لتعظيم أثره باعتباره قوة ناعمة، ولهذا فإن الاستثمار في الثقافة والفكر والنشر والترجمة من ناحية، والصناعات الإبداعية والعلاقات الخارجية، والتعليم، إضافة إلى استدامة البيئة من ناحية أخرى، سيكون له الأثر الكبير في تعزيز هذه المكانة ودفع قوة الاستثمار الخارجي في الدولة، وهذا ما يقرُّه تقرير المؤشر صراحة من أن (التاريخ) قد أثَّر في مرتبة المملكة المتحدة وكان واحدا من أهم أسباب حصولها على المرتبة الثانية، إضافة إلى احتفائها بالثقافة والتراث وقدرتها على استحضارهما إعلاميا، والتركيز على ماضي المملكة وحضارتها.

عليه فإن الاستثمار في الثقافة والتاريخ العماني، إضافة إلى الاستثمار في الإعلام الثقافي يشكل جوهر القوة الناعمة، القادرة على تعزيز مكانة الدولة اقتصاديا، خاصة مع التطورات التقنية الهائلة التي تُسهم مباشرة في دعم هذه الاستثمارات وتيسِّر قدرتها في الوصول والانتشار، وبالتالي فإن تمكين الكتاب والنشر والترجمة سيكون أحد أهم مجالات استثمار القوة الناعمة التي تفتح آفاق المستقبل للشباب العماني من ناحية، وتكشف فرص الاستثمار العماني للمستثمر الأجنبي من ناحية أخرى.

إن الكتاب يمثِّل كشفا لثقافتنا وقيمنا وأخلاقنا باعتباره قوة ناعمة جاذبة ومؤثرة في الآخر، ولعل تظاهرة مثل المعرض الدولي للكتاب يُعد فضاء واسعا لتسويق القوة الناعمة لعُمان؛ فهو ليس سوقا للكتاب وحسب بل ساحة واسعة للتواصل الدولي، وبناء علاقات واسعة، إضافة إلى دوره في عرض الفنون والتراث والفكر من خلال الفعاليات والمناقشات والحوارات المختلفة التي يشارك فيها مجموعة كبيرة من كُتَّاب العالم ومثقفيه. إنه قوة ناعمة قادرة على التأثير والجذب السياحي وبالتالي علينا تمكينه أكثر لجذب الاستثمارات، وقياس أثره الاقتصادي.

لقد كان لمعرض مسقط الدولي للكتاب في نسخته 27 أثرا إيجابيا من حيث التنظيم وفرص المشاركة الدولية، وتيسير التعامل بين المشاركين والجماهير، إضافة إلى التنوع الثقافي والفكري الذي صاحب المعرض، بما أسهم في تعزيز أثر القوة الناعمة على الجمهور والمشارك على حد سواء، والذي ظهر في توافد الزوار من الدول العربية خاصة فيما يُعرف بسياحة المؤتمرات.

إن مرتكزات القوة الناعمة في عُمان واسعة وليس علينا سوى تعظيم قيمتها وتمكينها بما يحقق الأهداف الاقتصادية المرجوة، فلنسع جميعا للمساهمة في تحقيق تلك الأهداف.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة